الاقتصاد الرأسمالي في الازمة : بخطى جديدة نحو الهاوية - 2014

Εκτύπωση
ترجمة

نص تحليل الوضع الاقتصادي الذي تم اعتماده في المؤتمر السنوي لحزب النضال العمالي في نهاية 2014.

نشر في مجلة النضال الطبقي رقم 164 - في ديسنبر 2014

****************

على الرغم من بعض التحسن المؤقت، الحقيقية أو الوهمي، لم يتمكن الاقتصاد الرأسمالي بعد من الخروج من مرحلة الأزمة المتفاقمة الناجمة عن الأزمة المالية لعام 2008.

في الاتحاد الأوروبي، يقدر متوسط معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، على مر السنوات الست الاخيرة، بما يقارب الصفر. هذا المتوسط يخفي فوارق بين البلدان حتى الامبريالية منها في أوروبا الغربية : فالناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو بأكملها لا يزال يشكل في الربع الثاني عام 2014 سوى 2.5٪ من مستواه في بداية عام 2008. أما في إسبانيا وإيطاليا فقد بلغ الانخفاض ال9.1٪ و6.3٪ على التوالي (بدائل اقتصادية - أكتوبر 2014). أما مؤشرات الإنتاج الصناعي، والتي تشكل مقياسا أكثر أهمية من الناتج المحلي الإجمالي الذي يبقى فكرة غامضة، فإنها لا تزال منخفضة بشكل واضح مقارنة بما قبل عام 2008. فاستثمارات الشركات الخاصة انخفضت بشكل مفاجئ بعد الأزمة المالية ولم تتعافى حتى الآن. إنه لانكماش "لم يسبق له مثيل منذ إنشاء منطقة اليورو" بحسب تعبير مركز الدراسات المستقبلية والمعلومات. ويضيف هذا المركز بأن "أوروبا هي ليست المنطقة الوحيدة المعنية. فالضعف العالمي للاستثمارات ، كما تم ملاحظته من قبل صندوق النقد الدولي، هي مصدر (...) لضعف النمو المحتمل في العالم المتقدم". كما نسمع جوقة القادة السياسيين والمعلقين الاقتصاديين الذين يزايدون حول "إنعاش الاستثمار الذي يشكل تحديا كبيرا للسياسة الاقتصادية في عام 2015..." نعم، ولكن كيف يمكن ذلك والشركات الرأسمالية لا تستثمر لأنها لا تؤمن بتوسع السوق. أما الدول فإنها لا تستطيع الاستثمار لأنها غارقة في الديون حتى أعناقها. بل إنها، على العكس، تقوم بخفض الإنفاق بما في ذلك في الخدمات العامة والبنية التحتية الضرورية.

وإن كان حال ألمانيا أفضل من غيرها من بلدان الاتحاد الأوروبي خلال عدة سنوات، ألا أنها، في عام 2014، بدأت تدخل في عملية ركود. وحتى خلال السنوات التي كان الناتج المحلي الإجمالي الألماني فيها لا يزال في نمو نسبي بالمقارنة مع الدول الأوروبية الأخرى، كان الاستثمار قد بدأ بالطباطؤ في هذا البلد. فمعدل استثمارات القطاع الخاص انخفض بين عامي 2000 و2013 من 21٪ إلى 17٪ وذلك على الرغم من تراكم رؤوس الأموال الذي أنتجته الصادرات. أما تراجع الاستثمار العام فكان الأكثر خطورة. ففي عام 2013، بلغ حصة الاستثمار العام في الناتج المحلي الإجمالي 1.6٪ فقط، أي أقل بكثير من متوسط منطقة اليورو (2.1٪) بل أنه أقل حتى من بولندا واليونان ...! والنتيجة هي بالتدهور السريع للبنية التحتية في ألمانيا والذي بات يشكل عائقا بالنسبة للاقتصاد الألماني. فكما لخص مقال في صحيفة دير شبيغل: "إن شركات التصنيع الألمانية تبيع السيارات والآلات ذات الجودة العالية في العالم، ولكن عندما تحتاج مدرسة للترميم، فإنه يعود على الآباء والأمهات بتمول الأشغال المستلزمة. إن الشركات والعائلات تملك مليارات اليورو ولكن نصف جسور الطرق السريعة في البلاد هي في حاجة ماسة إلى التجديد." (كورييه انترناسيونال).

