العراق – حرب أهلية من انتاج السياسات الامبريالية - 2014

Print
ترجمة

* * * * * * * * * *

من مجلة النضال الطبقي الشهرية

26 يونيو 2014

إن ما يحل بالعراق لكارثة حقيقية. البلد مهدد بالتفكك. والهجوم الذي بدأته الميليشيات السنية الأصولية، الدولة الإسلامية في العراق والشام -داعش- في كانون الثاني في غرب البلاد تسارع يوم 10 يونيو بسيطرتها على الموصل، المدينة الثانية في البلاد مع مليوني نسمة، وهي عاصمة محافظة نينوى. واستمر الهجوم في اليوم التالي باتجاه العاصمة. تمكنت داعش بالفعل في النهاية من تشكيل إقليم سني تحت سيطرتها يمتد من جانبي الحدود العراقية-السورية. وبمواجهة هذه الميليشيات التي تفرض سيطرتها بواسطة الإرهاب، انهارت القوات المسلحة العراقية فتكشف الضوء عن هشاشة السلطة المركزية الموروثة من الاحتلال الامبريالي. ويبدو أن منطقة الحكم الذاتي في كردستان العراق تحاول الاستفادة من هذا الانهيار لإعلان استقلالها. وفي هذا الوقت بدأت الميليشيات الشيعية المتمركزة في بغداد وجنوب العراق بالاستعداد لمقاومة زحف الميليشيات السنية. العراق ليس فقط مهدد بالانهيار بل إنه قد يغرق في حرب مع عواقب لا يمكن حسبانها تزعزع الاستقرار في المنطقة برمتها.

القادة الإمبرياليون قلقون الآن أمام خطر زعزعة الاستقرار الذي يهدد الأرباح التي تجبيها شركاتهم من المنطقة. فبعد الاشارة الى امكانية استخدام القصف الجوي، بدأت الولايات المتحدة كما أعلن أوباما بالنظر في إمكانية الاعتماد على مساعدة إيران، فبدأت بالتلويح بإمكانية تقديم تنازلات لها إذا تكلفت بالقيام بمهمة استعادة الاستقرار في المنطقة. ولكن إيران بدت غير راغبة في التعاون بهذه السهولة. وفي يوم 24 يونيو، كانت المسألة لا تتعدى امكانية إرسال "مستشارين" عسكريين.

وهي القوى الامبريالية التي تتحمل المسؤولية عن هذا الوضع الكارثي الناتج عن محاولاتها العديدة لفرض سيطرتها على هذا الجزء من العالم، وخاصة لضمان السيطرة على الموارد النفطية. من الواضح اليوم أن القوى المختلفة التي أنتجها عقود من التدخلات الامبريالية، الأمريكية بشكل خاص، قد أصبحت خارجة عن سيطرتها.

داعش تشن هجومها

منذ اكثر من عام ومقاتلوا داعش يوالون الهجمات ضد القوات الحكومية في محافظة الأنبار، في غرب البلاد، من التفجيرات الانتحارية واحتجاز الرهائن وارتكاب أسوأ الفظائع. في يناير الماضي سيطروا على الفلوجة والرمادي وهي مدن سنية في هذه المحافظة تضمان على التوالي 320000 و 400000 نسمة. وقد سهل هذا الانتصار بلا شك عداء بعض المواطنين السنة للحكومة الفاسدة التي ترأسها نوري المالكي المتهم بتعزيز مصالح السكان الشيعة والأكراد على حسابهم، وكذلك اليأس الذي يصيب شريحة بأكملها من السكان، ولا سيما الشباب، المحرومون من أي أفق مستقبلي بسبب الانهيار الاقتصادي للبلد.

