"المفاوضات" حول الدين اليوناني: قادة الإمبريالية يفرضون قوانينهم - 2015

Imprimir
ترجمة

من مجلة النضال الطبقي رقم 169 (يوليو- أغسطس 2015)

كتب النص في 25 يونيو 2015

* * * * * * * *

عند كتابة هذا المقال، لم يتم التوصل بعد إلى اتفاق بين ممثلي الحكومة اليونانية ودائنيها. فالاجتماعات ما زالت تتواصل، والمفاوضون والمعلقون لا يزالوا يلوحون بامكانية عندم إيفاء اليونان لديونها. فإذا لم يتم ضخ مساعدة مالية جديدة، فاليونان لن تتمكن من تسديد ال1.6 مليار يورو التي يتوجب عليها دفعها لصندوق النقد الدولي في 30 يونيو. "لا مساعدات من دون إصلاحات"، أي من دون خطة تقشف جديدة: هذا هو الابتزاز الذي يمارسه كتاب العدل التابعين للنظام الرأسمالي الدولي وكذلك لصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي واللجنة الأوروبي.

إن المقترحات التي قدمتها الحكوة اليونانية في 22 يونيو في اجتماع مجموعة اليورو، أي وزراء مالية منطقة اليورو، تدل على أن رئيس الوزراء تسيبراس أصبح على وشك الاستسلام لمطالب المؤسسات البرجوازية الدولية، ذلك بعد مقاومة دامت لمدة خمسة أشهر. فهذه المقترحات تتضمن زيادة الضريبة على القيمة المضافة وإصلاح نظام التقاعد مع تراجع بعض المعاشات وتأجيل سن التقاعد تدريجيا إلى ال67 عاما وإلغاء نظام التقاعد المبكر. لا تزال هذه المقترحات قيد التفاوض والتعديل، ولكنها في الواقع عبارة بالفعل عن خطة تقشفية جديدة يوافق تسيبراس على تنفيذها.

ذلك مع أن تسيبراس قد انتخب بهدف إدانة خطط التقشف التي فرضت على الحكومات السابقة. لكن في اليونان، كما في غيرها من الدول، يسخر القادة الإمبرياليون من نتائج الانتخابات، "التعبير الديمقراطي عن الإرادة الشعبية" بحسب ما يهوى سياسيو البرجوازية تسميتها. فسياستهم يفرضونها بالقوة، دون التكلف باظهار أي احترام للسيادة الوطنية للدول الصغيرة، ناهيك عن الظروف المعيشية لشعوبها.

وهكذا، سوف يستمر العمال والبرجوازية الصغيرة في اليونان، كما العاطلون عن العمل والمتقاعدون، بدفع الاموال إلى صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي بهدف تسديد القروض التي كان النظام المصرفي قد قام بتسليفها للدولة اليونانية في الماضي. فالبنوك قامت بتكبيل الدولة اليونلنية بمنظومة ديون وضعت في السنوات التي تلت الأزمة المالية لعام 2008. فكان في حينها من المسموح للحكومة اليونانية الاقتراض على هواها. بالنسبة للبنوك، كان شراء سندات الحكومية يعتبر كاستثمار آمن بحكم أن اليونان تشكل جزءا من منطقة اليورو. وهكذا قام الممولون بتحريض اليونان على استلاف الاموال وذلك خاصة أنها، وبحكم "التضامن" بين دول منطقة اليورو، كان لا بد لها من التمكن تسديد الديون.

وإذ بهذا الأمل يتبخر الآن! الحقيقة أن وراء التضامن الأوروبي يوجد تعارض بين مصالح الدول. فالدول الإمبريالية الغنية لا ترغب قط ضمانة ديون اليونان.