ويمكن لألمانيا أن تتباهى بعد بمعدل البطالة الذي لا يزال أقل من متوسط معدل البطالة في منطقة اليورو. ولكن ذلك يرجع إلى قوانين هارتز التي قامت بتقليس حجم تعويضات البطالة ومدتها وبفرض الوظائف الصغيرة ذات الأجور المتدنية. إن النصر المزعوم على البطالة هو ليس إلا عملية توفير اليد العاملة الرخيصة لأرباب العمل في المانيا.

وانتعاش الاقتصاد الأمريكي، الذي يقدمه الاقتصاديون البرجوازيون باعتباره فسحة أمل، هو ليس كذلك إلا بالنسبة لأرباح الشركات التي عادت إلى أعلى مستواياتها منذ العام 1947. وتستخدم هذه الشركات أرباحها القياسية لإثراء المساهمين، فوزعت 900 مليون دولار كأرباح في العام 2013، أي نحو 100 مليار أكثر مما كانت توزعه في سنوات الازدهار ما قبل الأزمة. وقامت 30 شركة ضمن مؤشر الداو جونز بشراء 211 مليار من أسهمها في عام 2013، الامر الذي أسعد البائعين وغيرهم من المستثمرين.

إلا أن ما يهم الجماهير العاملة أكثر هو حجم البطالة. تفخر إدارة أوباما بانخفاض معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى 5.9٪ في سبتمبر 2014 وهو ما يمثل انخفاضا ب1.3٪ في السنة. لكن، مع ذلك، تعني هذه النسبة وجود 9.3 مليون عاطل عن العمل في الاقتصاد الرأسمالي الأول في العالم. في الواقع، وباعتراف الإحصاءات الرسمية، هناك 7.1 مليون عامل بدوام جزئي قسري - أي أنهم عاطلين عن العمل بشكل جزئي - كما أن عدد أولئك الذين، بسبب الإحباط، قد كفوا البحث عن العمل، يقدر ب2.2 مليون. معدل البطالة الحقيقي إذن هو ضعف ال6٪ المعلن. وأكثر أهمية من معدل البطالة هو تطور عدد الموظفين بدوام كامل، فعددهم قد انخفض من 121 مليون في عام 2007، إلى ,8119 مليون في سبتمبر عام 2014، وذلك بينما نما عدد سكان الولايات المتحدة بنسبة 18 مليون نسمة. فوراء التلاعب بالإحصائيات هناك حقيقة أن نسبة الموظفين بين الأميركيين في سن العمل لم تكن أبدا منخفضة إلى هذا الحد منذ عام 1978.

لعدة سنوات، تم تقديم عدد من البلدان النامية باعتبارها محركات النمو العالمية.فهذه الدول، كالبرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا - التي يضاف إليها في بعض الأحيان تركيا وإندونيسيا وكوريا الجنوبية - بدأت بتكذيب المتفائلين الذين راهنوا عليها لانعاش الاقتصاد الرأسمالي العالمي. لا يزال معدل النمو الرسمي في الصين مرتفعا ولكنه آخذ في التناقص، من حوالي 10٪ بين عامي 2000 و2010، إلى حوالي 7٪ هذا العام. ما هي حصة التنمية الحقيقية - أي الصناعية - في هذا النمو مقارنة مع حصة المضاربات العقاراية وارتفاع الأسعار الذي يرافقها؟ ففي نواح كثيرة، يذكرنا ارتفاع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للصين بحال اسبانيا قبل بضع سنوات، عندما كانت تتألق بين دول أوروبا الغربية... حتى انفجار فقاعة الإسكان وانهيار هذا القطاع ووقف البناء، مما أدى إلى ركود في جميع أنحاء الاقتصاد الإسباني. ويبدو أن الأزمة قد بدأت بالفعل في القطاع العقاري الصيني، وهو يمثل نحو 15٪ من الناتج المحلي الإجمالي الصيني. ففي العديد من المدن الرئيسية، انخفض حجم التداول بشكل حاد خلال الربع الأول من العام 2014، الأمر الذي كبح حمى البناء هذه. ونظرا إلى المديونية الثقيلة التي تقع على كاهل البلديات وغيرها من المؤسسات المحلية في سبيل تمويل حمى العقارات، بدأ شبح أزمة مصرفية ومالية خطيرتين بالظهور.