وداعش هي عبارة عن ميليشيا سنية أصولية، أنشئت عام 2003 بعد الغزو الامريكي للعراق، وهي تهدف باسم الشريعة إلى إقامة خلافة اسلامية من جانبي الحدود مع سوريا. وأمام التقدم السريع لداعش فر ضباط وجنود الجيش العراقي بشكل جماعي، وهم ليس لديهم أي دافع للمخاطرة بحياتهم للدفاع عن الحكومة المركزية، ذلك خاصة أن الكثير منهم قد تجند في الجيش هروبا من الفقر ليس إلا.

ويجد السكان المدنيون أنفسهم مرة جديدة عالقين ما بين قوات بغداد والميليشيات. وتشير التقديرات إلى أن الاشتباكات التي وقعت في الأشهر الأخيرة أجبرت 500000 نسمة في محافظة الأنبار (نحو الثلث) على الفرار من مناطق القتال. خلال شهر مايو وحده، سقط ما لا يقل عن الألف قتيل، ثلاثة أرباعهم في هجمات إرهابية والباقي في العمليات العسكرية. وذلك يأتي بعد العام 2013 الاكثر دموية منذ الذروة التي تم بلوغها في عام 2006 و2007 في ظل الاحتلال الأمريكي.

عندما أعلن أوباما في ديسمبر 2011 عن أن القوات الامريكية سوف تشد الرحال من العراق بعد تسع سنوات من الحرب والاحتلال، ، تفاخر بأن أميركا تركت دولة مستقرة وديمقراطية ذات سيادة. نرى اليوم حقيقة هذا الكلام.

دور الإمبريالية، من حرب إيران والعراق إلى غزو العراق

إن الميليشيات على تنوعها، من داعش التي تزعم تمثيل الأقلية السنية إلى تلك التي تدعي تمثيل الشيعة، لم يكن لها أن ترى النور لولا مهدت الإمبريالية لها الطريق عبر العمل على تفعيل الانقسامات داخل الشعب العراقي بهدف فرض هيمنتها.

لا شك أن العراق، الذي فبركته الإمبريالية البريطانية أبان تفكك الامبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ليس متجانس التكوين أبدا مع ال54٪ من العرب الشيعة، و22٪ من العرب السنة و24٪ من الأكراد وهم معظمهم من السنة. ولكن هذا الاختلافات لم تمنع يوما مختلف الشعوب من العيش معا دون حصول أي حرب أهلية لأكثر من 80 عاما، ذلك حتى إلى أن قامت القوى الإمبريالية باستخدام العراق كورقة في لعبتهم في المنطقة.

فبعد عام 1979 وسقوط شاه إيران الذي كان يلعب دور الركيزة للامبريالية في المنطقة منذ أكثر من ربع قرن، وجهت الإمبريالية صدام حسين لمعاقبة نظام الملالي الإيراني الجديد لتجرؤه الاستيلاء على السلطة من دون موافقتها. فكانت ثماني سنوات من الحرب الدامية بين البلدين بين عامي 1980 و1988 خلفت المليون قتيل وقادت العراق الى حافة الخراب. وإنه لخلال هذه الحرب أن قام صدام حسين، تخوفا من استياء الشيعة العراقيين من الحرب ضد إيران الشيعية، إلى الاعتماد على الأقلية السنية .

في ذلك الوقت، كان صدام حسين رجل الإمبريالية الأمريكية والفرنسية في المنطقة. ولكن في عام 1990، قام صدام حسين بخطأ في نظرهم عندما أقدم على غزو الكويت كاسترداد ثمن الخدمة التي قدمها للدول الامبريالية بحربه ضد إيران. اختار قادة الإمبريالية عدم التسامح مع ما كان ليبدو كبادرة تحدي ومظهرا من مظاهر الاستقلال ضدهم. فشن التحالف بقيادة الولايات المتحدة، بما في ذلك فرنسا، حرب الخليج الأولى في عام 1991 فأجبر صدام حسين على إخلاء الكويت. ألا أنه رغم الهزيمة استمر صدام حسين بقيادة السلطة إذ أن واشنطن بقيت تعول عليه لإخضاع السكان الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال الذين ثاروا عليه. ولكن القمع أزاد من عمق الفجوة القائمة بين هذا القسم من الشعب والنظام.

