150 سنة على كومونة باريس عام 1871
حلقة ليون تروتسكي – باريس في 18 مارس / آذار 2021
ماركس والكومونة
قبل مائة وخمسين عاما، جسدت كومونة باريس، خلال فترة وجودها القصيرة، آمال الطبقة العاملة. نود أن نحتفل بذكراها من خلال تذكر الدروس المستقاة منها من قبل ماركس وإنجلز وبعدهما لينين وتروتسكي.
تشكل كومونة باريس حدثا أساسيا من وجهة نظر الحركة العمالية، لأنه ولأول مرة في التاريخ، ولمدة شهرين، من مارس إلى مايو 1871، مارست البروليتاريا السلطة في باريس والتي بلغ عدد سكانها آنذاك ما يقرب المليوني نسمة.
وكان ماركس قد رأى فيها، على الفور، تجربة تاريخية ذات مغزى هائل، وخطوة حقيقية كبيرة إلى الأمام، في النضال الطبقي للبروليتاريا، وذات "أهمية أكبر بكثير، كما أضاف لينين، من مئات البرامج والحجج". على الرغم من أنه قد تم قمعها بلا رحمة، كانت الكومونة علامة فارقة في تاريخ الحركة العمالية من حيث إرشادها على طريق الثورة الاجتماعية. والبيان الشيوعي، الذي كان قد كتب عام 1848، كان قد برهن نظريا الحاجة إلى دكتاتورية البروليتاريا. لكن ماركس وإنجلز لم يحاولا تحديد الشكل الملموس الذي سوف تتخذه السلطة العمالية. كانت طريقتهم العلمية والمادية قائمة على التجربة الحقيقية للنضالات الطبقية في الماضي وكذلك على تجربة البروليتاريا في الحاضر آنذاك. من وجهة النظر هذه، شكلت كومونة باريس تقدما هائلا مكنهم من توضيح أفكارهم حول الدولة العمالية.
ولدت الكومونة بعد أشهر قليلة من إعلان الجمهورية الثالثة في فرنسا، على أنقاض إمبراطورية نابليون الثالث. لم تكن الجمهورية تعني نفس الشيء بالنسبة للبروليتاريين والبرجوازية. فالبروليتاريون كانوا يأملونها جمهورية اجتماعية قائمة على المساواة ومدافعة عن مصالح الشعب. أما البرجوازيون الذين استولوا على السلطة، فهمهم كان فقط بالحفاظ على مصالح الأثرياء وتبديد الآمال التي أثارها سقوط نابليون لدى الطبقات الشعبية. إنه التناقض الطبقي هذا ما أدى إلى حدوث قطيعة بين الحكومة البرجوازية والبروليتاريا، وبالتالي قيام مواجهة بينهما وولادة الكومونة.
لعل البروليتاريا الباريسية كانت المتفاجئ الأول عندما وجدت نفسها بالسلطة. لكنها أظهرت أنها قادرة على الاستغناء عن البرجوازية الكبيرة ودولتها. فالكومونة قامت، فورا بعد انتخابها، بإصلاحات في مجالات عدة كإعادة تنظيم الإدارة والخدمات العامة والعمل والتعليم والإسكان ومكانة الدين ومكانة المرأة، إلخ. لم يكن للكومونة، خلال الشهرين من وجودها، الوقت لإكمال مشاريعها لأنه كان عليها الدفاع عن نفسها ضد القوات التي أرسلتها الحكومة البرجوازية لسحق ما اعتبرته وقدمته على أنه "عمل إجرامي". كان للنضال من أجل البقاء الأولوية على جميع المهام الأخرى، لكن مع ذلك، لا يمكن للمرء إلا أن ينبهر بكل ما شرعت الكومونة بفعله، حتى لو تجاوزت إجراءات قليلة منها فقط مرحلة المشروع. ولأول مرة، لم تكن الحكومة تعمل لصالح الأقلية المتميزة والمهيمنة على المجتمع بل لصالح غالبية السكان الذين انبثقت عنهم هذه الحكومة. لقد كانت ثورة حقيقية!
عندما تم إعلان الكومونة، كان ماركس في لندن. وهو قد سعى جاهدا لمنح الكومونة برنامجا ثوريا فعليا، وذلك عبر نشاطه في جمعية الشغيلة العالمية. وكانت هذه الجمعية أول منظمة دولية تجمع الاشتراكيين من مختلف التوجهات ومن عدة دول في صراع مشترك. وعندما علم ماركس بأحداث باريس، حيا بطولة الكومونيين الذين "هبوا لاقتحام السماء". فبالنسبة له، كان الانجاز الرئيسي للكومونة هو وجودها بحد ذاته. وكتب: "سرها الحقيقي هو في كونها حكومة الطبقة العاملة، كنتيجة لنضال طبقة المنتجين ضد طبقة المستملكين، مجسدة بذلك الشكل السياسي الذي يصبح ممكنا من خلاله تحقيق التحرر الاقتصادي للعمل."
لكن الكومونة انتهت باكرا جراء القمع العنيف من قبل البرجوازية. فقد سحقها الجيش بشكل كامل في غضون أيام، مقترفا مذبحة خلال الأسبوع الدموي. لكن بعض الهزائم لا تذهب سدى، وبطولة البروليتاريا الباريسية، التي ناضلت حتى النهاية، ساهمت في مجدها. قبل ذلك بشهر، عندما رأى ماركس الخطر قادما، كتب: "تشكل الانتفاضة الباريسية، حتى لو تم تحجيمها من قبل الذئاب والخنازير وكلاب المجتمع القديم، أعظم إنجاز لمعسكر البروليتاريا منذ الانتفاضة الباريسية في يونيو عام 1848."
عن جذور الكومونة
ثورة 1848
في يونيو (حزيران) من عام 1848، قبل ثلاثة وعشرين عاما فقط من نشوء الكومونة، كانت البرجوازية والبروليتاريا قد تواجدتا وجها لوجه في معسكرين معاديين، وذلك بعد أن كانتا قد أطاحتا معا بالسلطة الملكية القائمة آنذاك منذ عام 1830.
ففي فبراير 1848، في حين كانت البروليتاريا تشيد المتاريس في باريس مجبرة الملك على التنازل عن عرشه، هب ممثلو البرجوازية إلى مبنى البلدية للاستيلاء على السلطة وتشكيل حكومة مؤقتة. واحتفل العمال آنذاك بهذه الحكومة الجديدة والتي ضمت كذلك اشتراكيين اثنين كانا موكلين بمسألة تنظيم العمل. فافتتحت الحكومة ورش عمل وطنية بهدف توفير فرص العمل لعدد كبير من العاطلين عن العمل.
لكن البرجوازية لم تكن لتقبل بالبقاء تحت تهديد العمال المسلحين لفترة طويلة. ولم يكن من الوارد بالنسبة لها أن يتدخل هؤلاء بالحكم أو في مسألة تنظيم المجتمع! وبعد أربعة أشهر، في يونيو 1848، قام الجمهوريون البرجوازيون عمدا باستفزاز العمال عبر إغلاق ورش العمل الوطنية، الأمر الذي حث العمال على التمرد في باريس. فقام الجمهوريون بقمعهم بشكل دموي قاتلين ما يقرب الـ4000 منهم، ناهيك عن إعدام 1500 آخرين بالرصاص والحكم على أكثر من 10000 بالسجن أو بالترحيل إلى الجزائر.
أظهرت أيام يونيو حاجة البروليتاريا للدفاع عن مصالحها الطبقية وتنظيم نفسها بشكل مستقل عن البرجوازية. واحتفظت الحركة العمالية بالدرس المستفاد من هذه الأحداث ونقلتها إلى الجيل الجديد. من جانبها، بقيت البرجوازية متربصة من "الطبقات الخطيرة" كما كانت تسميها.
تحولات الإمبراطورية الثانية
في أعقاب الثورة المضادة في يونيو 1848، تم انتخاب لويس نابليون بونابرت رئيسا للجمهورية. وكان بونابرت قد حاز على توافق الجميع من خلال تقديم نفسه كحكم فوق كل الطبقات الاجتماعية المتناحرة. ثم قام في 2 ديسمبر 1851 بانقلاب صادر فيه كل السلطة. وبعد أن نصب نفسه إمبراطورا تحت اسم نابليون الثالث - وقد أطلق عليه فيكتور هوغو لقب نابليون الصغير! - وعد بونابرت الجميع، أي الفلاحين والعمال والبرجوازيين الصغار، بأنه سيحكم لأجلهم. لكن عهده كان في الواقع عهد إتمام التعاون بين الدولة والبرجوازية الكبيرة.
تجسد تركيز رأس المال والوزن الذي اكتسبه كبار الرأسماليين بإنشاء لجنة الحدادين Comité des Forges، في عام 1864، بقيادة يوجين شنايدر وهو كان رئيس مصانع منطقة لوكروزو Le Creusot والوصي على بنك فرنسا وكذلك رئيس بنك الـ Société Générale. كما كان أيضا رئيس مجلس النواب. وفي حين احتفظ الإمبراطور لنفسه بحق تعيين السلطة التنفيذية وممارسة ديكتاتوريته، قام بإنشاء جمعية تشريعية وسمح بقيام انتخابات بلدية... كانت بالحقيقة مليئة بعمليات التزوير. وكان الرأسماليون مثل شنايدر والمصرفيون يعينون كوزراء وينتخبون كنواب وكرؤساء بلديات، وأصبح العالم السياسي أكثر انخراطا في عالم الأعمال. علاوة على ذلك، أصبحت السياسة بالنسبة لبعض المحامين والصحفيين والوجهاء وسيلة جيدة للتواصل مع الشريحة العليا من الطبقة الوسطى وكذلك للإغتناء. وبات الفساد مستشريا في ظل الإمبراطورية وغالبا ما كان يولد الفضائح. ولم تتوقف هذه الممارسات أبدا بعد ذلك، في ظل مختلف الدساتير، حتى يومنا هذا.
كان أدولف تيير Adolphe Thiers، رئيس الحكومة المستقبلي الذي سيقمع الكومونة، النموذج المثالي لهؤلاء السياسيين. فهو كان برجوازيا صغيرا دخل السياسة في عام 1830. وكونه انتهازيا وطموحا، عمل أحيانا إلى جانب المعارضة، وأحيانا إلى جانب السلطة، وفقا للظروف. وكان في أغلب الأحيان يناصر النظام الملكي أكثر من الجمهورية. وكان ولائه الوحيد للطبقات الحاكمة، أي للملاكين وللكنيسة، باختصار: للنظام القائم. ولم ينس تيير أن يغتني في خضم كل هذا، وقد اتهم أيضا بالاختلاس. وفي عام 1848، أجهر تيير عن ولائه لـ "النظام" مناديا، منذ ذلك الحين، إلى تدخل الجيش ضد العمال.
وقامت الرأسمالية بتغيير المجتمع. ففي عهد الإمبراطورية، تطورت البنوك مع إنشاء بنوك الـ Crédit Foncier والـ Crédit Lyonnais والـ Société Générale، كما كان الازدهار الصناعي والتجاري غير مسبوق. ومع ذلك، كان التصنيع لا يزال مقتصرا على مناطق معينة: في شمال فرنسا وفي الألزاس في الشرق، وفي ممر الرون بين ليون ومرسيليا، وفي منطقة باريس. فتنامت مدن الطبقة العاملة في هذه المناطق ووصل عدد سكان مدينة روبيه Roubaix إلى 75,000 نسمة في عام 1870، وليل Lille إلى 160 ألف نسمة ومرسيليا وليون إلى حوالي 300 ألف نسمة. وفي عام 1860، زاد عدد الدوائر الباريسية من اثني عشر إلى عشرين دائرة مع انضمام ضواحيها إليها، فبلغ عدد سكانها إلى ما يقرب المليونين نسمة.
البروليتاريا تتطور وتنظم نفسها
في باريس، كانت شرائح كبيرة من البرجوازية الصغيرة في طور التحول إلى بروليتاريا، وخاصة الحرفيين وأصحاب المتاجر المهددين بتقدم الصناعة، حيث كان الكثيرون منهم مرتبطين برأسماليين أكبر منهم، وكثير منهم كانوا يوظفون عاملا واحدا أو عددا قليلا من العمال، فكانوا أقرب إلى هؤلاء العمال مقارنة مع الشريحة العليا من الطبقة الوسطى. كما تطورت البروليتاريا حيث كان العمال والموظفون يعملون في الغالب في ورش صغيرة ناهيك عن العمل من المنزل الذي كان لا يزال شائعا. ومع تقدم الآلات، بدأ الرأسماليون يستغلون النساء والأطفال أيضا: في عام 1868، كان يعمل في المصانع الباريسية ما يقرب عن الـ 100,000 طفل تتراوح أعمارهم بين الـ 5 و12 عاما.
كما تم توظيف 400,000 فلاح من الريف كعمال في الورش العملاقة التي أطلقها المحافظ هوسمان Hausseman في ستينيات القرن التاسع عشر. وغير هوسمان وجه العاصمة، فبعد أن تحدث لنابليون الثالث عن ضرورة "الدفاع عن باريس بمواجهة غزو العمال القادمين من الأرياف" قام هوسمان بطرد العمال من الأحياء الثرية.
كما شملت البلوريتاريا أيضا عمال النظافة وموظفي بيوت البرجوازية والخادمات والممرضات. وهكذا، تشاركت البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة الحياة نفسها في الأحياء العمالية كمونمارتر Montmartre وبيلفيل Belleville وشارون Charone ولاباستيل La bastille ولافاييت La Fayette وغيرها.