وتلعب الصين منذ سنوات عديدة دور الدافع لاقتصاد إفريقيا والبرازيل. فإن قسم كبير من الصادرات الأفريقية جاءت لتلبية طلب الصين (50٪ من المعادن و25٪ من النفط الخام). أما البرازيل التي ترسل 20٪ من صادراتها إلى الصين، فإن مجرد تباطؤ النمو الصيني يؤدي تلقائيا إلى تفاقم تباطؤ اقتصادها. لهذا سببب، مع غيره من الاسباب، قد بدأ ركود اقتصاد البرازيل.

هكذا إذا، بدأ بنيان الدول النامية هذه بالتصدع هذا العام. فدخل اقتصاد البرازيل بحالة ركود وتلقى الاقتصاد الروسي ضربات متتالية من هراء انخفاض سعر النفط، المورد الرئيسي لها، وحالة الحرب مع أوكرانيا والنتائج المترتبة عن الاجراءات العقابية الغربية. وفي الهند، انخفض النمو إلى أدنى مستوياته منذ عشر سنوات.

يترجم هذا الانخفاض العالمي في الإنتاج إلى انخفاض أسعار المواد الخام. فخسر مؤشر أسعار المعادن 9.6٪ هذا العام في حين انخفض سعر خام الحديد بنسبة 41٪، وهو أدنى مستوى له منذ 5 سنوات (إحصاءات مينرال انفو*). وتقع قطاعات الانتاج الاساسية هذه، وفي مقدمتها النفط، تحت سيطرة الشركات الكبرى. لكن هذه الشركات تتبع سياسة مالتوس الرجعية في تعاملها مع تراجع الطلب، فتقوم باغلاق المناجم، لا سيما مناجم الحديد، وتسرح العمال، الامر الذي يؤثر سلبا على اقتصاد الدول المنتجة.

إن الشركات الرأسمالية الكبيرة، التي لا تقوم باستثمار أرباحها المرتفعة في الانتاج، تعج بالنقود. وقدرت "لوموند الاقتصادية" مؤخرا وجود حوالي 2000 مليار دولار من المبالغ النقدية المتراكمة في السنوات الأخيرة لدى 2300 أكبر شركة أمريكية غير مالية. وهذا الرقم، بتعبير لوموند، "مذهل... (لأنه) يوازي الناتج المحلي الإجمالي لروسيا. وهو يشكل ذخيرة ضخمة بانتظار أن يتم استثمرها". ذلك باستثناء حقيقة أن هذا الاستثمار المزعوم لا يعني خلق وسائل جديدة للإنتاج، ولكن في أحسن الأحوال، الاستيلاء على شركات أخرى، وفي أسوئها، استثمارها في المضاربات المالية. فوراء تعبير "استثمار" يتخفى التحول النوعي للاقتصاد.

وعلى الرغم من التنويع الا متناهي للإنتاج والاستهلاك منذ ماركس، ومن وراء تطور السوق المالي، لا يزال الاقتصاد الرأسمالي يواجه التناقض الأساسي في كيانه : فقدرته غير المحدودة على زيادة الإنتاج تصطدم بقيود المفروضة من قبل السوق، أي قدرة السوق الاستهلاكية. فالشركات الرأسمالية، مهما كانت قدرتها على الاستثمار، ومهما توفرت لديها اليد العمالة والاعداد المتزايدة من العاطلين عن العمل، فأنها لا تستثمر في الانتاج إن لم يكن ذلك مربحا عبر بيع البضائع المنتجة. لكن توسع السوق العالمي قد تضاءل إلى حد التوقف في العقود الاخيرة. ومع تفاقم الأزمة ابتداءا من عام 2008، أدى ارتفاع معدل البطالة والتدابير المتعددة التي طالت القوة الشرائية للجماهير، إلى تفاقم انخفاض القدرة الاستهلاكية بشكل عام.