ثم جاءت عشر سنوات من حظر قامت به الدول الغربية والذي تسبب بموت نصف مليون طفل عراقي ناهيك عن أثره المدمر على المستوى الاجتماعي. وبهدف توطيد سلطته المتضائلة بسبب الحصار، قام صدام حسين بسلسلة تنازلات لرجال الدين، السنة بشكل خاص.

ثمن الاحتلال الامبريالي

ومع ذلك، أرادت الإمبريالية الأمريكية تسوية المشكلة العراقية بشكل نهائي. كان المراد فرض السيطرة الكاملة على المنطقة الغنية بالنفط، لكنها أيضا أرادت إعادة تأكيد هيمنتها على المنطقة لتنبيه الانظمة للمصير الذي قد تؤول إليه في حال طمحت بالخروج عن تباعيتها لأميركا.

فالأجواء السياسية التي خلقتها هجمات 11 سبتمبر 2001 أعطت للرئيس الامريكي جورج الحجة للقيام بهذه المناورة. وسمحت الاكاذيب حول وجود أسلحة دمار شامل وقوات خاصة لتنظيم القاعدة في العراق لبدأ حرب جديدة.

وفي 20 مارس 2003، بلغت الصواريخ الأمريكية بغداد صمن العملية التي سميت بوقاحة ب"الحرية للعراق". وبعد شهر واحد من بدء الهجوم، في نيسان 2003، تمت الإطاحة بصدام حسين. وفي مايو، أعلن الرئيس الأمريكي انتهاء العمليات القتالية في العراق.

ثم بدأ الاحتلال الذي حصل على تأييد الأمم المتحدة لكن الحرب استمرت ثماني سنوات أخرى. وغيرت القوات الأنجلو-أمريكية اسمها فأصبحت "القوة المتعددة الجنسيات" التي تحتل العراق بناء على طلب الحكومة العراقية المؤقتة... التي قاموا هم بتعيينها.

ولكن الاحتلال الأمريكي لم يتمكن أبدا من فرض نفسه بشكل فعلي. فإن تبشر بعض العراقيون خيرا بسقوط نظام صدام حسين، إلا أن أوهامهم تبخرت بسرعة بعد ذلك. فحلت الكراهية للاحتلال الأمريكي بسرعة مما تسبب بانفجارات غضب شعبي. وقمعت الثورات، كما حصل في الفلوجة في عام 2004 عندما اتكب الجيش الأمريكي المجازر بالسكان المتمردين السنة مما تسبب في تدفق كبير من اللاجئين الى سوريا المجاورة.

تصاعد الميليشيات

وبحلول يوليو عام 2003، ترأست الولايات المتحدة إنشاء مجلس للحكومة الانتقالية الهادف لتشكيل حلقة وصل بين قوات الاحتلال والسكان. فتكون هذا المجلس من جميع القوى المناهضة للنظام القديم. فإلى جانب بعض المسؤولين السابقين العائدين من المنفى، كانت هناك الأحزاب الشيعية الدينية، كحزب الدعوة، على الرغم من أنه كان على لائحة المنظمات الإرهابية، أو المجلس الأعلى للثورة الإسلامية المدعوم من قبل إيران. كما تضمن أيضا أحزابا سنية وكردية وتركمانيى، وكذلك أحزاب علمانية وحتى الحزب الشيوعي العراقي.

ولكن الوضع لم يستقر وذلك لسبب بسيط: فأركان النظام من الجيش وحزب البعث قد انهارت وقام الحاكم الأمريكي بول بريمر بالقضاء عن ما تبقى فحل الجيش وجهاز الأمن وقام بحظ حزب البعث.