أما في المدن العمالية الصغيرة، كانت الطبقة العاملة تمثل نسبة أكبر من السكان في بعض الأحيان. وتشكل منطقة لوكروزوLe Creusot ، معقل شنايدر، مثالا عن ذلك حيث بلغ عدد سكانها الـ 23,000 في عام 1866، وعمال مناجمها ومصانعها قرابة الـ 10000 عامل يعملون اثنتي عشرة ساعة في اليوم، ولم يتجاوز متوسط العمر المتوقع لهم الـ 24 عاما.
وأرست الإمبراطورية الثانية سلطتها بحزم على العمال. في عام 1854 أنشأ كتيب العمل حيث كانت تسجل الوظائف والذي كان يعطي لأرباب العمل والشرطة المعلومات عن كل عامل. كما تم حظر الجمعيات والإضرابات. لنحو عشر سنوات، تطورت الحركة العمالية من خلال الجمعيات السرية والصحف السرية. وكان النشطاء مطلوبين من قبل الشرطة، وغالبا ما كان يتم القبض عليهم وإدانتهم وسجنهم.
بعد ذلك، قامت الحكومة، في سعيها إلى زيادة شعبيتها، بتخفيف القوانين بطريقة أبوية، مستخدمة الجزرة والعصا بالتناوب. وفي عام 1862، تم ترخيص جمعيات المنفعة المتبادلة. وفي نفس العام، سمح الإمبراطور لوفد من العمال بالذهاب إلى المعرض العالمي في لندن حيث التقوا بنشطاء من النقابات العمالية الإنجليزية والحركة الاشتراكية وعادوا ببرنامج مطلبي كالمطالبة بتمثيل أفضل للعمال في الانتخابات وحق تشكيل النقابات. وفي عام 1864، تم منح هذا الحق، وأصبح الإضراب ممكنا، بشرط ألا ينتهك العمال "حرية العمل" المقدسة. كما تم السماح بإنشاء التعاونيات ثم الغرف النقابية في عامي 1866 و1868، ولكن لم يسمح بتواجد النقابات داخل الشركات. في عام 1868، تم تخفيف نظام الصحافة والاجتماعات لكن الصحف ظلت خاضعة للرقابة وكثيرا ما تمت محاكمة رؤساء تحريرها.
ومع ذلك، شهدت السنوات الأخيرة من الإمبراطورية تقدما سريعا في قتال العمال وتنظيمهم. وكانت لإضرابات عمال البرونز والحديد والصباغون ومجلدو الكتب وغيرهم صدى في المجتمع. كما وقعت اشتباكات دامية مع الشرطة: 13 قتيلا في لاريكاماري في يونيو 1869 ؛ أربعة عشر في أوبين في أكتوبر من نفس العام. في أبريل 1870، اندلع الإضراب في لوكروزو حيث طالب العمال بإدارة صندوق الإغاثة الخاص بهم والذي كان بيد رئيس الشركة شنايدر. فقدم هذا الأخير من باريس، مصطحبا 3000 جندي، لإجبار العمال على استئناف العمل. وأصدرت أحكام بالسجن بحق العمال وتم فصل حوالي 100 منهم عن العمل.
الاشتراكيون والبلانكيون والبرودونيون
رافق تقدم التنظيم العمالي تأثير متزايد للأفكار الاشتراكية. لم تكن الاشتراكية العلمية لماركس قد اكتسبت بعد وزنا راجحا بين التيارات المتعددة المتحدرة من التقاليد الاشتراكية الناشئة في النصف الأول من القرن، ولا سيما تلك المرتبطة ببلانكي Blanqui وبرودون Proudhon.
بلانكي كان يسير على نهج بابوف Baboeuf الذي وقف في نهاية الثورة الفرنسية ضد البرجوازية. وقد ظل بلانكي طوال حياته مقتنعا بضرورة قيام مجموعة صغيرة من الرجال المصممين الاستيلاء على السلطة، عن طريق انقلاب مسلح، وذلك باسم الطبقات الشعبية، ليقوموا بتسليم السلطة لهم. وتطبيقا لقناعته، انضم بلانكي إلى جمعيات سرية مناصرة للجمهورية كانت تخطط للاستيلاء على السلطة. وكلما بدا الوضع السياسي مؤاتيا، كان بلانكي يقوم بمحاولة انقلاب، الأمر الذي أدى إلى مكوثه في السجن الجزء الأكبر من حياته، فكان يطلق عليه لقب "المسجون" بإجلال. بعد يونيو 1848، حذر بلانكي البروليتاريين في نصه الشهير المسمى "نخب لندن" وقال فيه: "من يملك الحديد يحتاز عل الخبز! ننحني الآن أمام الحراب ويتم التنكيل بالحشود المفتقرة للسلاح. لكنه إذا ما امتلأت فرنسا يوما بالعمال المسلحين، تدق حينها ساعة الاشتراكية". كان لبلانكي تأثير عظيم وكان العديد من الاشتراكيين الفرنسيين في زمن الكومونة يسيرون على نهجه.
كان التيار المهم الآخر في ذلك الوقت مرتبطا ببرودون الذي توفي عام 1865. كان لأفكار برودون وزنا، خاصة في باريس، بين الحرفيين وأصحاب المتاجر الذين كانوا في صدد التحول إلى بروليتاريين. كان برودون صاحب العبارة المدوية "الملكية سرقة". لكنه، على عكس ماركس الذي جادله في وقت مبكر جدا، كان يأمل في إيقاف تطور الرأسمالية وما يترتب عنه من إفقار للبرجوازية الصغيرة وتحولها إلى بروليتاريا. دافع برودون عن حرية الاستثمار والملكية الصغيرة مقابل الملكية الكبيرة، وهو وإن دافع إلى حد معين عن التعاونيات العمالية، فذلك كان لكي يتمكنوا من الصمود أمام منافسة الشركات الرأسمالية. بالمختصر، كان مشروع برودون هو وقف مجرى التاريخ.
كانت أفكار برودون أكثر تأثيرا بين صغار الحرفيين وموظفيهم لأنه، في كثير من الأحيان، كان من الضروري لهم معرفة كيفية القراءة والكتابة للتمكن من التدريب. وكانت الأفكار الاشتراكية تصل إلى البروليتاريا بشكل خاص بواسطة هذه الأقلية من العمال الشباب الهاوين التعلم. كان أحد الأمثلة عن ذلك مجلد الكتب يوجين فارلين Eugène Varlin، وهو شخصية رمزية للحركة العمالية في ذلك الوقت وخلال الكومونة: فهو قد كان محظوظا للتمكن من الذهاب إلى المدرسة حتى سن الثالثة عشرة، واحتفظ بهواية القراءة عندما بدأ تدريبه المهني في تجليد كتب، في نفس الوقت الذي انخرط فيه في النضال من أجل الاشتراكية.
جمعية الشغيلة العالمية
بموازاة مختلف هذه التيارات، وبهدف توحيد هذه التيارات بطريقة ما، تأسست في سبتمبر 1864 في لندن، جمعية الشغيلة العالمية والتي كانت تسمى "الأممية".
وبناء على طلب النشطاء القائمين عليها، صاغ ماركس بنيتها التكوينية ونصها الافتتاحي. وكانت الأممية محط مواجهة فكرية. تدريجيا، اكتسبت المفاهيم الأكثر حداثة، أي المرتبطة بنضالات البروليتاريا، توافقا متزايدا. منها على سبيل المثال، الاقرار بالحاجة إلى الإضرابات، الأمر الذي عارضه برودون. وحددت الأممية لنفسها هدفا يتمثل في إرساء الملكية الجماعية للأرض وللمناجم ولوسائل النقل. وأكدت على أن تحرير العمال لا يتم إلا بفعل العمال أنفسهم، كما سعت إلى إنشاء أقسام لها في المدن العمالية. في فرنسا كانت الأممية متواجدة في باريس وليون ومرسيليا وناربون وليل وسانت إتيان ولوكروزو إلخ. في عام 1868، انضم باكونين الروسي بدوره إليها.
وتأسست الأقسام الباريسية الأولى من الأممية في بداية عام 1865 مع انضمام 200 عامل إليها. وكان من بينهم فارلين، عامل تجليد الكتب الشاب. استمر عددهم في التزايد ليصل إلى أكثر من ألف مساهم، إضافة إلى عدد أكبر من المؤيدين. واتحدت الأقسام فيما بينها وكان لها روابط وتشعبات متعددة بين العمال، لا سيما من خلال النقابات العمالية. وقامت الأممية بدعم الإضرابات وتنشيط التعاونيات العمالية حيث كان العمال يتصلون ببعضهم البعض ومناقشة الأفكار الاشتراكية. وكان يهدف ناشطو الأممية لتنظيم البروليتاريا سياسيا.
بالنسبة للأثرياء، الذين كانوا يبحثون عن مسؤول عن انتشار الإضرابات وتمرد البروليتاريين، أصبحت الأممية المتهم المثالي. فجعلوها مسؤولة عن كل شيء وتم مقاضاة أعضائها كما تم في باريس رفع ثلاث دعاوى قضائية كبرى ضدها في غضون ثلاث سنوات. فكانت النتيجة الرئيسية لكل هذا هو زيادة شهرتها.
كتب أنجلز فيما بعد أن الكومونة كانت "الطفل الروحي للأممية"، على الرغم من أنها لم تكن بشكل مباشر وراء إنجازات الكومونة. فالكومونة لم تحدث صدفة، إذ أنها جاءت بفضل عقدين من التحول الاقتصادي والاجتماعي وسنوات من النضالات العمالية والعمل على تنظيم البروليتاريا. عشية الكومونة، كان جزء من البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة في المدن الكبرى يتطلعون بالفعل إلى إرساء ما يسمى بالجمهورية الاجتماعية الشاملة، أي الجمهورية العمالية.
من الحرب ضد بروسيا إلى إعلان الجمهورية
تم تسريع الأحداث في يوليو 1870 بسبب الحرب التي شنها نابليون الثالث ضد بروسيا (أي المانيا في عهد الملكية). كان نابليون يهدف من خلال هذه الحرب إلى استعادة هيبته كإمبراطور، بعد أن تزايدت الانتقادات ضده. لكن الهجوم الفرنسي كان كارثيا، حيث تحول، في مواجهة جيش أكبر منه وأكثر تنظيما، إلى عملية كر وفر. وبحلول منتصف أغسطس، باتت الهزيمة مؤكدة، فدخلت العاصمة الباريسية في حالة من الغليان وبدأت الأزمة سياسية تنضج بشكل واضح. اعتقد بلانكي أن الوقت قد حان للقيام بانقلاب، لكن محاولته باءت بالفشل. وفي 2 سبتمبر، تم أسر نابليون الثالث في سيدان Sedan مع كل جيشه واستسلم، فاحتل الجيش البروسي شرق فرنسا وتقدم بسرعة نحو باريس.
بمجرد أن علم بعملية القبض على الإمبراطور، أعلنت المدن الكبرى إقصاءه عن منصبه، ونزل السكان في باريس إلى الشوارع هاتفين "تحيا الجمهورية!" مطالبين بإعادة تنظيم الدفاع عن العاصمة. وتحت الضغط الشعبي، في 4 سبتمبر 1870، أعلن نواب ورؤساء بلديات باريس قيام الجمهورية.
الجمهورية البرجوازية بين 4 سبتمبر 1870 و18 مارس 1871:
حكومة الدفاع الوطني
شعر الاشتراكيون وكأنهم أمام نسخة جديدة لثورة عام 1848 التي انتهت بسحق العمال، فحاولوا التصدي لهذا السيناريو. في الواقع، في 4 سبتمبر 1870، هرع بعض البرجوازيين إلى مركز البلدية، منهم من كان يناصر قيام الجمهورية منذ زمن بعيد، والبعض الآخر عن جديد بعد أن كانوا دائما بونابرتيين. كل هؤلاء كانوا لا يتجرؤون، في القبل، على وضع حد للإمبراطورية وكانوا يماطلون بذلك. وإذ بهم في 4 سبتمبر يسارعون إلى تشكيل حكومة مؤقتة، وذلك بسبب تخوفهم من تدخل الطبقات الشعبية في الشؤون السياسية. فهمهم كان السيطرة على الوضع، بأي ثمن، وتجنب فراغ السلطة الذي من شأنه أن يتيح المجال أمام الجمهوريين الأكثر راديكالية والاشتراكيين المؤثرين بين الأوساط العمالية. لذا، شكلت السيطرة على الحكومة أولوية قصوى بالنسبة لهؤلاء البرجوازيين.
ولكن، بوجود المناضلين العماليين الذين غزوا، هم أيضا، قاعة البلدية، والذين لم يعودوا يثقون بهم قط، تعين على البرجوازيين القتال بقوة لنيل مناصبهم. فكان الوضع مليء بالهيجان والتدافع وتبادل للمسبات. وبوجه الملوحين بعلم الجمهوري الفرنسية، كان يعلو الهتاف تذكيرا بموتى يونيو 1848. فكان الجدال حادا لتحديد الأسماء المقترحة لتشكيل الحكومة.