وقد كانت أزمة منطقة اليورو في فترة 2010-2011 قد أثبتت أن إقراض اليونان ليس أمرا مضمونا كما الحال مع إقراض ألمانيا أو فرنسا، على الرغم من أن العملة هي ذاتها. فصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي قد هبا لإنقاذ البنوك العالقة بالديون اليونانية عبر شراء أوراقها المالية. وإن وجد أصحاب البنوك حينها أنفسهم مجبرين على القبول بإجراء خسم لديون اليونان، إلا أنهم، وبفضل هذه العملية تمكنوا من إنقاذ أموالهم وحتى جني الربح، تاركين للحكومات والمؤسسات الأوروبية عبء معالجة مسألة هذه الديون.

منذ ذلك الحين وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية تكرر على الشعب اليوناني، بشكل دومي لا يخلو من الازدراء، بأن "الديون يجب أن تدفع". وباسم هذا المبدأ، فرضت هذه المؤسسات سياسة تقشف صارمة ومتفاقمة على الحكومات اليونانية المتعاقبة. واستمرت بتطبيق هذه السياسة إلى حد الخروج عن المنطق لأنها دفعت بالاقتصاد اليوناني إلى الركود والدخول في دوامة فقر لا متنهاية، الأمر الذي اضطر الحكومة اليونانية إلى تكريس كل مواردها لسداد مستحقات الدائنين لها.

سياسة تسيبراس بمواجهة الإمبريالية

إن وراء الوعود التي قطعها تسيبراس على الناخبين، والتي هي وعود متواضعة للغاية فيما يخص الأجور والمعاشات، يوجد رفض سيريزا على أن يتم التعامل مع اليونان وكأنها شبه مستعمرة تحت وصاية القوى الامبريالية الأوروبية.

فهذه العلاقة بين اليونان والقوى الامبريالية في أوروبا الغربية تعيد تذكيرنا بأن الدول التي تشكل الاتحاد الأوروبي ليست متساوية فيما بينها. فعلى الرغم من واجهتها الديمقراطية، فهي تستجيب لنفس النوع من العلاقات التي تميز العالم الامبريالي كله. فالقرارات المتخذة هي ليست نتيجة "العمليات الديمقراطية" بل نتيجة موازين القوى : فتفرض البرجوازيات الاكثر ثراء إملاءاتها على الدول الأضعف منها.

في الماضي، جسد العديد من قادة الدول الفقيرة سياسات مقاومة بمواجهة القوى الإمبريالية. وقد أظهر القسم الاكبر منهم تصميما أكبر مقارنة مع تسيبراس: ففي كوبا، ظل نظام كاسترو متحديا الولايات المتحدة لأكثر من خمسين عاما. وفي مصر، تجرأ عبد الناصر على تأميم قناة السويس دون أن يتخوف من مواجهة التدخل العسكري. ومؤخرا كذلك قام نظام شافيز في فنزويلا. وغالبا ما حظي هؤلاء القادة الوطنيون بدعم الطبقات المستغلة في بلادهم. ففي نظر هؤلاء، تشكل مكفاحة الإمبريالية عن حق نضالا لاستعادة كرامتهم. فمن أقله من هذا المنظور، يمكن للشيوعيين الثوريين أن يشعروا بالتضامن مع هذا الشكل من المعارضة للإمبريالية.

لكن الدفاع عن السيادة والكرامة الوطنية، مهما كانت جسارته، لا يعني الدفاع عن مصالح الطبقات المستغلة. والدليل على ذلك أن عبد الناصر كان قادرا على التوفيق بين معارضته للإمبريالية، البريطانية والفرنسية بشكل خاص، والقمع ضد الطبقة العاملة المصرية.

سياسة تسيبراس تجاه الطبقات الشعبية

في نطاق رغبته التخفيف من قبضة المؤسسات الدولية التابعة للبرجوازيات الإمبريالية، أظهر تسيبراس عن استعداد للقيام بسياسة أبوية تجاه الطبقات المستغلة. هل كان تسيبراس صادقا عندما وعد الناخبين بأنه سوف يزيد الحد الأدنى للأجور أو انه سيدافع عن المعاشات التقاعدية ؟ ربما نعم. لكنه، مع ذلك، لا يمثل المصالح المادية للطبقات المستغلة، ولا السياسية بشكل خاص. وهو حتى لم يدعي ذلك.