والفراغ الذي خلفه تدمير قوات الاحتلال لجهاز دولة صدام حسين والصراع على السلطة الذي تلاه قد أديا إلى تطور الميليشيات على أسس دينية وعرقية. بعضها، مثل الميليشيات الكردية البيشمركة و المجلس الأعلى الإسلامي العراقي (الشيعي) كاتا قد تأسسا بالسر في زمن صدام حسين. أم المليشيات الاخرى فقد تشكلت على أثر الكراهية التي أثارتها قوات الاحتلال بين السكان.

كانت كل هذه الميليشيات تستخدم نفس الأساليب - الاساليب الإرهابية - لتنقية "أراضيهم" من العناصر "الخارجية" تحت ذريعة حماية الجزء من السكان الذي يزعمون تمثيل مصالحهم، ولكن في الواقع كانوا يقومون بهذا بهدف نشر الخوف في صفوف السكان. وهذا كله بهدف فرض سيطرتهم الميدانية لتسهيل تصدرهم للسلطة على المستوى المحلي أو الوطني. وهكذا تمكنت ميليشيا الزعيم الشيعي الاصولي مقتدى الصدر، مع أعضاؤها ال60000، من التجذر بقوة في حي مدينة الصدر الفقير في بغداد وفي مدينتي كربلاء والنجف جنوب العاصمة.

لكن الصراعات بين هذه الميليشيات ما لبثت أن تحولت إلى حرب أهلية حقيقية، وخاصة بين السنة والشيعة، بينما أنه في ظل نظام صدام حسين، أحد الانظمة الأكثر علمانية في العالم العربي، كان التعايش سائدا بين هاتين الطائفتين.

وسياسة سلطات الاحتلال جعلت الامور اكثر سوءا. فبمحاولتها لاستعادة الاستقرار وفي الوقت نفسه الاحتماء من القوى السنية المرتبطة بالنظام القديم، قامت بتكوين أجهزة الدولة الجديدة من قبل الميليشيات الشيعية الدينية والبشمركة الكردية.

فتم تهميش الاقلية السنية في مؤسسات الدولة الجديدة وكذلك في المؤسسات السياسية، فمنذ انتخابات كانون الأول 2005 كان يسيطر على هذه المؤسسات ائتلاف من عدة أحزاب شيعية وكردية، برئاسة رئيس الوزراء نوري المالكي، وهو الرقم اثنين في حزب الدعوة الشيعي. وبسبب التناحر الداخلي بين الفرقاء، أصبحت الحكومات المتعاقبة شبه معطلة وفقدت صيتها بسبب الإهمال والفساد.

هذا العام، وفي محاولة لاستعادة الشعبية في انتخابات 30 أبريل، الاولى منذ رحيل الجيش الأمريكي، استعاد المالكي سلاح التقسيم عبر القيام بسلسلة اعتقالات بين السياسيين السنة. لكن هذه المرة، ورغم تصدره نتائج الاقتراع، الا انه لم يحصل إلا على 92 مقعدا فقط من أصل 328 مقعد. فلم تؤدي هذه الممارسات السياسية بالنهاية إلا الى زيادة الغضب لدى الاقلية السنية.

العراق مهدد بالتفكك

وهناك حنكة أخرى استعملتها قوات الاحتلال بهدف إعادة بعض الظواهر السليمة كالفيدرالية المنصوص عليها في الدستور العراقي لعام 2005. فقامت بمحاولة لتحييد الفصائل المتناحرة وذلك بوعدها بإمكانية انتقاء أماكن تمركزها مع إمكانية إعادة توزيع الأرباح النفطية في بعض الحالات. ولكن هذه السياسة أدت إلى نتيجة عكس ما كان مرجو.