من بين الحاضرين في ذلك اليوم كان هناك جان بابتيست كليمان Jean Baptiste Clément، وهو الكموني المستقبلي ومؤلف أغنية "زمن الكرز Le Temps des cerises" إحياء لذكرى الكومونة. فكتب كليمان عما جرى: "كان البرجوازيون أصحاب الكروش يخفون ذعرهم عبر التظاهر بالفرح وكانوا يتعاطون مع العمال بألفة مثيرة للاشمئزاز! فكانوا يصافحونهم متظاهرين بالعاطفة نحوهم، وكانوا يطبطبون على أكتافهم كما يداعبون مؤخرة خيولهم. نفس هؤلاء البرجوازيين الذين كانوا قبل شهر، يهتفون: "عاشت الحرب! هلم إلى برلين!" والذين صوتوا بنعم على جميع الاستفتاءات الداعمة لسياسة بونابرت، مشيدين بكل جرائم الإمبراطورية، وإذ بهم يقتربون منك، دون معرفتك، ويتنمرون عليك كما لو كنت أنت المسؤول عما فعله نابليون الثالث وزمرته."
لكن حشود الباريسيين التي هرعت إلى مبنى البلدية لم تكن مدركة لدقة الموقف، إذ كانت بهجة النصر طاغية عليها. ويتابع كليمان: "كما هو الحال دائما، ينومون الشعب بالكلام عن الوحدة في مواجهة الخطر الداهم، وبأن مسألة الشرف الوطني هي أولوية على النظريات... وبأن مسألة الجمهورية ومصلحة فرنسا هما الأهم فيتعين إذا إسكات الضغائن بهدف طرد البروسيين أولا، وبعد ذلك لا بد أن نجد صيغة للتوافق فيما بيننا". وهكذا أجبر الاشتراكيون على الرضوخ للحكومة الجديدة، التي حملت اسم حكومة الدفاع الوطني وكانت برئاسة جنرال يدعى تروشو Trochu.
لكن، على الرغم من إسمها، لم يكن الهم الأول للحكومة استئناف الحرب ضد بروسيا، بل لجم البروليتاريا الباريسية التي باتت في مرحلة غليان. ووزراؤها كانوا إما سياسيين منذ فترة طويلة - وكان العديد منهم أعضاء سابقين في حكومة عام 1848 – وإما جمهوريين شباب مثل الصحفي هنري روشفور Rochefort والمحاميين جول فيري Ferry وليون غامبيتا Gambetta. وغامبيتا، الذي تولى وزارة الداخلية، كان معروفا وقتها بأنه من معارضي نابليون وكانت شعبيته كبيرة في باريس. لكن هذا لم يمنعه، بعد بضعة أشهر، من نعت الكومونة المهزومة بالانتفاضة الإجرامية، وتوجيه التحية لـ "تفاني وحكمة" مجالس الحرب التي رحلت وسجنت وأعدمت الناجين من المذبحة التي اقترفتها الحكومة بحق الكومونة.
على صعيد آخر، ترافق إعلان الجمهورية بإنبعاث حياة سياسية مكثفة مع ازدهار الجمعيات ونوادي المناقشة السياسة، وكذلك الصحف التي بلغ عددها المئات في باريس وفي الأقاليم. وأصبح لقدامى معارضي الإمبراطورية، على اختلاف راديكاليتهم، شعبية متزايدة. كما تزايد أيضا عدد "الأندية الحمراء". ومع ذلك، حذر ماركس أصدقاءه الاشتراكيين الباريسيين من شهوة القيام بانقلاب في ظل تلك الظروف الصعبة ونية البروسيين بمحاصرة باريس. بالرغم من نفاذ صبرهم، نصحهم ماركس بالاستفادة من الحرية التي أتاحتها الجمهورية "للمضي قدما بشكل منهجي في تنظيمهم الطبقي"، وهو ما يمكننا تسميته اليوم بناء حزب عمالي قادر على قيادة البروليتاريا.
الحرس الوطني: البروليتاريا حاملة السلاح
كانت الحكومة المؤقتة مستعدة لبدء محادثات السلام مع البروسيين. وباعتراف رئيسها الجنرال تروشو لاحقا، فإنه قد سعى، ابتداء 4 سبتمبر، إلى دفع الباريسيين للقبول بالاستسلام. وفي سبيل هذا، كان مستعدا لتسريع الهزيمة. وقال تروشو سرا: "إذا ما لقي 20.000 أو 25.000 رجلا حتفهم في معركة كبيرة تخوضها باريس، فإن شعبها سيستسلم."
لكن البروليتاريا الباريسية لم تكن بوارد الاستسلام. فمنذ اللحظة التي تحولت فيها بروسيا من موضع الدفاع إلى موضع الغازي للأراضي الفرنسية، أصبح من المشروع محاربتها دفاعا عن الوطن والجمهورية الاجتماعية التي كانت ترمي البروليتاريا إليها. فدقت ساعة التعبئة العامة في باريس وبدأ استحضار الأيام العظيمة للثورة الفرنسية عام 1792، عندما تم صد الجيوش الأجنبية وأسقط النظام الملكي. كما تم دعوة جميع الناخبين في المدن الكبرى للانضمام إلى الحرس الوطني.
وكان نابليون الثالث، منذ الهزائم الأولى بوجه بروسيا، قد قام باستدعاء هذه القوات الاحتياطية لمؤازرة الجيش الفرنسي. مع العلم أن ميليشيا الحرس الوطني كانت مؤلفة، عند نشأتها أبان الثورة الفرنسية، من أفراد تابعيين للبرجوازية، وكانت مهمتها الأولى الحفاظ على الهيمنة البرجوازية: فهي قد شاركت، على سبيل المثال، في قمع البروليتاريا الباريسية في يونيو 1848. ولكن أمام الحصار البروسي الذي بدأ يلوح في الأفق، وفي نشوة إعلان الجمهورية، أصبح من الضروري تسليح الشعب. فتم فتح الانتساب إلى الحرس الوطني أمام جميع الناخبين دون تمييز اجتماعي. وجدت الحكومة نفسها مضطرة للرضوخ للأمر الواقع. كما أطلقت في الوقت نفسه حملة تمويل شعبي لتصنيع المدافع.
وبات الحرس الوطني في باريس مؤلفا من أغلبية ساحقة من العمال. فكانت 215 كتيبة من أصل 240 تأتي من أحياء الطبقة العاملة ومؤلفة من مئات الآلاف من الرجال. وكانت كتائب الحرس الوطني، والتي كانت منظمة على أساس دوائر الإدارية الباريسية، تنتخب ضباطها، وذلك على عكس الجيش النظامي. لذلك كانت قيادة الحرس الوطني انعكاسا للحالة للذهنية للبروليتاريين، وهم كانوا يختارون من بينهم من كان يبرهن عن قدرته وتفانيه أثناء الحصار. وغالبا ما كان قادة الحرس الوطني من الجمهوريين، وحتى من الاشتراكيين، وذلك بشكل متزايد.
وكان أجر العنصر في الحرس الوطني أقل بكثير من الراتب العادي ولكنه، في تلك الأوقات الصعبة التي ارتفع فيها معدل البطالة، كان يشكل الدخل الوحيد للعديد من أعضائه. فتوطدت الصلة بين البروليتاريا والحرس الوطني أكثر من أي وقت مضى.
الاضطرابات السياسية في باريس وفي المحافظات
بدأ حصار العاصمة في 19 سبتمبر. في أحياء الطبقة العاملة، أدى الحصار إلى التقنين ثم إلى المجاعة بالإضافة إلى القصف اليومي. أما الأغنياء ترك بعضهم العاصمة، وواصل البعض الآخر أعمالهم كالمضاربة في السوق السوداء فكان لا ينقصهم شيء في حين لم يعد هناك ما يكفي من الطعام في باريس. وبينما كان البروليتاريون يكتفون بالخبز المملوء بالقش والشحم ويأكلون الكلاب والقطط والجرذان، كان يتم تقطيع الحيوانات المحفوظة في حديقة النبات الباريسية لبيعها في محلات الجزارة في الأحياء الأنيقة. فبدى للبروليتاريا، عن حق، أنها وحدها التي عليها بذل كل التضحيات في سبيل الدفاع عن الوطن.
ابتداء من 4 سبتمبر، نظم العمال المناضلون الحذرون من الحكومة البرجوازية ما سمي بلجان الدفاع واليقظة في أحياء الطبقة العاملة. وبفضل نجاحهم، قاموا في 13 سبتمبر بتشكيل لجنة جمهورية مركزية ممثلة للدوائر الباريسية العشرين، وقامت هذه اللجنة بتعليق برنامجا في الشوارع كان بمثابة خطوة استباقية نحو انشاء الكومونة.
وبدأ الحديث أكثر وأكثر عن مبدأ الكومونة والذي كان يعود، في الوعي الشعبي، إلى زمن الثورة الفرنسية عندما نشأت كومونة "الصنكيلوت sans -culottes" في باريس في 10 أغسطس 1792، منادية بإحلال التمثيل المباشر للشعب في وجه مناورات البرجوازية والملكيين الذين كانوا يحاربون قيام الجمهورية في باقي أنحاء البلاد. وهكذا، في عام 1870، شهدت بعض المدن، حتى قبل باريس، محاولات انتخاب لمجالس بلدية أعطت تفويضها لممثليها لتولي سلطات كانت حتى ذلك الحين بيد الدولة.
فتم إعلان الكومونة في ليون في 28 سبتمبر وفي مرسيليا في 1 نوفمبر، لكن الحكومة البرجوازية نجحت في الإطاحة بهما على الفور من خلال تركيز قواتها المسلحة على الفور بوجهيهما. وكان احتمال قيام اتحاد كومونات بين المدن الكبرى الفرنسية يشكل تهديدا حقيقيا بالنسبة لهذه الحكومة. وفي باريس أيضا، في 31 أكتوبر، بموازاة الإعلان عن هزائم عسكرية جديدة وبدأ الحديث عن قيام الهدنة، اجتاح الحشد مقر البلدية بهتافات "لا للهدنة!" "و" تحيا الكومونة!" ثم حاول عدد قليل من البلانكيين وجزء من ممثلي لجنة الدوائر العشرين الإطاحة بالحكومة. لكن باريس لم تكن ناضجة بعد للثورة، فتمكنت الحكومة من إبقاء سيطرتها على الوضع. فكتب ماركس بعدها: "لو انتصرت الكومونة في بداية نوفمبر 1870 في باريس، أي في الوقت الذي تم تأسيسها أيضا في المدن الكبرى الأخرى في البلاد، لكانت بالتأكيد قد وجدت صدى لها وانتشرت إلى جميع أنحاء البلاد."
مع مرور الأسابيع، أصبح من الواضح أن الحكومة باتت على وشك الاستسلام، على الرغم من التصريحات العدوانية لوزرائها. وأصبحت العمليات العسكرية التي تأمر بها شبه إرسال العناصر للذبح. إذ نتج عن هجمة في بوزنفال مقتل 4000 شخص الأمر الذي أثار الغضب من جديد في باريس في 22 يناير 1871. هذه المرة أطلق الجنود النار على الحشد مما أودى بحياة حوالي ثلاثين شخصا.
في 28 يناير، تم توقيع هدنة مع بروسيا، اعتبرها الباريسيون بمثابة خيانة، فأصبح الطلاق حتميا بينهم وبين الحكومة. وملأ السخط عناصر الحرس الوطني، واجتمع ممثلون عن الدوائر الباريسية في 6 فبراير واتخذوا القرار بالتنظيم على شكل اتحاد مع تشكيل لجنة مركزية. ثم أعلن الحرس الوطني أنه سيعارض أي محاولة للانقلاب على الجمهورية وأنه لن يسمح بنزع سلاحه.
الجمعية الوطنية: ملكيون معادين لباريس
وكان هناك عدة أسباب للقلق على مصير الجمهورية. فالبرجوازية اعتزمت تشكيل جمعية وطنية جديدة تتوكل التصديق على معاهدة السلام. وأعطت الانتخابات المنظمة على عجل في 8 فبراير أغلبية الثلثين للملكيين. فبرغم تصويت المدن لصالح الجمهوريين، كان الفلاحون في الريف ما زالوا تحت هيمنة ملاكي الأراضي والأعيان والكهنة، كما تم تحريضهم ضد الباريسيين بالقول أنهم يريدون أخذ أملاك الناس الشرفاء وأنهم دعاة حرب مستعدين لتدمير البلاد لصالح البروسيين. فكانت الجمعية الوطنية هذه، التي تمجلس فيها وجهاء من النبلاء، تكره الجمهورية وبالأخص البروليتاريا الباريسية المناصرة للجمهورية.
خلال مفاوضات السلام في فرساي، طالب المستشار البروسي بسمارك بتعويض قدره خمسة مليارات فرنك ذهبي. ولخصت الكومونية فيكتورين بروشيه Victorine Brocher، في مذكراتها، الوضع: "كانت الجمعية الوطنية، المتمركزة في مدينة بوردو، تسعى إلى إعادة مقرها إلى العاصمة باريس، لكنها كانت تخشى الـ 400.000 بندقية التي بقيت في أيدي الباريسيين. وكانت تعلم أيضا أنه يجب دفع خمسة مليارات للألمان. من أين لها أن تحصل على هذه الأموال إن لم يكن من جيب العامل؟ لذلك بات من الضروري للغاية توجيه ضربة للباريسيين. من ناحية الخوف أولا، ومن ناحية الحاجة إلى المال ثانيا. فأصبحت مسألة نزع سلاح باريس أكثر إلحاحا للتمكن بعدها من جعل الباريسي يدفع من ماله من أجل تمويل الفدية عبر ضرائب جديدة يستوجب وضعها".