بعد الانتخابات التي وضعت سيريزا على رئاسة الحكومة، الأمر الذي أظهر مدى غضب الناخبين ضد سياسات التقشف المملاة على البلاد، قامت القوى الامبريالية ببعض المسايرات لاخفاء وحشية تدخلاتها.

فقبلت بالاستغناء عن مصطلحي "الترويكا" و"المذكرات" الذان كان يثير اشمئزاز الشعب اليوناني. مع ذلك، جاءت المقولة القبيحة لكريستين لاغارد، الوزيرة الفرنسية السابقة والمديرة الحالية لصندوق النقد الدولي، بأنها مستعدة للتفاوض ولكن فقط مع أشخاص بالغين، لتظهر مدى محدودية هذه المسايرات.

ولكن مباشرة بعد الحصول على هذه التنازلات الرمزية، كان على تسيبراس أن يظهر خضوعه. هذا هو معنى البيان الذي فرض عليه عقب اجتماع وزراء مالية منطقة اليورو، في 20 فبراير، والذي أعلنت فيه الحكومة اليونانية الاعتراف بالالتزامات المحددة في خطة المساعدات المتفاوض عليها في عام 2012. وهكذا ذهب حتى إلى الموافقة على قائمة تدابير تعهد باتخاذها مقابل تأجيل موعد تسديد دفعة الديون المتوجبة أواخر فبراير، لمدة أربعة أشهر إضافية. كما كان عليه أن يتعهد بعدم اتخاذ أي إجراء أحادي الجانب، وأن يؤمن "التمويل الكامل" لأي تدابير جديدة. فكان هذا بمثابة الركوع أمام وصاية بروكسل المالية.

لكن على الرغم من معارضة بروكسل، قام تسيبراس بسن قانون لمكافحة الأزمة الإنسانية يتضمن، بين تدابير أخرى، إعادة توفير الكهرباء لأكثر السكان فقرا مع ضمان ما يصل إلى ال300 كيلو واط ساعة من الكهرباء مجانا قبل نهاية العام، وكذلك المساعدات الغذائية والقيام برفع معاشات بدل التقاعد الصغيرة. ذلك في حين تم تأجيل رفع الحد الأدنى للأجور، الذي كان ضمن وعوده الانتخابية، إلى عام 2016. وكان الأمر سيان بما يخص استعادة قوانين العمل السابقة ومعاشات الشهر ال13. كما استمر السريان بالضريبة على الأراضي التي أدخلتها حكومة اليمين السابقة والتي كان سيريزا قد التزم بإلغائها.

من تراجع إلى آخر، إنتهى تسيبراس بإعلان استعداده لفرض تضحيات جديدة على السكان. بالمقارنة مع أسلافه، يمكنه التباهي بأنه قد حاول أن يضع حدودا وخطوطا حمراء. أما القادة الأوروبيون من ناحيتهم فهم يحاولون، عبر المفاوضات الدائرة حاليا، بتوضيح سياسيتهم تجاه الشعوب. فبإجبارهم تسيبراس على الخضوع يبرهنون عن استحالة عصيان أوامرهم وعن وهن محاولات التفلت من وصايتهم.

لكن القادة السياسيين التابعين للبرجوازية الاوروبية يعلمون ان تسيبراس هو من فصيلهم. فوإن كان لديه بعض الهبات وبعض القابلية للاستماع لضغوط الشعب عليه، لكنه يبقى من سياسيي البرجوازية! فهو يشاركهم التخوف من خطر خروج اليونان من منطقة اليورو الذي قد يتسبب بأزمة مالية اوروبية لا يمكن السيطرة عليها. ومن القواسم المشتركة معهم أيضا هو أن تسيبراس يضع نفسه ضمن إطار النظام الرأسمالي وقوانينه التي ليست إلا قوانين الغاب.