فالمنطقة الكردية في شمال البلاد كانت أصلا تتمتع باستقلالية حتى قبل غزو عام 2003. فقام دستور عام 2005 بترسيخ هذه الاستقلالية ولكنه ترك العديد من المسائل غير محلولة بين حكومة الحكم الذاتي الكردية والحكومة المركزية. فعلى سبيل المثال، ارتفع التوتر مرات عدة عندما قامت السلطات الكردية بتسويق موارد الطاقة دون المرور عبر بغداد. ثم هناك مسألة السيطرة على الموصل وكركوك، المليئتان بالنفط، وهي مسألة يبدو أن الزعماء الأكراد قد حلوها على طريقتهم عبر الاستفادة من انهيار قوات بغداد بمواجهة هجوم داعش. فالاكراد تمكنوا، بفضل ال250000 مقاتل المجهزين بمدرعات، بصد هجوم داعش في الشمال وقاموا باحتلال كركوك يوم 12 يونيو. يبقى أن نرى أية ردة فعل سوف يطرح هذا التوسع للمنطقة الكردية من قبل بغداد ومن قبل الميليشيات الطامعة بنفط كركوك.

وفي أجزاء أخرى كثيرة من العراق، بدأت الحكومات المحلية وبعض الأحزاب بالتفكير بحذو حذو الاكراد. كما هو الحال مثلا في محافظة البصرة، في جنوب العراق، التي يهيمن على حكومتها المحلية حزب الفضيلة، الشيعي المتشدد. وقد قال أحد قادة هذا الحزب في عام 2007: "نحن، كحزب الفضيلة، نريد أن نجعل من محافظة البصرة منطقتنا. لدينا مليونا نسمة ومطار وميناء ونفط، أي كل ما نحتاج لأن نكون دولة. "

إذن قبل مغادرتها للعراق، قامت القوى الإمبريالية بتشجيع تطور هذه القوى الانفصالية التي، بحكم عدم قدرتها السيطرة على الحكومة المركزية، سوف تستغل أول فرصة للمطالبة بجزء لها من البلاد. ويمكن لها استغلال انهيار السلطة المركزية لاحتلال الاراضي التي تختارها الامر الذي يزيد من خطر قيام حرب أهلية وانهيار العراق، الأمر الذي لن يأتي بأي شيء حسن على الشعب العراقي.

إلى زعزعة استقرار المنطقة بأكملها

الحرب الأهلية التي تتطور في العراق ليست سوى أحدث حلقة في أزمة تهدد المنطقة برمتها بسبب سياسة القوى الامبريالية.

خلال احتلال العراق، وهروب الجماعات الأصولية السنية العراقية إلى سورية لعبت دورا هاما في عودة ظهور هذا الاتجاه في بلد حيث كان قد اختفى تقريبا بعد أن سحقت من قبل نظام بشار الأسد. مظاهرات شعبية في أوائل عام 2011 تؤدي في النهاية إلى حرب بين الزمر العسكرية، الذي قدم مؤامرة تجنيد وتدريب الميليشيات السنية الأصولية كما السورية. لمنع حدوث انهيار دكتاتورية الأسد، والتي يمكن أن تكون خطيرة في هذا البلد على الحدود مع مجلة أخرى هي فلسطين، الإمبريالية يختار عدم التدخل مباشرة. لكنه لم يفشل أن أغتنم هذه الفرصة لمحاولة إضعاف النظام السوري ما يكفي لجعلها أكثر ليونة، وخصوصا ترك حلفائها الإقليميين توريد الأسلحة إلى الميليشيات الأصولية السنية.

اليوم ونحن نشهد رد فعل عنيف حقيقي. الميليشيات السنية العراقية، التي صدرت يوم أمس في سوريا، وعززت في الحرب ضد الأسد، وأخيرا العودة عبر الحدود. انهم هم الذين بدأوا زعزعة استقرار الحدود من الأنبار العراقية المنطقة قبل شن هجومها باتجاه محافظة نينوى وخارجها، ضد السلطة في بغداد.