في انتخابات 8 فبراير، صوتت البروليتاريا الباريسية لصالح الجمهوريين، فانتخب فيكتور هوغو، وروشفور، وغامبيتا، وكليمنصو ... ولأول مرة، انتخب أربعة "اشتراكيين ثوريين" من مرشحي الجمعيات العمالية الباريسية، الأمر الذي دل عن تطور وعي البلوريتاريا. وكان اثنان منهما عمالأ، النقاش تولين والصباغ مالون وكانا عضوين في الأممية.
اللجنة المركزية للحرس الوطني: جنين السلطة العمالية؟
في 24 فبراير، انتخب 2000 مندوب من الحرس الوطني اللجنة المركزية للاتحاد، وصوتوا على نصه التأسيسي. بعد بضعة أيام، أصدرت اللجنة المركزية أمرا بتجميع المدافع ووضعها بأمان من الألمان الذين حصلوا للتو على إذن الحكومة الفرنسية بالسير عبر باريس بين 1 و3 مارس. كان الرد الفعل الأول للباريسيين هو الرغبة في إقامة المتاريس، لكن اللجنة المركزية، خشية حدوث استفزاز، عارضت المبادرة قائلة: "إن أي هجوم من شأنه أن يضع الناس تحت نيران العدو مغرقا المطالب الاجتماعية في نهر من الدماء...". لكن اللجنة نظمت تشييد المتاريس حول نصف العاصمة بشكل يشمل الاحياء التي تخزن فيها الأسلحة. فلاقى استعراض القوات الألمانية مدينة شبه ميتة، وكان هذا بمثابة انتصار معنوي للباريسيين وتحديا للحكومة.
من ناحيتها، بدأت البرجوازية بشن سياستها الهجومية. فنقلت، في بداية شهر مارس، مقر الجمعية الوطنية من بوردو إلى مدينة فرساي Versailles غرب باريس، الأمر الذي كان يعني تنحية باريس عن صفتها كعاصمة للبلاد.
وقام أدولف تيير Adolphe Thiers، الذي خلف تروشو على رئاسة الحكومة، بتعيين قائدا جديدا للحرس الوطني، فاختار جنرالا أمضى حياته المهنية بأكملها في ظل الإمبراطورية. شكل هذا الأمر استفزازا للجمهوريين، كما رفضه الحرس الوطني وانتخب بدلا منه غاريبالدي Garibaldi، قائد حرب توحيد إيطاليا. وأعلن الحرس الوطني: "لا للجيوش النظامية، نعم لأمة كلها مسلحة. لا لمزيد من الاضطهاد والعبودية والديكتاتورية من أي نوع، لنبني أمة ذات سيادة ومواطنين أحرار يحكمون أنفسهم كما يحلو لهم."
بعدها، ألغى تيير رواتب الحرس الوطني ما يعني أنه حكم عليهم بالبؤس. ولتخويف الباريسيين، أعلن تيير أيضا عن انتهاء الحظر المفروض على الاستحقاقات والإيجارات. فهذا الحظر كان قد دخل حيز التنفيذ في بداية الحصار حيث تم تأجيل دفع الإيجارات التي لم يعد بإمكان المستأجرين دفعها، وكذلك أجلت تواريخ تسليم الورش التي لم يتمكن أصحاب المتاجر والحرفيون من الوفاء بها. ألغت الحكومة إذا هذا التأجيل، وبالتالي أصبحت جميع الديون مستحقة من جديد، بما في ذلك الفائدة، فكان هذا بمثابة عملية خنق للمستأجرين وللبرجوازية الصغيرة الباريسية.
وتكاثرت الاستفزازات. فمنعت الصحف الشعبية وحكم على بلانكي بالإعدام غيابيا بسبب محاولة الانقلاب المسلح في 31 أكتوبر، وكذلك على فلورنز Flourens، وهو اشتراكي آخر معروف في باريس. ثم سجن بلانكي بعيدا عن باريس، ورفض تيير إطلاق سراحه طوال فترة الكومونة، مؤكدا أن هذا من شأنه أن يرقى إلى منح "فيلق عسكري" للباريسيين.
ردا على ذلك، أعلن اتحاد الحرس الوطني في 15 مارس أنه لم يعد يعترف بأي سلطة أخرى غير سلطة لجنته المركزية. لاحقا، بعد تجربة الثورة الروسية، نعت تروتسكي هذه اللجنة المركزية التي انتخبها الحرس الوطني عشية الكومونة، بـ "مجلس نواب العمال المسلحين والبرجوازية الصغيرة"، أي بعبارة أخرى أنها جنين الدولة العمالية.
في ليلة 17-18 مارس، تحرك تيير محاولا الاستيلاء خلسة على المدافع الباريسية، مقتنعا أنه لن تكون هناك أي مقاومة.
لكن، كما كتبت لاحقا لويز ميشيل Louise Michèle، الناشطة في الكومونة من اليوم الأول إلى اليوم الأخير: "يبدو صبر الذين يعانون أبديا، ولكن، كقبل قيام الموجة الجارفة، تبدو الأمواج صبورة أيضا ولطيفة بل وتتراجع ببطء ونعومة: هذه الأمواج هي نفسها التي ستنتفخ وستعود كالجبال لتتهاوى مزمجرة على الشاطئ وتبتلعه معها إلى الأعماق."
18 مارس: السلطة في أيدي الباريسيين
في صباح 18 مارس الباكر، أدرك باريسيو أحياء بلفيل Belleville ومونمارتر Montmarte، أن الجنود قد وضعوا يدهم على المدافع وأنهم بانتظار الدواب لسحبها. على الفور، تجمعت لجان اليقظة ودقت ناقوس الخطر ونبهت النائمين، فأجتمع الرجال والنساء حول الجنود وناشدوهم بإيقاف عملية سحب المدافع، وتآخوا معهم. كما استنفر الحرس الوطني وشيد المتاريس، وسرعان ما طال الغليان باريس بأكملها. في المساء، كانت عملية تيير قد فشلت.
خلال هذا اليوم، تم إعدام الجنرالين ليكومت وتوماس بالرصاص علي يد جنودهم والحشد الغاضب. الأول لأنه أعطى الأمر لرجاله، لثلاث مرات متتالية، بإطلاق النار على الحشد، لكنهم انقلبوا على أوامره وأوقفوه. أما الثاني، وهو كان أحد سفاحي يونيو 1848، فقد تم التعرف عليه بلباسه المدني بينما كان يتفقد حاجزا عند سفح مونمارتر. على الفور، شكلت هاتان الوفيتان ذريعة لتيير وللجمعية الوطنية لوصم ممثلي الكومونة بصفة الاجراميين. ومع ذلك، فأنهما سيكونان الأعداء العزل الوحيدين الذين قتلوا على يد الباريسيين، وذلك في لحظة غضب، إلى حين بدأ المذابح بحق الكومونيين خلال الأسبوع الدموي.
وهرب تيير على عجل إلى فرساي. فلجأت باريس، بطبيعة الحال، إلى اللجنة المركزية للحرس الوطني لتتولى زمام الأمور، فاستولى أعضاء اللجنة المركزية على السلطة التي تركت شاغرة في مبنى البلدية بعد أن هجرته البرجوازية المذعورة، وأعلنوا تنظيم انتخابات كومونة باريس.
في اليوم التالي، استيقظت البروليتاريا الباريسية والبرجوازية الصغيرة والسلطة بيدهما، ذلك دون أن تسعيان بوعي للاستيلاء عليها، إذ كان ذلك نتيجة رد فعلهم على تهجم تيير وفرار حكومته السريع.
الكومونة: المسودة الأولى للدولة العمالية
تنحي اللجنة المركزية
لم ترد اللجنة المركزية للحرس الوطني تشكيل الحكومة بنفسها. فهي كانت مقتنعة بأن وحده انتخاب كومونة باريس بالاقتراع العام من شأنه أن يجبر الجمعية الوطنية على الاعتراف بها وجعلها غير قابلة للنقاش.
من المؤكد أنه لشيء مشرف للجنة المركزية عدم تصرفها مثل أي تجمع برجوازي يسعى إلى مصادرة السلطة من الشعب. ولكن، من ناحية أخرى، فإعتمادها على تأثير الشرعية الانتخابية في مواجهة البرجوازية التي كانت في طور التحضير للحرب الأهلية هو أمر يدل عن نقص في الحكمة لديها. فمنذ 22 مارس، نفذ الرجعيون الباريسيون مظاهرة في شوارع الأحياء الجميلة، وكانوا مسلحين بالعصي والخناجر والمسدسات. وفي ساحة فاندوم، هاجموا الحرس الوطني وهم يهتفون "عاشت الجمعية الوطنية! فلتسقط اللجنة المركزية! فليسقط القتلة!". بضع طلقات نارية كانت كافية لتفرقهم، فهم لم يكونوا أقوياء بما فيه الكفاية بعد، لكن موقفهم العدواني كان لا شك فيه. مع ذلك قررت اللجنة المركزية المضي بتنظيم الانتخابات وخسرت بذلك وقتا ثمينة.
وحدهم أقلة من الكومونيين طالبوا بالسير على فرساي للانقضاض على تيير وجيشه خلال عملية فراره، لكن فكرتهم لم تتبع. على العكس، تم التفرج بتسلية على قوات الجيش وقوات الحرس الوطني الموالين للحكومة وهم يغادرون العاصمة، فتمكنوا من الوصول إلى فرساي مع كل عتادهم. بشكل مواز، أمر تيير موظفي الدولة في باريس بالانضمام إليه مع ملفاتهم وممارسة العصيان أمام اللجنة المركزية بهدف شرذمة باريس وجعل الكومونة غير قادرة على الحكم. كما أمر تيير بقطع التلغراف والطرق. والبروليتاريا، التي كانت لا تزال تحتفل بنصرها، تركته يقوم بكل هذا. فهي قد اعتبرت، على نحو خاطئ، أن فرار العدو إلى فرساي كدليل على انتصارها الكامل. بعد بضعة أيام، ودون أي مقاومة أيضا، تركت القوات الحكومية تستولي على تلة فاليريان بالقرب من منطقة بولوني، وهو موقع مرتفع استراتيجي شكل مقر انطلاق القصف الذي طال كامل غرب باريس، ولم يتمكن الكمونيون من استعادته من بعدها.
إن الانتصار الساحق والسهل في 18 مارس أعطى الوهم للشعب بأنه لا يمكن هزمه. حتى الاشتراكي شارل لونجيه كتب في 30 مارس في العدد الأول من الجريدة الرسمية للكومونة: "لم يعد التناقض الطبقي قائما!"
هل كان يتوجب السير على فرساي؟
كثيرا ما طرح هذا السؤال بعد ذلك بسبب النهاية المأساوية للكومونة.
وتروتسكي كتب عن هذا الموضوع: "كان بإمكاننا حينئذ سحق القوات الحكومية دون إراقة دماء تقريبا. ففي باريس، كان من الممكن أسر جميع الوزراء مع تيير في مقدمتهم ولم يكن ليرفع أحد أصبعه للدفاع عنهم. لكننا لم نفعل. إذ لم يكن هناك تنظيم حزبي مركزي ذو نظرة عامة، ولا هيئاته الخاصة لتنفيذ قراراته." وقال أنه كان يتوجب إرسال محرضين بين القوات الذاهبة إلى فرساي بهدف كسب الجنود ما إن أوتيت الفرصة لذلك. الأمر ليس بمعرفة ما كان لمسار الأحداث أن يكون حينئذ، بل بالتفكير حول ما هي السياسة الثورية التي كانت ممكن طرحها في تلك الظروف.
من الواضح أن الكومونيين، بوصولهم إلى السلطة وشعورهم بقوة البروليتاريا، كانوا يأملون تجنب الحرب الأهلية. والاشتراكيون، الذين كانوا متأثرين بأفكار وأوهام البرجوازية الصغيرة الديمقراطية، لم يعتقدوا، في غالبيتهم، بضرورة فرض ديكتاتورية البروليتاريا على البرجوازية. كما أعلنوا أن باريس لا تنوي تصدير نموذج الكومونة إلى بقية البلاد إلا بفضل المثال والقدوة. فمشروعهم كان الاستقلال الذاتي للكومونات المنتخبة ديمقراطيا في جميع أنحاء البلاد، واتحادها فيما بينها بشكل حر بهدف تأسيس الجمهورية الاشتراكية.
لكن اللجنة المركزية كان باستطاعتها اعتبار أن البروليتاريا، بشقها المتمثل بالحرس الوطني، قد أعطتها الشرعية الكافية للحكم باسمها وتنفيذ سياستها الثورية. ووفقا لتروتسكي: "كانت المهمة الثورية الحقيقية هي ضمان السلطة للبروليتاريا في جميع أنحاء البلاد. كان من المفترض أن تكون باريس بمثابة قاعدة ومركز للسلاح. ولتحقيق هذا الهدف، كان من الضروري، دون إضاعة الوقت، هزيمة فرساي وإرسال المحرضين والمنظمين والقوات المسلحة إلى جميع أنحاء فرنسا. كان من الضروري التواصل مع المتعاطفين مع الكومونة بهدف تبديد التردد وكسر مقاومة الأعداء."
المسؤولون المنتخبون في الكومونة
تم انتخاب الكومونة في 26 مارس وتم إعلانها في 28 مارس. في جريدة "لامي دو بوبل L'Ami du peuple"، كتب فيرموريل Vermorel الاشتراكي بعيد انتخابه عن الدائرة الثامنة عشرة: "إن ثورة 18 مارس تكرس الظهور السياسي للبروليتاريا تماما كما كرست ثورة 1789 الظهور السياسي للبرجوازية."