أمام تقلس السوق الاستهلاكية، تقوم الطبقة الرأسمالية، في سبيل تثمير رؤوس الأموال المتراكمة لديها، باللاستثمار في القطاع المالي. ومن بين هذه الاستثمارات نجد العروض العدوانية للحصول على عقد من المنافسين. تلاحظ صحيفة "الاصداء" الاقتصلدية بأن "الهجمات المعادية قد بلغت ذروتها التاريخية في العالم. الهجوم في سبيل الدفاع هو القاعدة التي تفرض على السوق لعمليات الاندماج والاستحواذ. فمنذ بداية العام، بلغت القيمة المتراكمة للشركات التي استهدفتها هذه العروض العدوانية ما يقدر ب545 مليار دولار. وهذه المستوى من محاولات الاستحواذ لم يتم بلوغه في السابق، لا في بداية القرلل الحالي ولا حتى في سبعينيات القرن الماضي".

وتؤدي هذه العمليات، كما هو الحال جميع أزمات الاقتصاد الرأسمالي، إلى تفاقم التركيز في رؤوس الأموال. لكن هذا التركيز لا يؤدي إلى ترشيد الإنتاج. ذلك لأنه يتم بسكن أساسي على مستوى سوق المال. ووفقا لمنظمة أتاك*، تسيطر 147 شركة على 40٪ من الاقتصاد العالمي. وأصبحت القدرة على إظهار قوة مالية كافية لشراء الشركات المنافسة من بين الصفات التي يؤخذ بها للمضاربة في سوق الأسهم.

وأرباح الشركات، التي تؤمن السيولة الضرورية للمضاربات المالية، تستمر بالتراكم، وذلك عبر الاستغلال المتزايد للعمال: من ضغط الأجور والمرونة في عقود العمل إلى زيادة وتيرة العمل. فللبرجوازية الكبيرة التي تحتكر ملكية المصانع والآلات ووسائل الإنتاج، يشكل هدم حياة العمال أمر ضروري لحماية وزيادة ثروتها رغم وجود الأزمة. وبالنسبة لمساهمي الشركات الكبيرة، الأزمة ليست كارثة، بل فرصة يجب اغتنامها. فبفضل الأزمة تمكنت الشركات الأقوى من السيطرة على الاضعف منها، الامر الذي يحصر السلطة الاقتصادية في أيدي عدد قليل من البرجوازية الكبيرة.

إن عدم قدرة الاقتصاد الرأسمالي التغلب على أزمته يشكل السبب الأساسي لتفاقم الحرب الطبقية التي تقودها الطبقة الرأسمالية ضد العمال وما ينتج عن ذلك من إفقار للطبقات الشعبية. وفي الحرب الطبقية هذه، تصطف الدول وراء مصالح البرجوازية الكبيرة: ليس فقط بما تؤمن للشركات الخاصة من وسائل متعددة لكي تتمكن من زيادة الاستغلال، من تخفيض للفوائد القانونية القليلة التي أنشأت في الفترات الأكثر ازدهارا في الاقتصاد الرأسمالي بهدف تأمين السلام الاجتماعي، ولكن الدول تقوم أيضا بلعب دور جابي الاموال من جيوب الطبقة العاملة والطبقات الدنيا بشكل أعم، مما يغذي سوق المال. وتمارس جميع دول العالم الرأسمالي سياسة التقشف.

ووراء تعدد أشكال هذه السياسات وتنوع "المبررات" الكاذبة للقادة السياسيين الذين يفرضونها، نجد نفس الآلية الأساسية التي تقوم بتخويل الامبالغ المتزايدة من الطبقات الشعبية نحو رأس المال الكبير. سداد الدين العام وضمان دفع الفوائد المترتبة أصبح مبدأ الاقتصاد الرأسمالي المتهالك والمتأزم. وهذا المبدأ الذي تردده الدول ومن ورائها جوقة السياسيين ووسائل الإعلام كأنه حقيقة بدائية. لكن وراء هذا الشعار يكمن سوق المال التي تتنتزع بوحشية من المجتمع ما يتطلبه رأس المال، ذلك حتى دون المرور عبر عملية الإنتاج والاستغلال المباشر.