الأزمة الحالية من الواضح الطابع الإقليمي. لا أحد يستطيع أن يقول على وجه اليقين حتى الآن ما سيكون عليه عواقب الحرب الأهلية في العراق، وعلى وجه الخصوص، ما إذا كان سيؤدي إلى انهيار البلاد. ولكن لا يزال أكثر من ذلك بقليل زعزعة استقرار منطقة يعصف به العديد من الصراعات في سوريا ولبنان، وفلسطين. محاولات القوى الامبريالية لفرض سيطرتهم من شأنها أن تطلق العنان لقوى لا يمكن السيطرة عليها على نحو متزايد.

الأرباح تستمر رغم الفوضى

لا الحرب الأهلية ولا انعدام الأمن في السنوات الأخيرة لم يمنعا الشركات الإمبريالية من احكام السيطرة على البترول العراقي، حتى لو أنه في وقت كتابة هذا المقال أصبحت مصفاة بيجي، وهي الاكبر في البلاد، محل مواجهة بين ميليشيا داعش والقوات الحكومية.

وإنه في سبيل حماية مصالح هذه الشركات قام الجيش الأمريكي، بعد انسحابه من العراق في ديسمبر كانون الاول 2011، بترك 35000 من المرتزقة وسفارة أمريكية في بغداد، الأكبر في العالم مع ما لا يقل عن ال 17000 موظف. فإن غرق العراق في الفوضى، ذلك ليس له أن يمنع "كبار" شركات النفط والبنوك الكبرى التي تدعمهم من جني الفوائد التي تأملوها من جراء التدخل الإمبريالي الذي سمح لهم بوضع يدهم على حصة أكبر بكثير من إنتاج النفط العراقي.

لكن مع كل هذا سبب انعدام الأمن في السنوات الأخيرة بعض المشاكل لسير الأعمال وإن دون أن يمنع الشركات من مواصلة جني الأرباح كبيرة من هذه الفوضى. من الواضح أن التزايد الذي نشهده للحرب الأهلية ممكن أن يطرح صعوبات أكبر بشكل يهدد البنية التحتية للانتاج والتصدير ويمنع أموال النفط من إثراء المستثمرين الغربيين.

ولا يزال الشعب يدفع الثمن باهظا

لقد دفع الشعب العراقي ثمنا باهظا للسياسة الإمبريالية، ولا يزال. وأصبح تدهور الوضع الامني في البلاد الخطر الأكبر على السكان الذين يمكن أن يلاقوا حتفهم جراء أي هجوم انتحاري أو أي عملية عسكرية.

وقد أدت سنوات الحرب والاحتلال بما يقارب الخمسة ملايين عراقي إلى الفرار سواء خارج العراق - في سوريا بشكل خاص، ولكن أيضا في الأردن وتركيا ولبنان - أو في داخله. ويكتظ القسم الاكبر من النازحين في الداخل في ما يقارب ال400 مخيم لا تتوفر فيها المياه ولا الصرف الصحي الملائم ولا أي رعاية طبية ولا حتى التموينات الغذائية.

أما العراقيون الذين فروا إلى البلدان المجاورة فليس لهم أمل كبير في الحصول على تصريح بالإقامة والحصول على عمل. أما أولئك الذين هم في سوريا، فمع تصاعد العنف هناك أصبحوا مضطرين على البحث عن مأوى جديد مرة أخرى.

ويشكل النفط 65٪ من الناتج المحلي الإجمالي العراقي و 90٪ من دخل البلاد. انه يجلب بالتأكيد المال الوفير للدولة ولكن لا شيء على الاطلاق للطبقات الشعبية ذلك خصوصا بسبب فساد الدولة. والبطالة تطال ما لا يقل عن نصف العمال العراقيين. وأولئك الذين لديهم وظائف يعانون من الطابع غير المستقر للوظائف وتدني الأجور وارتفاع الأسعار.

وقد اندلعت حراكات الغضب بشكل دوري، فكما كان الحال خلال عام 2011 مع عمال النفط في نضالهم ضد تدني الأجور ولدفع الحوافز أو في سبيل الحصول على التوظيف الثابت. "نحن من ينتج ثروة هذا البلد التي تذهب إلى جيوب المسؤولين والنواب. إننا كالجمال التي تحمل الذهب وتأكل الشوك"، كان هذا قول أحد ممثلي نقابة عمال النفط والغاز كركوك خلال إحدى المظاهرات.