كان بعض الأعضاء المنتخبون في الكومونة من المثقفين والبرجوازيين الصغار القريبين من الشعب، والأغلبية كانوا اشتراكيين. وكان فيرموريل أحدهم، وكذلك الكاتب جول فاليس Jules Valles والرسام كوربيه Courbet. ولكن كان هناك أيضا، وللمرة الأولى، العديد من العمال، معظمهم في الثلاثينيات من العمر، وكانوا يعملون في التعدين والطباعة وتجليد الكتب والصاغة والصباغة والنجارة، إلخ. كما كان بينهم أيضا بعض الحرفيين وأصحاب المتاجر. كان كل هؤلاء العمال تقريبا اشتراكيين، وفي المجمل، ما يقرب من ثلث الأعضاء المنتخبين كانوا أعضاء في الأممية.
لم يكن هؤلاء الرجال معروفين من قبل صحف فرساي الغاضبة، لكن الذين انتخبوهم كانوا يعرفونهم إذ بعضهم كان من قدامى مناضلي الطبقة العاملة!
وفارلين Varlin، أحد أشهرهم، كان قد قام بإضراب مع زملائه في مجال تجليد الكتب ظهرت خلاله مهاراته التنظيمية. وقد كرس فارلين كل وقته، وبتفان، للقضية العمالية، ودعم الإضرابات هنا وهناك، حتى في لوكروزو في عام 1870، حيث ساعد أيضا في تأسيس قسم من الأممية. كما شارك في إنشاء تعاونية عمالية باسم "اللامرميت La Marmite" برفقة ناشطة اشتراكية أخرى وهي ناتالي لومال Nathalie Le Mel؛ وكانت الجمعية تطعم العائلات العاملة أثناء الحصار. وتم تعيين فارلين قائدا لكتيبة الحرس الوطني وقد تم انتخابه في اللجنة المركزية قبل أن يصبح عضوا في الكومونة.
في سبيل إعادة تنظيم الخدمات التي أفسدها تيير حين غادر المدينة، كمكتب البريد والطرق والمستشفيات والشرطة، وما إلى ذلك، شكلت الكومونة لجانا وعينت مسؤولين عنها. فولي فارلين والمحاسب جورد باللجنة المالية ؛ وولي كاملينت مسؤولا عن إعادة تنظيم مكتب البريد ثم دار سك العملة ؛ وتولى اثنان من الطباعيين رئاسة المطبعة الوطنية ؛ و قاد لجنة العمل والتجارة الصباغ مالون وصانع المجوهرات فرانكل ؛ في حين تولى الطبيب فايان لجنة التدريس وتم تعيين الميكانيكي أفريال مديرا للمدفعية ؛ وأصبح بعض العمال جنرالات ....
يجب أن نشير أيضا إلى وجود بعض الجمهوريين الأكبر سنا في مجلس الكومونة والذين كانوا من بين المشاركين في ثورة 1848، وكانوا معارضين جذريين للإمبراطورية. ولعل أبزهم كان الصحفي دوليكلوز الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 64 عاما. فهو الذي كان قد سجن ونفي عدة مرات، وآخرها في أغسطس 1870 بسبب احتجاجه على الحرب، كان يمثل تقليد الجاكوبينيين les Jacobins الناتج عن الثورة الفرنسية. فبعد أن انتخب الباريسيون لعضوية الجمعية الوطنية في 8 فبراير، قدم استقالته منها لاحقا بهدف الالتحاق بالكومونة حيث كان يؤخذ برأيه: فهو شارك على التوالي في أربع لجان ومات على أحد المتاريس.
دور النساء في الكومونة
في حين أن الكومونة لم تذهب إلى حد منح حق التصويت للنساء - وهو ما لم يكن موجودا في أي مكان في العالم في ذلك الوقت - إلا أنها اعتمدت بشدة عليهن وعلى المناضلات والمقاتلات.
بالتأكيد أن أشهر النساء في الكومونة هي المعلمة مدرسية لويز ميشيل Louise Michèle. في باريس المحاصرة، أنشأت لويز ميشيل مطعما لطلابها، ثم نشطت ضمن لجنة اليقظة في مونمارتر وغالبا ما كانت ترتدي زي الحرس الوطني. وعندما تم انتخاب الكومونة، نشطت لويز ميشيل على عدة جبهات: من المطالبة بالاستيلاء على المنازل المهجورة لإيواء المشردين إلى إنشاء مآو لإطعام الأطفال، كما اقترحت لويز ميشيل صهر أجراس مونمارتر لتصنيع المدافع. كما دعت لويز ميشال لإغلاق دور الدعارة ولتقديم الرعاية من قبل الكومونة للمسنين والعجزة واليتامى. وعندما بدأ القتال مع فرساي، نظمت خدمة الإسعاف وشاركت بنفسها في القتال.
ويمكننا الاستشهاد بالعديد من الأخريات. كناتالي لومال التي أسست مع أوجين فارلين جمعية الـلامرميت، وهي كانت تخطب في الأندية ابتداء من 4 سبتمبر وقامت، برفقة إليزابيث دميتريف Elisabeth Demetrieff، وهي اشتراكية ثورية أخرى من روسيا، بإنشاء الاتحاد النسائي للدفاع عن باريس ورعاية الجرحى. وخلال الأسبوع الدامي، بحسب تقرير الشرطة آنذاك، كانت لومال "على رأس كتيبة من حوالي 50 امرأة، قامت ببناء الحاجز في ساحة بيغال Pigalle ورفعت العلم الأحمر هناك".
كانت إنجازات الكومونة هي نتيجة مباشرة لعمل أكثر مناضلي ومناضلات البروليتاريا الباريسية نشاطا. وفي هذا المجال، لم يقتصر الأمر فقط على المناضلات القدامى. فقد ظهرت عدة نساء جدد من بين تلك اللواتي اعتدن المكوث في أسفل السلم وعلى الطاعة دون أن يكون لهن رأي. فأصبحن قادرات على مبادرات غير متوقعة وتفاني لا حدود له.
يا عمال العالم، اتحدوا!
وأثبتت الكومونة أيضا، عبر شعاراتها كما بأفعالها، أنه ليس للبروليتاريين المناضلين وطن. فهي رحبت بالأجانب الذين أرادوا الانضمام إلى صفوفها وأعطتهم المسؤوليات دون تردد. فعامل الصاغة المجري ليو فرانكل Leo Frankel، والذي كان عضوا في الأممية بعد أن وصل إلى باريس عام 1867، تم انتخابه عضوا في الكومونة من قبل الدائرة الثالثة عشرة وعين رئيسا للجنة العمل والتبادل، حيث لعب أحد أهم الادوار. وأعلنت الكومونة بهذه المناسبة في الجريدة الرسمية أن علمها هو علم الجمهورية العالمية وأن الأجانب الذين يخدمونها ضمنا يصبحون مواطنيها.
كما أن الكومونة لم تتردد في إعطاء منصب القائد العام العسكري إلى البولندي جاروسلاف دومبروفسكي Jaroslaw Dombrowski، وهو ضابط محترف كان قد نفي بعد انتفاضة وارسو عام 1863، وقام بالتطوع لصد الهجمات الأولى من قبل فرساي وأبدى عن قدراته المميزة.
وهذان ليسا الأجنبيين الوحيدين، إذ تم تعداد 1725 أجنبيا بين الكومونيين الذين تم اعتقالهم بعد الأسبوع الدامي، وكثير منهم بلجيكيون وإيطاليون.
وكانت وطنية الكومونيين تتمثل في الدفاع عن باريس ضد المحتل البروسي والجمهورية ضد الجمعية الملكية في فرساي. لكن الكومونة كانت تفرق بين الشعوب وقادتها. وأكدت عن كراهيتها الشديدة لحروب الفتوحات وانتقدت الجنرالات "الجبناء أمام بروسيا" وقد تحولوا إلى "صواعق الحرب ضد الفرنسيين". وهل هناك من دليل عن رذالة البرجوازية أفضل من المصالحة التي قامت بين تيير وبسمارك، وذلك ضد باريس؟
رمزيا، في 13 أبريل، وتحت قيادة الرسام كوربيه، هدمت الكومونة عمود فاندوم، وهو نصب تذكاري لتمجيد القوات العسكرية أقامه نابليون الأول في مطلع القرن للاحتفال بمعركة أوسترليتز Austerlitz. بالنسبة للكومونة كان هذا النصب عبارة عن "نصب البربرية" وعبارة عن "إهانة دائمة يقوم بها المنتصرون بوجه المهزومين".
الديموقراطية البروليتارية مقابل الديمقراطية البرجوازية
إذا أشاد ماركس بالكومونة باعتبارها "التركيبة التي عثر عليها أخيرا للسماح بالتحرر الاقتصادي للعمل"، فهذا لا يعود فقط للأصول الاجتماعية لأعضائها المنتخبين. فبعكس حكام وبرلمانيي جميع الأنظمة البرجوازية، لم يكن للكومونيين أي رابط بالبرجوازية الكبيرة، إن هذا ما مكنهم من إرساء دولة من نوع جديد حقا، تجلت فعاليتها في غضون أيام قليلة من خلال إعادة تشغيل جميع الإدارات تقريبا التي خربها تيير.
بداية، قررت الكومونة الفصل بين الكنيسة والدولة وإلغاء الميزانية المخصصة للأديان، أي إعالة الكهنة من قبل الدولة.
وشرعت للبروليتاريا ممارسة الرقابة على مسؤوليها المنتخبين واستبدالهم دون تأخير إذا لم يتحملوا مسؤولياتهم. كما أصبح من واجب العضو المنتخب، إذا ما صاغ مرسوم أو قانون ما، إن يتأكد من تنفيذه ومن نتائجه. كما توجب عليه تأمين الموارد المادية والبشرية اللازمة لتطبيق المرسوم والتي لا يمكنه انتقاؤها سوى من بين أفراد البروليتاريا.
وامتد مبدأ الانتخاب والمراقبة والمحاسبة إلى جميع أجهزة الدولة ومعظم ممثليها بمن فيهم القضاة. كما ألغي الجيش النظامي واستبدل بالشعب المسلح، أي الحرس الوطني ونظام انتخاب القادة الذي كان يمارسه. كما حلت قوات الشرطة المختلفة التي كانت الجمهورية البرجوازية قد أبقت عليها رغم كراهية الشعب المضطهد لها، ونقلت سلطة الشرطة إلى رؤساء البلديات.
هكذا إذن، وضعت الكومونة حدا للتمييز، العزيز جدا على الديمقراطية البرجوازية، بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. فهذا الفصل ليس له هدف سوى خداع السكان، حيث أن السلطة التنفيذية هي التي تمارس السلطة الحقيقية في الجمهورية البرجوازية، وهي تعمد في ذلك على جهاز الدولة المتكون معظمه من كبار المسؤولين والقضاة غير المنتخبين، والمرتبطين بالبرجوازية الكبرى بألف طريقة. في هذا الوقت، في البرلمانات البرجوازية، تلقى الخطابات ويدور الجدال إلى ما لا نهاية في لعبة تنافسية للأحزاب على المناصب المربحة، لينتهوا بعدها بإقرار القرارات المتخذة من قبل السلطة التنفيذية. كما يستخدم معظم البرلمانيون أيضا وظيفتهم كنقطة انطلاق للعمل في البنوك والشركات الرأسمالية.
وضعت الكومونة حدا لهذه الواجهة الديمقراطية واستبدلتها بهيئة نشطة تتمتع بتمثيل أوسع وفوري. بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بإصدارها مرسوما في 2 أبريل بأنه "في جمهورية ديمقراطية حقيقية، لا يمكن أن يكون هناك امتيازات ولا مبالغة في المعاشات": فالحد الأقصى، لجميع الموظفين في مختلف الخدمات العامة، المدنية والعسكرية في الكومونة، قد حدد بمبلغ 6000 فرنك في السنة. كما تم منع المعاشات التراكمية. ففي السابق، كان مدير السكك الحديدية، على سبيل المثال، يتقاضى 100.000 فرنك سنويا، وكان المسؤولون المنتخبون يمنحون أنفسهم 5400 فرنك سنويا، بينما كان وزراء الحكومة يمنحون 40 ألف فرنك. إذن أصبحنا بعيدين كل البعد عن المداخيل الباهظة التي كان يطالب بها، دون أدنى تردد، برلمانيو وكبار مسؤولي الدولة البرجوازية.
تداعيات الكومونة في المحافظات
على وطئ الأحداث الباريسية، حدثت اضطرابات في العديد من المدن الأخرى مثل ليموج، فيرزون، نيفير، سانت إتيان، ناربون، إيكس، تولوز وبوردو. وفي بعض الأماكن، حاولت بعض الأقليات فيها بإعلان كوموناتها الخاصة، ولكنها كانت سريعة الزوال بسبب افتقارها إلى الدعم الشعبي الواسع بشكل كاف، وقبل كل شيء، لضيق الوقت لأنها تعرضت للقمع فورا. قامت محاولتان في ليون في مارس وأبريل. في مرسيليا، استولى المتمردون على المحافظة لبضعة أيام قبل أن يحاصر فيلق من الجيش المدينة ويقصفها وفي النهاية يدخل إليها. وبعد ثماني ساعات من القتال العنيف، اقتادت القوات الحكومية 500 سجين إلى قلعة شاتو ديف. وبعدها ببضعة أسابيع، حاكمت مجالس الحرب زعماء مرسيليا وأعدمتهم.