بالتسبة للعمال، الاستنتاج الأول هو بأن تزايد الاستغلال وتزايد الضغوط المالية من قبل الدول لن يتوقفا يوما. ذلك باستثناء حدوث انفجارات اجتماعية بشكل يهدد النظام البرجوازي ككل. بذلك، فإن أي برنامج للدفاع عن العمال يجب أن يستند على القناعة الواضحة بأن هذه الأزمة تدفع بالطبقة الرأسمالية إلى زيادة عنفها في التهجم على المقومات المعيشية للطبقة العاملة. فلا يمكن تأمل شيء من البرجوازية ومن أي من التيارات السياسية التي تضع نفسها في إطار الرأسمالية.

لا يمكن للطبقة العاملة تحقيق حقها الشرعي بالحصول على عمل وأجر لائق إلا إذا فرضت ذلك بكفاحها ضد الشركات الكبرى والدولة. والبرنامج الانتقالي، الذي صاغه تروتسكي قبل أكثر من سبعة عقود خلال أزمة خطيرة أخرى للاقتصاد الرأسمالي، لا يزال يخاطب واقعنا. فبوجه البطالة، يجب توزيع ساعات العمل بين جميع القوى العاملة وذلك دون خفض مستوى الاجور. وضد انخفاض القدرة الشرائية، يجب فرض السلم المتحرك للأجور لتزيد تلقائيا من ارتفاع الأسعار. وبما أن هذه المطالب تعيد النظر بديكتاتورية رأس المال على الشركات، وبالتالي، بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فإن لديها طابع ثوري بارز. هذا هو السبب الذي يجعل المدافعين عن الملكية الرأسمالية يحاربون هذه المطالب، ويتم وصفها بالطوباوية من قبل أولئك الذين ينتقدون سير الرأسمالية دون النية بتخطيها.

وأبعد من الحاجة للدفاع عن مقوماتها المعيشية بوجه الحرب المتزايدة الشراسة من قبل البرجوازية في ظروف الازمة الحالية، تواجه الطبقة العاملة مشكلة أكبر بكثير. فالأزمة المالية في عام 2008، والتي كادت تؤدي إلى "أزمة شاملة" بحسب تعبير القادة السياسيين، هي ليست سوى آخر اضطراب في سلسلة طويلة من الازمات المالية التي يتقطعها فترات ركود في الاقتصاد الرأسمالي على امتداد الأربعين سنة ماضية. والأزمات أصبحت أكثر تكررا وأكثر شدة والدول عاجزة تماما بوجهها. فكل مبادرة سياسية للتغلب على مشكلة تتسبب بمشكلة جديدة. لم يحدث هناك انهيار مفاجئ كما كان الحال في عام 1929، ولكنه تم تمديد الأزمة في الزمن، دون حلها.

فكانت سياسة ضخ الائتمان، أي زيادة الدين، القاسم المشترك لجميع المبادرات التي قدمت للحؤول دون ركود السوق. فقام المنحى المالي المتزايد للاقتصاد بخنق العجلة الااقتصادية. فبلغ الدين العالمي قيمة تفوق الخيال. "إن الدين العالمي قد تعدى ال100000 مليار دولار"، بحسب ما ذكرت صحيفة "الاصداء"* في مارس 2014، وذلك نقلا عن تقرير صادر عن بنك التسويات الدولية، وهو نوع من البنك المركزي للبنوك المركزية. وتشكل ديون الدول وحدها 43000 مليار، بعد أن زادت بقدر 2.5 من قيمتها خلال 12 عاما فقط! وبذلك يصل دين كل إنسان على هذا الكوكب إلى 6142 دولار! أي أن كل طفل يولد، بما في ذلك لدى أشد الناس فقرا في البلدان الاكثر فقرا، فهو يلد مع هذا الدين! ويستمر القادة السياسيون بالثرثرة حول ضرورة "تسديد الدين العام" ...