ويواجه السكان يوميا نقص المياه والكهرباء. وحينما تتجاوز درجات الحرارة ال40 درجة مئوية لا يعد هناك امكانية لتشغيل الثلاجة ولا الهواءات. وشبكة المياه العامة في بغداد أصبحت شبه معطلة. أما النظام الصحي، فبالرغم من أنه كان من بين الأكثر تطورا في الشرق الأوسط في السنوات 1970-1980، طاله انهيار كارثي. ففي المناطق الأكثر حرمانا في بغداد نشهد عودة حالات الكوليرا والسل.

ولكن هذا التقهقر يذهب أبعد من الظروف المادية. فأصبح لرجال الدين تأثيرا متزايدا حتى أنهم يشرفون على حياة الناس اليومية، في حين تواصل الميليشيات بفرض قوانينها. وذهب التيار السياسي للزعيم الشيعي المتشدد مقتدى الصدر حتى التدخل في وزارة التربية والتعليم للتأثير على مضمون البرامج المدرسية بشكل يهيمن على الشباب.

و يطال هذا التدهور الاجتماعي، المادي والمعنوي، النساء بشكل خاص. فمنذ الستينيات، تتمتع العراقيات، بالمقارنة مع بلدان أخرى في الشرق الأوسط، بقدر أكبر بقليل من الحرية. ولكن مع تدخل الميليشيات الأصولية في شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية، فقدت النساء تقريبا جميع حقوقهن. فبالنسبة للمرأة العراقية، أكثر من بقية المجتمع، أدى التدخل الإمبريالي إلى الرجوع نصف قرن إلى الوراء.

فلتسقط الإمبريالية!

إن الحرب التي شنتها الإمبريالية لتعزيز هيمنتها في المنطقة حولت هذه الاخيرة إلى برميل بارود. فعلى مدى عقود تدخلت الإمبريالية في الشرق الأدنى والشرق الأوسط بدأ من تقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وتقسيمها بين فرنسا وبريطانيا، إلى الهيمنة التدريجية للولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية. فالروابط التاريخية التي تجمع العالم العربي كان يمكن أن تكون أساسا لكيان سياسي واقتصادي واسع النطاق بإمكانه الحد من سياسة النهب من قبل القوى الامبريالية. لهذا كان من مصلحة هذه القوى القيام بتقسيم المنطقة في سبيل تسهيل الهيمنة على ثرواتها. فتم تنفيذ هذه السياسة بشكل عميق إلى درجة أن الدول المفبركة بعد الحرب العالمية الأولى أصبحت الآن نفسها أما خطر التفكك. فالحرب الأهلية في سوريا والعراق تهدد الدول المجاورة كلبنان والأردن، مع خطر امتداد داعش إليها. وحتى جميع البلدان الأخرى في المنطقة استقرارها مهدد، ناهيك عن الاشتباكات الدورية والحروب التي تحصل منذ أكثر من ستين عاما بين دولة إسرائيل والفلسطينيين.

إن الفوضى التي أنشأتها الإمبريالية الأمريكية تهدد الآن المنطقة برمتها. وتشاطر الولايات المتحدة هذه المسؤولية مع البلدان الامبريالية الأخرى كبريطانيا العظمى وفرنسا. وحتى ولو عارضت هذه الاخيرة العملية العسكرية التي قام بها جورج بوش في عام 2003، فإنها قد شاركت في عملية تفكيك أوصال الشرق الأوسط.

إن نظام الهيمنة الإمبريالية المبني على الاستغلال والحرب ودماء الشعوب يؤدي إلى همجية نرى في الشرق الأوسط نموذجا رهيبا عنها. إن الانقلاب على النظام الامبريالي ضرورة للبشرية جمعاء.