في لوكروزو، وبعد إعلان الجمهورية، تم تعيين عامل ميكانيكي اسمه دوماي كرئيس للبلدية. في انتخابات الجمعية الوطنية التي قامت في فبراير، فازت قائمته بـ 77 ٪ من الأصوات. مع وصول أخبار 18 مارس، تجمع حشد كبير متحمس أن يحذو حذو باريس. فجاب الحرس الوطني البلدة وحدثت مشاهد تآخي مع الجنود. وفي 26 مارس، أعلن دوماي عن كومونة لوكروزو. لكن في اليوم التالي أرسل ألف جندي قاموا بنزع سلاح قوات الحرس الوطني. وبعد فترة وجيزة، نظم شنايدر انتخابات بلدية جديدة بحضور الجيش. وأيد شنايدر قائمة مرشحين كان يعرضها أرباب العمل على العمال قائلين: "هذا هو الخبز!" في حين كانوا يبرزون لائحة أنصار الكومونة قائلين: "ها هو البؤس!"
بالنسبة للكوموني بينوا مالون: “كل هذه المحاولات فشلت بسبب بقائها مستقلة عن بعضها البعض." لهذا السبب ظلت كومونة باريس معزولة.
كما عانت كومونة باريس من الأكاذيب التي كان ينشرها أهل فرساي بين الفلاحين الجاهلين والبرجوازية الصغيرة في باقي البلاد. خلال شهر أبريل، كتبت امرأة تدير الصحيفة الكومونية المسماة لاسوسيال La Sociale، خطابا للفلاحين، وذلك تحت اسم اندريه ليو André Léo المستعار، فقالت: "الأرض للفلاح، الألة للعامل، والعمل للجميع. […] يقولون لكم: إن الباريسيون والاشتراكيون يريدون أخذ أملاككم. مهلا! أيها الناس الطيبين، ألا ترون من هم الذين يقولون ذلك؟ أليس هم بالذات من ينهبكم كونهم لا يعملون ويعيشون بوفرة من عمل الآخرين؟" كان لديها الإحساس الصائب بأن البروليتاريا يمكنها أن تجر الفلاحين معها في نضالها. الغالبية العظمى من الفلاحين هم مضطهدين من قبل الدولة البرجوازية التي تفرض ضرائب باهظة وتترك ملاكي الأراضي الصغار في بؤسهم. إذا ما ظهرت البروليتاريا أنها عازمة على تحطيم هذه الدولة واستبدالها بدولة في خدمة الطبقات العاملة، يمكنها آنذاك جر جماهير الريف الفقيرة معها. هذا الأمر سوف يتجلى في الثورة الروسية عام 1917.
الهجوم الأول للفرسايين ومرسوم الرهائن
ابتداء من 2 أبريل، شن تيير أول هجوم على باريس، وذلك بتواطؤ المستشار البروسي بسمارك الذي أطلق سراح 60 ألف سجين حتى يتمكن تيير من إعادة تشكيل جيش يزيد عدده عن الـ 100 ألف رجل. والقوات البروسية نفسها قامت بمحاصرة شمال وشرق العاصمة بالكامل. وهكذا، في مواجهة المتمردين الباريسيين، اتفقت الطبقات الحاكمة في البلدين على حماية مصالحهما المشتركة بعد أن كانتا، قبلها ببضعة أيام، لا تزالان في حالة حرب. كما وافق بسمارك أيضا على تأجيل الدفعة الأولى من تعويضات الحرب إلى حين سقوط الكومونة.
كانت العاصمة آنذاك محاطة بأسوار ومداخلها محمية بقلاع. فاجئ الهجوم الباريسيين. فمنذ الهدنة، على حد قول فيكتورين بروشيه، لم نكن نسمع أي صوت للمدفع، وكنا نعيش منذ نشوء الكومونة "في جو من الثقة والأمل". تمكن الكومونيون من صد المهاجمين، لكن الفرسايين أعدموا بالرصاص السجناء، وكان بينهم اثنان من أول أعضاء الكومونة برتبة جنرال: دوفال Duval وفلورنز Flourens. ولمدة أسابيع، استمر القصف والهجمات بشكل متتالي حتى تمكن الفرسايون من دخول باريس. فبدأت الحرب من جديد، حرب طبقية هذه المرة.
أعادت هذه الأحداث الكومونة إلى الواقع بشكل قاس. فاتخذت مرسوما بموجبه يتم اعتقال ومحاكمة أي شخص يشتبه في تواطؤه مع فرساي، ويحتجز الجناة كرهائن. وأي إعدام لأسير حرب أو أحد مؤيدي الكومونة يرد عليه بإعدام ثلاثة أضعاف من الرهائن الفرسايين. في نفس اليوم، تم القبض على رجال دين، بمن فيهم داربواه رئيس أساقفة باريس، وكذلك بعض رجال الدرك. ومع ذلك، لن يتم تطبيق مرسوم الرهائن هذا أبدا. لن يقتل الرهائن الأوائل إلا في نهاية شهر مايو، وذلك ليس حتى بأمر من الكومونة، ولكن على يد الباريسيين الغاضبين من مذابح الأسبوع الدموي. أدركت فرساي بسرعة أن عدد الرهائن قليل –بلغ عددهم الـ 74 بحلول منتصف مايو - وأن الكومونة لا تنفذ تهديداتها. على أي حال، بدا تيير مستعدا للتضحية ببعض الرهائن لتبرير عملية إراقة الدماء التي كان يحضر لها.
الكومونة، من ناحيتها، أرادت منذ اليوم الأول إلغاء عقوبة الإعدام. في 6 أبريل قام كومونيون، رمزيا، بحرق مقصلة في ساحة فولتير.
تطلب الدفاع عن باريس المزيد والمزيد من القوة والتضحية بالنفس. فمن بين البرجوازية الصغيرة الباريسية الذين تعاطفوا مع الكومونة في البداية، كان من شأن بعضهم أن يخاف ويستسلم. لكن البروليتاريا بقيت تناضل حتى النهاية. كانت كتائب الحرس الوطني مشكلة من متطوعين وكانت النساء تنظم الإمدادات وسيارات الإسعاف وكذلك خدمات الإنقاذ للجرحى، ذلك عندما لم يكن يشاركن بنفسهن في القتال.
انجازات الكومونة
لم يكن لدى الكومونة الوقت الكافي لتنفيذ التحولات الاجتماعية التي شرعت فيها. الكومونيون أنفسهم تكلموا عن الافتقار إلى التنظيم وحتى عن "الفوضى" التي سادت في بعض الأحيان. حتى أن ذهب الأمر إلى حد امكانية حدوث انقسام واستقالة بعض المسؤولين المنتخبين، وذلك في الفترة الخطيرة عندما كان الوضع العسكري حرجا. لكن الدفاع عن الكومونة والقضية المشتركة اسكتت الخلافات، وأزادت الطاقات عشرة أضعاف.
وهكذا، على الرغم من ضرورة الدفاع عن نفسها، وعلى الرغم من قصر مدة وجودها، نجحت الكومونة في اتخاذ بعض الإجراءات التي بالأقل كانت تدل عن طبيعتها وعن أهدافها.
تدابير لصالح العمال ولاستعادة السيطرة على الإنتاج
كانت المراسيم الرئيسية التي صبت في صالح العمال قد أتت من قبل لجنة العمل والتبادل والتي كانت تضم ستة أعضاء هم فرانكل ومالون وتياز وشالين ولونجيت وسيريلييه، وجميعهم أعضاء في جمعية الشغيلة العالمية.
في 16 أبريل، اتخذت اللجنة إجراء جذريا قوض الملكية الخاصة. فبعد أن أغلق العديد من أرباب العمل الورش الخاصة بهم، قررت اللجنة الاستيلاء على هذه الورش المهجورة لصالح الجمعيات العمالية، بهدف إعادة إحياء الإنتاج وإعطاء العمل للعمال. بل وكانت هناك فكرة بتوحيد هذه الجمعيات في المستقبل في اتحاد عمالي كبير، كشكل تنظيمي جديد للعمل والإنتاج من شأنه، كما أشار ماركس، أن يسير في الواقع في اتجاه الشيوعية. وقد تصور بعض الكومونيين عن وعي، كما كتب فرانكل، "التحول التدريجي من نمط الإنتاج الرأسمالي إلى نمط الإنتاج التعاوني". ومع ذلك، إذا كان مجلس الكومونة يدعم هذا الإجراء بالإجماع، فإنه ليس بسبب العقيدة، إذ أن التيار الاشتراكي الأكثر انتشارا في الكومونة كان يتبع أفكار برودون التي لم تكن تسير في هذا الاتجاه. لكن كون الكومونة منبثقة من البروليتاريا، وهي كانت في حاجة ماسة إلى العمل، تصرفت الكومونة بحزم وبراغماتية. وقد لقي المرسوم ترحيبا حماسيا، وتم توفير مقرات لاتحاد النقابات العمالية الذي أوكلت إليه مهمة تطبيقه. ولكن نظرا لضيق الوقت، تم استكمال جرد الورش المهجورة فقط.
وطالب فرانكل أيضا أن تشتري الكومونة ملابس الحرس الوطني من جمعيات العمال بشكل أولوي، بدلا من الشركات الخاصة والتي كانت أسعارها أعلى أيضا.
بعد أيام قليلة، أصدرت الكومونة قرارا بحظر عمل الخبازين ليلا. إذ كان عمال هذا القطاع يطالبون بأن يبدأ العمل في الخامسة صباحا فقط، وليس قبل ذلك. كما كانوا يريدون التخلص من المعينين، الموكلين من قبل رؤساء المخابز لتوظيف العمال وفصلهم كما يحلو لهم. احتج أرباب العمل على القرار، لكن الكومونة اختارت معسكرها دون تردد وهو معسكر العمال. وقال فرانكل: “أجد أن هذا هو المرسوم الاشتراكي الحقيقي الوحيد الذي أصدرته الكومونة ؛ قد تكون جميع المراسيم الأخرى أكثر شمولا من هذا، لكن لا شيء منها ذو طابع اجتماعي بحت. نحن هنا ليس فقط للدفاع عن القضايا المتعلقة بالبلدية، ولكن لإجراء إصلاحات اجتماعية. ولإجراء هذه الإصلاحات الاجتماعية، هل يتعين علينا استشارة أرباب العمل أولا؟ لا." كان هذا المرسوم ذو أهمية معنوية بالنسبة لجميع العمال.
كما منعت لجنة العمل الغرامات والخصومات عن الأجور، وهو نظام كان يمكن فرض ضرائب على الموظفين تحت ذرائع مختلفة، مثل الغياب والتأخير وغيرها، حتى تحت ذرائع اخترعت من لا شيء. باختصار، سرقة قانونية وضع حد لها. وعلى نفس المنوال، خططت الكومونة لإلغاء دفتر العمل الفردي، ولكنها لن يكون لديها الوقت للقيام بذلك.
بمواجهة الفقر: إعادة تمديد مهلة دفع المستحقات والرهن، المساعدة العامة
في وقت مبكر من 19 مارس، أعلنت اللجنة المركزية للحرس الوطني عن تمديد الوقف الاختياري للإيجارات والمواعيد النهائية التجارية التي أراد تيير إزالتها. وهذا يعني أن المستأجرين من جهة وصغار الحرفيين وأصحاب المتاجر من جهة أخرى يمكنهم تقسيط ديونهم إذ حددت الكومونة فترة ثلاث سنوات لسدادها، ودون فوائد. بالإضافة إلى ذلك، بات يحق للمستأجرين إنهاء عقود الإيجار متى شاؤا – إذن أصبح من الممكن تغيير المسكن دون الاضطرار إلى دفع رسوم لمالك المسكن السابق. أما بالنسبة للمستأجرين المفصولين من قبل المالك، فقد أصبح لديهم ثلاثة أشهر إضافية للتمكن من إيجاد حل. ولم تتجاهل الكومونة مسألة الملاكين الصغار الذين يشكل هذا الدخل العقاري لهم أحيانا دخلا أساسيا، لكنها قررت أن يتم التعامل معه بشكل منفصل وأن احتياجات من ليس لديهم شيء يجب أن تكون في الاولوية.
في بداية شهر مايو، أثار موضوع مؤسسة المون دو بييتيه monts-de-piété نقاشا. إذ أن هذه المؤسسة تمنح قروضا، متواضعة بشكل عام، للأشخاص الذين، في المقابل، يودعون متعلقاتهم الشخصية كرهن. وعندما لا يتم سداد القرض خلال الوقت المخصص، تقوم هذه المؤسسة ببيع الرهائن بهدف استرداد المبلغ الناقص. خلال حصار باريس، انتشر البؤس لدرجة أنه تم تعليق بيع الأشياء المرهونة. وقامت الكومونة منذ قراراتها الأولى بتمديد هذا التعليق وخططت لإلغاء هذه المؤسسة بكل بساطة إذ اعتبرتها غير أخلاقية. لكن الأمر ليس بهذه البساطة لأنه، كما أشار فرانكل، "إذا إزلنا متجر الرهن، بعدها بأسبوعين، سيظل البؤس كما هو". وقال أنه علينا أولا إيجاد عمل للعمال والحرفيين. وبانتظار ذلك، تم اعتماد إجراء انتقالي: سيتم إعادة الأشياء المرهونة ذات قيمة صغيرة، أقل من 20 فرنكا، لأصحابها، إذا طلبوا ذلك.
كما تولت الكومونة إعادة تنظيم خدمات المستشفيات. كما كانت تنوي وضع نظام لمنح المساعدات في حالة البطالة والمرض. كما تولت تكاليف إعالة أرامل وأطفال الحرس الوطني الذين قتلوا أثناء القتال وقررت بتربية الأيتام على نفقتها الخاصة. بشكل عام، أعلنت أن مساعدة المحتاجين يجب ألا تكون "صدقات" بل "واجب علينا، نحن ممثلي الشعب، التخفيف من بؤسه ودعم شجاعته، من خلال جهودنا الدؤوبة".