البرجوازية اليونانية لا تزال بمنأى عن سياسة التقشف

منذ البدء، تصرف تسيبراس كرئيس حكومة مسؤولة تجاه البرجوازية اليونانية، رافضا إجبارها على المشاركة في "التضامن الوطني" باقتصاص الاموال من أرباحها.

من بين الإجراءات التي أعلن عنها في المفاوضات الحالية هناك حديث عن فرض ضريبة على السلع الكمالية وعلى المداخيل 500 الاكثر ثراء من اليونانيين. لكن هذه الإجراءات يمكن في بعض الأحيان العثور عليها ضمن سياسات الحكومات الإمبريالية مثل فرنسا. فوإن قام وزراء سيريزا بالتنديد بالذين يغشون على الضرائب وأولئك الذين يفتحون حسابات في سويسرا بهدف التهرب من دفعها، إلا إنهم اكتفوا بالوعد بتطبيق العفو لمن يقوم بإعادة توطين أمواله، ملتهمين بذلك مما تم تتبيقه في فرنسا وغيرها من الدول، مع الفعالية المحدودة التي نعرفها لهكذا مراسيم عندما يتم الاتكال على حسن نوايا الطبقات الثرية.

لقد رفضت حكومة تسيبراس فرض تضحيات جدية على البرجوازية اليونانية والطبقات الأكثر ثراء في حين أنه كان يمكنها، أمام الدعم الشعبي القوي الذي حظيت به، محاولة ذلك، أقلها بهدف تخفيف حدة الظروف المعيشية السيئة التي تعيشها الطبقات الشعبية.

فهكذا لم يتم إعادة النظر بالإعفاء الضريبي الذي يتمتع به ملاكوا السفن اليونانيين في حين انهم يراكمون ثروات كبيرة ويملكون الأسطول الأول في العالم من ناحية الحمولة. والأمر سيان بالنسبة للإعفاء الضريبي الذي تتمتع به الكنيسة اليونانية. وفي حين أنه منذ عدة أيام يتم تحويل المليارات من البنوك اليونانية إلى الخارج، لم يتم إدخال أي ضوابط على رؤوس الأموال. أن العديد من الدول التي واجهت في الماضي أزمات مالية قد تمكنت من تطبيق مثل هذا التدبير، وهذه الدول لم تكن ثورية بأي شكل.

كل الخيارات التي قام بها تسيبراس تبين على أنه من نفس طينة ممثلي العالم الإمبريالي. وهؤلاء، باستثناء الأكثر غباء أو الأكثر ازدراء منهم، لم يغضبوا من المقاومة التي أبداها تسيبراس في المفاوضات. فهم يعرفون أن المشكلة الحقيقية ليست بتسيبراس ولا بسيريزا، ولكن بردود الفعل المحتملة لدى الأغلبية المستغلة من السكان الذين سوف يضطرون على تحمل التكاليف. ففي نهاية الأمر، لربما أن تصلح هذه المقاومة التي أبداها تسيبراس لتبييض صورته متحجا بالقول : "لقد استسلمنا، لكننا فعلنا كل ما بوسعنا".

هل أن المقتنعون من بين الطبقات العاملة بهذا الخطاب سوف يشكلون الأغلبية؟ أم، على العكس من ذلك، هل سوف يشكل تقاعس تسيبراس وتنازلاته أمرا غير مقبولا، فيثبت بذلك للمستغلين بأنهم لا يمكنه الاتكال على الحكومة لتحقيق خلاصهم، وإن ادعت هذه الحكومة انتماءها إلى يسار اليسار التقليدي ؟

هل سوف تؤدي سياسة تسيبراس إلى بث اليأس لدى الطبقات المستغلة أم أنها سوف تغذي غضبهم؟ سوف نرى ذلك مع الوقت. لكن حتى ولو أن الغضب سوف يعم لدى الطبقات الشعبية، لا بد من ظهور تنظيم سياسي قادر على تجسيد هذا المسار، أي أن يكون قادرا، ليس على محاربة سياسة التقشف لدى البرجوازية، بل على الكفاح لإسقاط البرجوازية نفسها، سواء اليونانية أو الدولية.