إن قيمة الدين العالمي تبدو خيالية بحجم استحالة تسديدها. الامر الذي دفع ببعض الاقتصاديين إلى التساؤل عما إذا لم يكن الاحسن بالنسبة للنظام الاقتصادي القيام بإلغاء الدين العام بشكل كلي أو جزئي. ما يعني تعميم ما تم القيام به مع عدد من البلدان في الماضي والأرجنتين مؤخرا. فالدولة الأرجنتينية، بإعلانها عن افلاسها في عام 2001، انتهى الامر بالدائنين - أي البنوك الكبرى - وبعد عدة سنوات من المساومات، بالموافقة على "إعادة هيكلة" ديون الأرجنتين وتخفيضها بنسبة 70٪ من قيمتها. فبالنهاية، من الافضل استصلاح 30٪ من الدين بدلا من لا شيء. ذلك بالإضافة إلى أن إفلاس الأرجنتين كان قد يؤدي إلى إفلاس مؤسسات أخرى وبذلك إلى إلى كارثة مالية.

ولكن وإن قام الدائنون، أصحاب 93٪ من ديون الارجنتين، بالموافقة على "إعادة هيكلة" ديونها، لكن بعضهم رفضها. ولدى أحدهم على الأقل لديه القدرة على تعبئة جيش من المحامين لفرض تسديد الديون المستوجبة بالكامل. والانكى من ذلك هو أن هذا الصندوق المالي لم يقم بإعارة الدولة الأرجنتينية، بل إنه قام فقط بشراء سندات الدين في السوق المالية مقابل 50 مليون $ في حين كان سعر هذه الأوراق المالية منخفض جدا. وبما أن قيمة هذه السندات بلغت ال 800 مليون $، فهذا يشكل ربح بنسبة 1500٪! هل يمكن لأي استثمار انتاجي تحقيق هذه النسبة من الارياح؟ إن التصرف غير مسؤؤل من قبل صندوق الائتمان هذا، حتى بما يتعلق بمصالح النظام الرأسمالي، يجسد القوانين والقيم هذا النظام الاقتصادي حيث الربح هو ملك اللعبة، وحيث الرأسمال الخاصة مقدس. لنذكر بهذا الصدد قول لينين بأن الرأسمالية قادرة حتى على بيع حبل مشنقتها.

وهذا الدين العالمي العملاق قد تراكم خلال مختلف فترات الصعود والهبوط للأزمة الاقتصادية والتي كان آخر حلقاتها قيام جميع الدول الإمبريالية في عام 2008، أمام خطر انهيار النظام المصرفي العالمي، باتباع سياسة الائتمان المفتوح وغير المحدود للقطاع المالي (وذلك بأشكال مختلفة وهي لا زالت سارية من قبل كن من البنك الفيدرالي الاميركي والبنك المركزي الأوروبي).

ويشكل هذا الدين خطرا قاتلا بالنسبة للمجتمع، وهو لا يفيد حتى الاقتصاد الرأسمالي نفسه. فبالنسبة لأصحاب رؤوس الأموال الصغيرة والمتوسطة، بات الحصول على قروض أصعب من أي وقت مضى، في حين أن العالم الرأسمالي لم يعج يوما بهذا القدر من الاموال وأوراق الائتمان. وحدهم الاقوى بين المتنافسين يمكنهم تداول هذه الاموال والديون والاوراق المالية التي أصبحت تمثل بديلا عن سوق المنتجات المادية والخدمات الحقيقية.

بعد أن قامت الرأسمالية،منذ أكثر من قرن من الزمن، بتحقيق إنجازها التاريخي بتطوير الاقتصاد إلى درجة لم يسبق لها مثيل، تقوم الرأسمالية اليوم باستعادة بعض الجوانب التي ميزت حقبتها البدائية. فرأس المال المتعلق بالدين بدأ يأخذ الأسبقية على الإنتاج. وهذا ليس سلوكا محدودا بصندوق خاص "شرس" على حد تعبير أولئك الذين لا ينتقدون إلا بعض "تجاوزات" الرأسمالية. بل هو الميل الأساسي للرأسمالية اليوم. وهذا التغيير الجوهري هو المسؤول عن كون الأزمات لم تعد تلعب، كما في السابق، دور المنظم - الوحشي- للاقتصاد. والحقيقة هي أنه منذ أزمة فيض الإنتاج الأولى التي أعقبت أزمات العملة أوائل 1970، لم يشهد الاقتصاد فترة انتعاش فعلية. والحلول المقترحة بين سياسات تقشف والحلول الاستثمارية لا يمكن أن تتم إلا ضمن حدود ضيقة، يترتب عليها زيادة العبء الضريبي. كل هذا لا يؤدي إلى العودة إلى العمالة الكاملة وال إلى دورة جديدة من نمو الاقتصاد الإنتاجي.