المساواة والتعليم للجميع!
المساواة كانت أهم المواضيع بالنسبة الكوميونيين، وكانوا يعتبرونها أحد المبادئ الأساسية للجمهورية.
حتى لو لم يكن لديهم جميعا أفكارا متقدمة بشأن المساواة بين الرجل والمرأة، فإنهم مع ذلك ذهبوا على الفور إلى أبعد من البرجوازية في هذا المجال. خلافا للقوانين الأخلاقية المرساة رسميا، اعتبرت الكومونة على وجه الخصوص أن العلاقات بين فردين دون زواج ليست أقل شرعية من العلاقات ضمن الزواج.
ففي حين كانت زوجات الحرس الوطني تحصل على أجر إضافي، منحت الكومونة نفس التعويض للنساء "غير الشرعيات" لأعضاء هذا الحرس. كما نصت الكومونة، ولأول مرة، على المساواة في الأجور بين المعلمين والمعلمات، معتبرة أن "متطلبات الحياة كثيرة وملحة بنفس القدر للنساء وللرجال ؛ وأنه عندما يتعلق الأمر بالتعليم، فإن عمل المرأة يساوي عمل الرجل".
الكومونيون كانوا يريدون مستقبلا أفضل لأطفالهم. وتدل أعمال الكومونة في مجال التعليم بشكل خاص عن مثلها العليا وحماسها للتقدم.
فالقانون السابق كان قد شجع عام منذ عام 1850 انتشار المدارس الطائفية، فتضاعف عددها خلال عشرين عاما، بينما تم التخلي عن التعليم العلماني. وكان رجال الدين يعملون على الحفاظ على الأفكار الظلامية والمبادئ الاستسلامية. لهذا السبب كانت معاداة الإكليروس تسود بين الكومونيين، ولا سيما بين النساء اللواتي رأين أطفالهن متروكين في أيدي "الدرك اللابسين العباية" (التعبير للينين). وهكذا أرست الكومونة، قبل عشر سنوات من البرجوازية، التعليم العلماني المجاني والإلزامي.
وتم استعادة المعدن الثمين من الصلبان واصنام العذراء وغيرها من الأشياء في الكنائس لإرسالها إلى دار سك العملة كي يتم صهر المعدن وإعادة استخدامه. كما استخدمت العديد من الكنائس أيضا لعقد اجتماعات في المساء، وكانت تزين بالأعلام الحمراء.
وحول الموكل بالتعليم فايان Vaillant مؤسسة يسوعية في وسط باريس إلى مركز عادي للتعليم الفني. وبلورت الكومونة في الواقع فكرة أن التعليم الكامل يجب أن يشمل تدريبا مزدوجا، فكريا ومهنيا.
أخيرا، صدر مرسوم في الجريدة الرسمية بتاريخ 12 مايو يقول: "إن مجموع المعرفة البشرية هو صندوق مشترك يحق لكل جيل أن يستمد منه، بشرط أن يساهم بزيادة الموروث العلمي المتراكم في العصور السابقة لصالح الأجيال القادمة. فالتعليم إذن حق مطلق للطفل، وتوزيعه واجب حتمي على الأسرة، أو على المجتمع في حالة عدم وجودها." ويقول أيضا: "تعليم الطفل حب الآخر واحترامه ؛ وإلهامه بحب العدالة ؛ وبأنه أيضا يجب أن يتعلم لصالح الجميع: هذه هي المبادئ الأخلاقية التي سيبنى عليها التعليم العام الكوموني من الآن فصاعدا."
يمكننا مقارنة هذا النموذج بالعقل الضيق لفلوبير Flaubert، وهو كاتب برجوازي كان يكره الكومونة وناضل ضد حق الاقتراع العام والتعليم الشعبي: "التعليم المجاني الإلزامي لن يفعل شيئا سوى زيادة عدد الحمقى ... الشيء الأكثر إلحاحا هو تثقيف الأغنياء الذين هم، باختصار، الأقوى." كل المسألة ملخصة في هذه الكلمات القليلة: البرجوازية، من ناحية، مستعدة لفعل أي شيء في سبيل الحفاظ على نظامها الاجتماعي وإبقاء المستغلين في البؤس والجهل، بما في ذلك ذبحهم بلا رحمة عندما يرفعون رؤوسهم ؛ ومن الناحية الأخرى البروليتاريا، التي ليس لديها سوى قيودها لتخسرها، تشرع بالنضال من أجل تحرير الجنس البشري بأكمله في نفس الوقت الذي تكافح فيه للتخلص من قيودها.
بنك فرنسا واحترام الشرعية
لا يزال هناك سؤال أثار الكثير من النقاش فيما بعد، وهو كيفية تمويل الكومونة لمشاريعها وتصرفها إزاء البنوك.
كان من الضروري إيجاد المال لتمويل الإصلاحات، وكذلك لدفع رواتب الحرس الوطني الذين طالما شكل راتبهم هذا وسيلة العيش الوحيدة لهم ولأسرهم. لكن الكومونة، التي كانت جريئة للغاية، توقفت هنا عند أبواب الملكية الخاصة. رفضت حتى النهاية أن تفتح أبواب بنك فرنسا بالقوة لأخذ الأموال هناك. بدلا من ذلك، بعد 18 مارس، أرسلت وفدا إلى حاكمها، وكذلك إلى روتشيلدز Rotschild، للطلب منهم، وبكل أدب، توفير الأموال للكومونة. فسارع المصرفيون لتلبية الطلب هذا، واندهشوا بارتياح أنه لم يتم، بكل بساطة، وضع بنوكهم تحت سيطرة الكومونة.
قدمت الكومونة طلباتها إلى بنك فرنسا الذي لباها عدة مرات. ولكن، عند الفحص الدقيق، بلغ مجموع ما دفعه البنك للكومونة عشرين مليون فرنك، لكن نصف هذا المبلغ هو أصلا ملك لمدينة باريس. ومع ذلك، بلغ احتياطي البنك ثلاثة مليارات من نقود وأوراق نقدية وأوراق مالية ومجوهرات وسبائك. إن مندوبي الكومونة، الذين يحترمون الملكية الخاصة أكثر من اللازم، وهم متأثرون بأفكار البرجوازية الصغيرة، لم يريدوا أن يتهموا بأي "سرقة". ومع ذلك، في الوقت نفسه، من خلال فروع المقاطعات، وفر بنك فرنسا لفرساي 257 مليونا، أي عشرة أضعاف ما منحه للكومونة، وهو مبلغ استخدم لتمويل جيش فرساي.
كان من شأن الاستيلاء على بنك فرنسا، بما في ذلك الثروات الخاصة للبرجوازية، منح المزيد من الموارد للكومونة وهي كانت في أمس الحاجة إليها. علاوة على ذلك، كتب إنجلز: "البنك في يد الكومونة، كان أفضل من عشرة آلاف رهينة. إذ أنه كان ليجبر البرجوازية الفرنسية بأكملها أن تضغط على حكومة فرساي لصنع السلام مع الكومونة."
طوال حياتهم، يربى البروليتاريون على احترام الشرعية. وهم أكثر احتراما لها من البرجوازيين أنفسهم الذين يجدون ألف وسيلة للالتفاف عليها عندما يناسبهم ذلك. في الواقع، إن قوانين الدولة ومؤسساتها التي تسهر على تطبيقها، تعمل بطريقة لا يتم فيها تحدي سيطرة الأغنياء. إن على البروليتاريا، إذا أرادت أن تنخرط في النضال ضد هذه الهيمنة، أن تتخلى عن احترام الشرعية البرجوازية. إن دور الثوريين هو تسريع وعي العمال ومنحهم برنامج عمل: يجب على البروليتاريا ألا تستسلم لرحمة الطبقة المهيمنة التي، من جانبها، لا تأبه بالشرعية متى هددت مصالحها.
أصبحت الكومونة رمزا للصراع الطبقي بين البروليتاريا والبرجوازية
الأسبوع الدموي
بالمجموع، استمرت الكومونة 72 يوما قبل أن يقضى عليها. بعد أسابيع من القصف والقتال، تمكن الفرساييون من دخول باريس. خلال الأسبوع الدموي، من 21 إلى 26 مايو 1871، أعدموا بالرصاص، دون أي محاكمة، كل الباريسيين الحاملين السلاح، أو المشتبه في مشاركتهم على المتاريس أو فقط بسبب عدائهم تجاه الجنود أو حتى بكل ببساطة بسبب مظهرهم وثيابهم التي تشير على أنهم من الفقراء. كما أطلقوا قذائف حارقة على أحياء الطبقة العاملة مما تسبب في اندلاع الحرائق الأولى في المدينة، وقد اتهموا الكومونيين بعد ذلك باقترافها. الحقيقة هي أن الكمونيون قد أشعلوا النار في المباني فقط لدى انسحابهم اليائس من الأحياء.
مع ذلك، استغرق الأمر خمسة أيام كاملة للتغلب على جميع المتاريس المشيدة أمام الجنود. ثم قام الفرسايون بتحويل مقبرة البار لاشاز Père-Lachaise وتلة مون مارتر Montmartre وحديقة اللكسمبرغ Luxembourg وغيرها من الأماكن إلى مواقع لإعدام الكومونيين، ليلا نهارا. ولم يشفقون لا على النساء ولا على الأطفال. تحتوي العديد من الشهادات على مشاهد خالدة، مثل هذا الصبي البالغ من العمر 15 عاما الذي شاهده الفرساييون على أحد المتاريس، فبعد أن بدأ بالفرار، عدل عن ذلك وعاد ليقف بنفسه أمام فرقة إطلاق النار. إن كل غضب البرجوازية تركز أيضا في قتل فارلين: إذ تم التعرف عليه في الشارع، فجر إلى مونمارتر وقد قام البرجوازيون والبرجوازيات بشتمه وبالتنكيل به على الطريق، ليصل مشوها وشبه ميت من كثرة العذاب، فوضع على كرسي ليتم إعدامه بالرصاص.
في غضون أيام قليلة، ملأت الجثث المتراكمة فوق بعضها البعض الحدائق والمقابر. والمجزرة لم تتوقف إلا خوفا من داء الكوليرا الذي كانت يهدد بالانتشار.
اليوم، لا يزال المؤرخون يتجادلون حول عدد الكومونيين الذين قتلوا. جنرالات جيش فرساي تحدث عن إعدام 17000 شخص. والقمع لم يتوقف عند هذا الحد. فبعد الأسبوع الدامي، تم اعتقال 40 ألف ناج من المجزرة. حكمت مجالس الحرب على قرابة 10000 منهم بالموت، وتم ترحيل 4000 إلى سجون كاليدونيا الجديدة. وقام عدة آلاف من النساء والرجال الذين تمكنوا من الفرار من أيادي الفرسايين بسلوك طريق المنفى.
الكراهية الطبقية لدى البرجوازية
أيقظت كومونة باريس الكراهية الطبقية لدى البرجوازية. هذه الكراهية التي تختبئ في زمن الهدوء السياسي والاجتماعي تحت غطاء من الثقافة والقانون والأخلاق الفلسفية والدينية، وتذوق الفنون والدنيا، هذه الكراهية تطفو على السطح بمجرد أن يرفع المستغلون رؤوسهم.
وتظهر هذه الكراهية عبر قلم الكتاب البرجوازيين الأكثر موهبة. فكتب زولا Zola، في 27 مايو، واصفا المشهد في شوارع العاصمة: "لن أنسى أبدا ضيق القلب المروع الذي شعرت به أمام هذه الكتلة الدموية من اللحم البشري الملقاة عشوائيا على الطريق. تختلط الرؤوس بالأطراف بشكل بهلواني مروع. من هذا الكومة، تظهر وجوه متشنجة بشعة تماما، مع ضحكة ساخرة تملأ أفواهها السوداء المفتوحة. هنا بعض الأقدام، ويبدو بعض الموتى مقطوعين إلى نصفين، بينما يبدو آخرون أن لديهم أربعة أرجل وأربعة أذرع. يا لهول هذا القبر الجماعي الكئيب. ولكن هذا لا يمنعه من الاستنتاج: "ويا له من درس للشعوب المتفاخرة وطالبي المعارك!" لأن الكومونيين، بالنسبة لزولا وكذلك البرجوازية بأسرها، يستحقون مصيرهم. قبل ثلاثة أيام، استقبل الكاتب دخول أهل فرساي إلى باريس بهذه الكلمات: "فليتم إنجاز التطهير!" وفي إشارة إلى خطر الإصابة بالكوليرا بعد القتال، كتب مرة أخرى: "حتى في حالة اضمحلالهم، فإن هؤلاء البؤساء سيؤذوننا."
لاحقت كراهية البرجوازية الكومونيين لسنوات عديدة. بعد إدانتهم من قبل مجالس الحرب، حرموا من صفة السجناء السياسيين، وعوملوا مثل المجرمين العاديين. كما سكب وابل من الافتراءات على الكومونة. فقط في عام 1880 شعرت الجمهورية الثالثة بالقوة الكافية لمنح العفو للكومونيين. أي القتلة يغفرون لضحاياهم. وعندما علم بأنه سيتم العفو عنه، كتب ألبرت غوليه، الصحفي في جريدة "صرخة الشعب Le Cri du Peuple"، إلى وزارة العدل: "كوني لا اعتبر نفسي مجرما، لا أريد أن تعتبروني تائبا وبالتالي إلحاقي بوصمة عار مسامحتكم. فبين فرساي والكومونة، ليست الكومونة، بل فرساي هي التي تحتاج إلى المغفرة."
وكتب جان بابتيست كليمان، الناجي من المذابح، ردا على العفو، في نص مطول تحت عنوان "انتقام الكومونيين La Revanche des Communeux": "النسيان لا يمكن فرضه... من المفهوم أن يطلبه الجلادون، ولكن أن تقوم به الضحايا فهذا سيكون سذاجة للغاية. إن ذكرى مثل هذه المجازر، على العكس من ذلك، يجب أن تنتقل من الأب إلى الابن للاستعداد للانتقام."
كانت كراهية البرجوازية هي كراهية الطبقة التي، بعد أن وصلت لتوها إلى قمة المجتمع، شعرت أن هيمنتها مهددة بالفعل من قبل البروليتاريا التي انتجها تطور نمط الإنتاج الرأسمالي، ومن قبل قسمها الأكثر تقدما، أي الحركة الاشتراكية. وكان ماركس قد كتب مسبقا أن رأس المال قد جاء إلى العالم "يتعرق الدم والوحل من كل مسام". بعد مذابح يونيو 1848 في باريس، أظهر قمع الكومونة مرة أخرى، الوجه الحقيقي للرأسمالية.
علم العمال الأحمر
لأول مرة في التاريخ إذن، قاد بروليتاريون بنفسهم زمام السلطة، وأصبحت رموز الكومونة رموز نضال العمال الثوريين في جميع أنحاء العالم.
أول هذه الرموز هو العلم الأحمر اذي اختارته الكومونة شعارا لها. وهو علم ظهر من أولى نضالات البروليتاريا، في حين رفضه الجمهوريون البرجوازيون عام 1848. كان ممثلو الكومونة يضعون وشاحا أحمر، كما أتخذت العادة أن تسير الكتائب الكومونية، قبل خوض المعركة، إلى قاعة المدينة رافعين علمهم الأحمر.
في يوم إعلان الكومونة، في 28 مارس 1871، كان العلم الأحمر يرفرف بجانب العلم الجمهوري الثلاثي الألوان في باريس. ولكن بعد الهجمات الأولى من قبل فرساي، في 7 أبريل، نشر ممثلو الدائرة 12 المرسوم التالي: " سيتم رفع علم الكومونة الأحمر فورا على جميع المعالم العامة في الدائرة. ويحظر تزيين أي مبنى خاص بعلم آخر غير علم الكومونة ؛ وبالتالي، سيتعين على المواطنين ضب العلم الثلاثي الألوان في أسرع وقت ممكن، والذي بعد أن كان علم ثورة 1789 ومجدها، تلوث بالخيانات وبالعار من جانب النظام الملكي ليصبح الأن الراية الذابلة للقتلة الفرساييين. فرنسا الكومونية باتت تنكره."
بعد الأسبوع الدامي، مزقت الحكومة البرجوازية الأعلام الحمراء وأعادت العلم ثلاثي الألوان على أقواس المباني الرسمية وعلى أبواب السجون حيث كانت تحبس الكومونة. لذا فإن الرموز مهمة، ومنذ الكومونة، لم يعد بإمكان الطبقة العاملة أن توافق بين هذين العلمين اللذين تواجدا وجها لوجه على المتاريس في عام 1871.
وكذلك لا يعد ممكنا أن تغني بضمير مرتاح نشيدي الأممية والمارسيليا. ذلك لأن كلمات نشيد الأممية قد كتبها أوجين بوتييه Eugène Pottier، عضو الكومونة المنتخب، في اليوم الذي تلا الأسبوع الدامي، وهو يفر من مجالس الحرب. هذه الأغنية، التي تمثل في حد ذاتها تقريبا برنامج نضال البروليتاريا ضد البرجوازية، أصبحت بحق أغنية العمال.
إن ممثلي البرجوازية يغالطون بهذا الخصوص، فهم يمقتون الراية الحمراء والأممية. وليس من قبيل المصادفة أن الإصلاحيين والانتهازيين على اختلاف أنواعهم يؤججون البلبلة بخلط رموز الطبقات الاجتماعية المعادية هذه.
"على أمل أن تعلمنا هزائمنا كيف نغلب!" (جان باتيست كليمان J-B Clément)
من خلال سحق الكومونة، كانت البرجوازية تأمل في القضاء على فكرة الجمهورية العالمية التي حملها الكومونيون. "بهذا كانوا يفكرون"، قال أحد الضباط وهو يدهس بطرف حذائه قطع الدماغ المتبعثرة على الأرض. وقام جاليفيت Galiffet، أحد الجنرالات السفاحين والوزير المستقبلي في الحكومة الجمهورية، بإعدام مائة سجين من ذوي الشعر الشائب، وهو يقول:" أنت كنت شاهدا على أيام 48 إذن أنت مذنب أكثر من الآخرين." كما هتف أدولف تيير، رئيس حكومة فرساي: "سوينا أمر الاشتراكية، وذلك لفترة طويلة!" لكن تطور البروليتاريا كان في مجرد بدايته.
وكتب جان باتيست كليمان: "يجب أن يعلمنا موتانا أن نحيا، مثلما تعلمنا هزائمنا أن نغلب!" وأضاف "لا يكفي أن يكون لديك عقل مليء بالحجج والمشاريع والقرارات الممتازة على الصعيد الاقتصادي. كما لا يكفي حتى أن تكون مضرجا بالسلاح وأن يكون لديك ترسانات ومدافع ورشاشات وذخيرة جاهزة، كل هذا لا يكفي إذا ما افتقر المرء إلى الحس العملي للثورة."
لم يكن الكومونيون يفتقرون إلى الشجاعة ولا المبادرة لإجراء تغيير في المجتمع. ففي غضون شهرين، لقد شرعوا بالسير على السبيل الصائب فيما يخص القضايا الأساسية. لكنهم لم يكونوا على دراية بالأخطار التي تهددهم أو لا بوسائل درءها.
مكن نضال الكومونيين ماركس من صياغة الاستنتاجات التي قدمها في 30 مايو في خطابه أمام المجلس العام لجمعية الشغيلة العالمية، تحت عنوان "الحرب الأهلية في فرنسا". الأمر الذي مكن الأحزاب العمالية الثورية التي تأسست بعد سنوات قليلة من بناء نفسها على أسس جديدة وتخطي مراحل جديدة. وعشية ثورة أكتوبر، في أغسطس 1917، لم يكن صدفة تركيز لينين في كتابه الدولة والثورة على تجربة عام 1871.
خلاصة
لا تزال الكومونة تثير الجدل في الوقت الحاضر، ولكن، كاستعارة لمقولة ماركس، فالتاريخ يعيد نفسه الآن في شكل مهزلة! في الآونة الأخيرة، في مجلس بلدية باريس، احتج أحد أعضائه، وهو يميني، على الدعم الذي قدمه المجلس لجمعية أصدقاء كومونة باريس والتي تسعى على حفظ ذكراها. وفقا له، فإن الجمعية تمجد "الحرائق التي أشعلتها الكومونة وتدميرها لمساحات شاسعة من العاصمة". تماما كما كان يقول الفرساييون قبل 150 عاما في حين أنهم هم الذين تسببوا بالحرب الأهلية وأشعلوا النار بباريس وأراقوا الدماء!
وتحدث هذا العضو المنتخب أيضا عن الـ"عشرة ملايين فرنسي الذين شاركوا في تمويل بناء كاتدرائية القلب المقدس Sacré coeur". وهي قد تم تشييدها بدءا من عام 1875 على تلة مون مارتر، وذلك بشكل رمزي في المكان الذي تم فيه إطلاق النار على الجنرالين ليكومت وتوماس في 18 مارس. كان أصحاب المشروع أعداء للكومونة بالفعل. وقد كتب أحدهم عند وضع الحجر الأول: " إنه ليوم مفرح لكل محبي الدين والوطن هذا اليوم الذي تم فيه التصويت على تشييد كنيسة [...] في المكان الذي تواجدت فيه آخر بطاريات المدافع التي تم نزعها من يد الانتفاضة". وهكذا عادت الكنيسة. وبات على باريس أن تكفر عن جرائمها، وهي، على ما يبدو وفقا للبعض، لم تنته بعد من فعل ذلك.
أما اليسار، فهو بالطبع يدافع عن الكومونة. ولكن يجب القول إنه من السهل له إحياء ذكرى هذه الثورة بكونها قد هزمت. في المجلس البلدي، استشهدت إحدى أعضاء الحزب الشيوعي، وبحق، عن "التقدم" الذي أحدثته الكومونة، لكنها لم تقل كلمة واحدة للتذكير بأن البروليتاريا في ذلك الحين كانت في السلطة وحاملة السلاح. إذ أن هذا الأمر، وحده دون أي شيء آخر، هو ما سمح بإحلال تلك الخطوات التقدمية.
من ناحيتهما، أصر ماركس وإنجلز على الاستنتاج التالي: لا يمكن للبروليتاريا أن تكتفي برغبتها في إجراء إصلاحات ولا أن تستولي على جهاز الدولة البرجوازي كما هو، للقيام باستخدامه لصالحها. بل يجب أن تحطم هذا الجهاز وتستبدله بدولتها الخاصة. خلاف ذلك، فإن أي تقدم سيكون دائما عرضة لخطر أن يتم تبديده بالقوة في اليوم التالي.
والدولة تنبثق، بشكل عام، جراء وجود التفاوت الاجتماعي وهي عبارة، في المقام الأول، عن جهاز قمعي. وحتى عندما تقوم الدولة بتولي المهام الضرورية والمفيدة لسير المجتمع ككل، فإنها لا تكون محايدة أبدا، بل هي دائما في خدمة الطبقة الحاكمة التي تحتاج إلى هذا الجهاز في سبيل الحفاظ على نظامها الاجتماعي. على عكس اللاسلطويين، يعرف الماركسيون أنه من المستحيل إلغاء وجود الدولة كليا وقت الثورة. بل يجب على البروليتاريا، عند قيامها بالثورة، أن تتولى إدارة المجتمع. بعبارة أخرى، تحتاج البروليتاريا إلى دولتها الخاصة بمواجهة البرجوازية لكي تتمكن من فرض التحولات الاقتصادية التي ستسمح باندثار الطبقات الاجتماعية.
لكن للثورة البروليتارية طابع مختلف عن ثورات الماضي، لأن البروليتاريا لا تطمح إلى أن تحل محل الطبقات الحاكمة القديمة. فإنها طبقة المنتجين الذين يريدون التحرر من قيود الاستغلال وكذلك جعل الاستغلال مستحيلا عبر إزالة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. عندما يثور العمال، فإن الدولة التي ينشئونها ستكون مختلفة عن غيرها لأنها ستكون في خدمتهم وستعتمد عليهم. هذا ما شرعت الكومونة بفعله، وذلك لأول مرة في التاريخ، مع ممثليها العماليين المنتخبين كمسؤولين يمكن تنحيتهم عن منصبهم في أي وقت، وأجورهم التي لم تزد عن أجور العمال المؤهلين. وقال إنجلز: انظر إلى كومونة باريس، إنها دكتاتورية البروليتاريا!
وكلما مضت الثورة قدما، كلما تطور الاقتصاد في اتجاه الشيوعية وبات من الممكن قيام الشعب نفسه بتولي إدارة المهام التي تسيطر عليها الدولة اليوم، وهو سوف يقوم بذلك بشكل ديمقراطي، عبر مؤسسات خالية من أي طابع قمعي.
في رأينا، إن أفضل طريقة للإحياء ذكرى الكومونة والدفاع عنها هي بمواصلة نضالها. فبعد مائة وخمسين عاما، نذهل مدى قرب الكومونيين منا، ولا سيما أولئك الذين كانوا ينادون بالاشتراكية وكانوا مناضلين ومنظمين للبروليتاريا، وغالبا ما كانوا من أتباع الأممية الأولى. في عالمنا الحالي، يمكن للمرء استخدام ما قاله فارلين تقريبا حرفيا، خلال المحاكمة الثانية لـ AIT في باريس في مايو 1868، عندما توجه إلى القضاة متحدثا بالنيابة عن جميع المتهمين:
"إن العصور القديمة قد ماتت بسبب احتفاظها بآفة العبودية في طياتها؛ وسيؤول نفس المصير بالعصر الحديث إذا لم يأخذ في الاعتبار معاناة العدد الأكبر من الناس وإذا ما استمر في الاعتقاد بأن على الجميع العمل وتحمل المشقة من أجل توفير الرفاهية لعدد قليل من المترفين. [...] طالما يمكن للرجل أن يموت جوعا عند باب قصر ممتلئ بكل الأشياء، فلن يكون هناك شيء مستقر في المؤسسات البشرية. ضع إصبعك على العصر الحالي، ستجد كراهية خافتة بين الطبقة المحافظة والطبقة التي تبغى الانتفاض والتحرر ؛ كما ستشهد عودة الخرافات التي اعتقدنا أنها قد ولت بحلول القرن الثامن عشر ؛ وسترى الأنانية الجامحة والفجور في كل مكان ؛ إنها علامات الانحطاط. إن الأرض تنهار تحت قدميك. فحذار! "
مصدر النص: https://www.union-communiste.org/ar/lnsws-bllg-lrby
النص باللغة الفرنسية: https://www.lutte-ouvriere.org/publications/brochures/150-ans-apres-lactualite-de-la-commune-de-paris-de-1871-155999.html