ومهما أسف بعض الاقتصاديون لاختناق الاقتصاد الإنتاجي بسبب الاقتصاد المالي، فالبرجوازية لا تكترث لمصدر ربحها بل لحجم الربح فقط! وفي الحالتين، ومهما كان شكل الرأس المال الكبير، أنتاجي أو مالي، نجد نفس البرجوازية الكبيرة، وهي تكمن وراء شركات الإنتاج الكبرى كما وراء البنوك ووراء "السوق المالية". وهذه البرجوازية الكبيرة لا تكترث لإذا ما أدى تزايد الاقتصاد المالي وسياسات الائتمان بالضرر على البرجوازية الصغيرة والمتوسطة. فالحرب هي الحرب، وقوانين الاقتصاد الرأسمالي هي قوانين الغابة، حتى بين أصحاب رؤوس الأموال. لكان ما يقلق البرجوازية الكبيرة، بلسان أولئك الذين يهتمون بمصالحها العامة هو أن يؤدي تراكم الديون والقروض إلى "أزمة شاملة"، إي إلى إعادة سيناريو كابوس الخميس الأسود الشهير في عام 1929، وعلى أسوأ منه.

فكل المعلقين تقريبا على الاقتصاد، يتوقعون حدوث انهيار في القتصاد ولكن دون أن يكون لديهم أدنى فكرة عن مكان الذي سوف يبدأ منه بين العديد من الفقاعات التي تنتجها ضخ السيولة الضخمة من جانب البنوك المركزية. سوق السندات؟ الأسهم؟ المضاربة على أسعار الصرف؟ سوق الديون السيادية؟ "ادوات المضاربة المشتقة" أم سوق العقارات؟

هناك ما يقارب القرن من الزمن، عندما أدت المنافسات الامبريالية بالعالم إلى الحرب العالمية الأولى، قام لينين بوصف الإمبريالية "بمرحلة الرأسمالية الكهلة". وطالما لم تقم البروليتاريا الثورية بتدميرها، سوف تبقى الرأسمالية الكهلة على قيد الحياة: فالانتهاء من هذذا التنظيم الاجتماعي العشوائي، مهما طال عمره، يتطلب تنحية الطبقة الاجتماعية المستفيدة منه عن السلطة، وذلك بفعل طبقة اجتماعية جديدة حاملة لتنظيم اجتماعي أكثر تفوقا. والإنسانية قد دفعت ثمن تأخير ثورتها الاجتماعية مع أزمة عام 1929 والهمجية النازية، والحرب العالمية الثانية، وبعد ثلاثة عقود من الهدوء النسبي، مع أزمة اقتصادية جديدة ونمو غير عادي لتطفل القطاع المالي مع كل الخطرالتي ينطوي عليه.

من هنا، فالمسألة المطروحة على المجتمع تتجاوز إلى حد بعيد الحاجة للدفاع عن المقومات المعيشية للطبقة العاملة، وهي الطبقة الإنتاجية الرئيسية. فالمسألة هي مسألة مستقبل الإنسانية. لقد توقف نمو المجتمع على أسس الرأسمالية. إن مستقبل البشرية يتوقف على قدرة الطبقة العاملة على الارتفاع ألى مستوى المهمة التاريخية التي تعود لها وحدها، حيث لا يمكن لأي قوة اجتماعية أخرى فعلها: إسقاط حكم البرجوازية الكبيرة واستبدال الاقتصاد الرأسمالي بنظام اقتصادي من شأنه السماح للإنسانية استئناف مسيرتها في التقدم.

21 أكتوبر 2014

*

مينرال انفو : Mineralinfol

الاصداء : les echos

أتاك : ATTAC