المغرب العربي: الطبقات الشعبية والبرجوازية الوطنية والامبريالية - نص مفصل - 1985

Drucken
ترجمة

المغرب العربي: الطبقات الشعبية والبرجوازية الوطنية والامبريالية

حلقة ليون تروتسكي - باريس في 1 آذار / مارس 1985

* * * * * * * * * *

عناوين الفقرات

استعمار مدمر

القوميون الأوائل

بدايات الحركة العمالية والشيوعية

حرب الريف

في المهجر : ولادة نجم شمال إفريقيا

عواقب الجبهات الشعبية

نحو قمع علني للقوميين

العواقب الكارثية للستالينية

الحرب العالمية الثانية : تحطم آمال القوميين

سطيف، أيار / مايو 1945

تصاعد الحركة القومية في أعقاب الحرب العالمية

تونس: الفلاقة الأوائل

نحو التمرد الجزائري

الاول من تشرين الثاني / نوفمبر 1954

1955-1956: خطر انفجار عام وتحول مسار الإمبريالية الفرنسية

تحقيق الاستقرار في تونس والمغرب

الجزائر: جبهة التحرير الوطني تفرض نفسها في القيادة

الأزمة السياسية للإمبريالية الفرنسية

من عام 1958 وصولا إلى استقلال الجزائر

الحصيلة

ملاحق

بدايات الحركة العمالية في تونس

عملية إخضاع المغرب

 

 

إن تسمية المغرب العربي تأتي بالاصل من "جزيرة مغرب الشمس"، وهو بالتأكيد ليس جزيرة بالمعنى الحقيقي، بل منطقة محددة جيدا بالمحيط الأطلسي غربا والبحر الأبيض المتوسط شمالا والصحراء شرقا وجنوبا. وهو يشكل اليوم منطقة تضم خمسة دول وهي: المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا. وهي أيضا منطقة ذات تاريخ طويل ومر عليها العديد من الشعوب. فأقدم سكان معروفون فيها هم البربر. هؤلاء السكان البيض، والذين يتكلمون لغة أصلية، قد جاؤوا بلا شك من الشرق أو الجنوب ليحلوا محل سكان أقدم منهم قد أثروا بعاداتهم وبتقاليدهم. وشهد المغرب بعد ذلك وصول الفينيقيين الذين أسسوا مدينة قرطاج، ثم الرومان والوندال، وأخيرا، في القرن السابع ميلادية، الفتح العربي الذي تلا ولادة الدين الإسلامي والذي امتد عبر المغرب وصولا إلى اسبانيا وجنوب فرنسا.

فتم تعريب المغرب العربي وأسلمته كذلك. وأصبحت مدنه مقر حضارة متألقة سيطرت عليها اللغة العربية، في حين ظلت لهجات وعادات البربر سائدة في المناطق الداخلية. وعرف أيضا حقبات مضطربة حيث انضم إلى سكانه الأندلسيون الذين طردهم المسيحيون عند استردادهم لإسبانيا ومن ثم اليهود الذين طردوا من إسبانيا على يد الملوك الكاثوليك، ناهيك عن من جاءه من مختلف أنحا حوض المتوسط. ويمكننا القول بأن هذا يشبه كثيرا كيفية تشكل سكان فرنسا وجنوب أوروبا.

وفي الجزء الغربي المشرف على المحيط الأطلسي، والمعزول نسبيا عن بقية شمال أفريقيا في مقابل اتصاله المباشر مع بقية أفريقيا وأسبانيا، تشكلت إمبراطورية مستقرة نسبيا وهي إمبراطورية الشريف، سلف الدولة المغربية، والتي ظلت مستقلة حتى أوائل القرن العشرين. لكن الجزائر وتونس قد وقعتا، في القرن السادس عشر تحت سيطرة الإمبراطورية التركية، في أوج قوتها. في الواقع، لقد استمرت مقاطعات الجزائر وتونس، على الرغم من تبعيتهما لسلطان القسطنطينية، بالعيش باستقلالية نسبية تطورت في ظلالها البرجوازية التجارية. وتم في هذه الفترة ترسيم الحدود الحالية لهذه البلدان والتي ما زال يشوبها شيء من عدم الدقة. وكانت هذه الحدود تناسب بالتأكيد مصالح الطبقات الحاكمة والسلطات المحلية الواهنة التي وضعها الأتراك أو سلطان المغرب. ولكن لم تكن هذه الحدود تناسب المنطق السكاني. فمن جانبي الحدود كان السكان يتحدثون العربية في حين كانت القبائل البدوية تمر عبرها دون عوائق. فإذا كان هناك حدود لغوية في المغرب العربي فإنها لا تتطابق مع الحدود الإدارية حيث أن اللهجات البربرية بقيت متواجدة في المناطق الجبلية، من منطقة القبائل والأوراس في منطقة الريف المغربية وفي جبل أطلس، أو في الواحات الصحراء من ليبيا وفي موريتانيا. فما انفك المغرب العربي من أن يشكل كيانا واحدا على المستوى الإنساني، حيث يشعر البربر والعرب بالانتماء إلى نفس المجموعة. كما أنه قد تميز بتاريخ مشترك ألا وهو تاريخ الاستعمار خاصة من قبل فرنسا وجزئيا من قبل وإسبانيا وإيطاليا.

إنه هذا التاريخ المشترك، المؤسس لتونس والمغرب والجزائر، الذي سوف نتناوله في حديثنا اليوم. إن نضالات الشعوب المغاربية ضد الاضطهاد الاستعماري الفرنسي لا يزال يلقي بثقله حتى اليوم على الوضع السياسي في المنطقة. وهي قد أثرت بشكل مباشر بالطبقة العاملة هنا في فرنسا، وهي ما زالت تؤثر في نواح كثيرة.

استعمار مدمر

استمر الاستعمار في المغرب العربي، والذي بدأ مع احتلال الجزائر، ما يقارب الـ80 عاما. كان فظيعا لا سيما في الجزائر حيث تم بشكل مسلح منذ البداية. وفي المغرب وفي تونس، مر الضغط الإمبريالي من خلال ضروب النصب التقليدية من قروض وديون قسرية، ولكنه قد ولد أيضا انتفاضات شعبية أرسل قوات التدخل المسلحة لقمعها. كان لا بد من استعمال أشد أنواع القمع بوجه أولئك الذين لم يقبلوا بالخضوع، بما في ذلك حيث كانت السلطات من سلطان وباي قد بدأت بالتكيف مع الاستعمار. ونحن لن يروي بالتفصيل هذا التاريخ الطويل والذي استمر من عام 1830 إلى عام 1912. والحقيقة هي أن اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان معظم شمال أفريقيا تحت السيطرة الفرنسية : الجزائر منذ أكثر من 80 عاما وتونس منذ 35 عاما والمغرب منذ عامين. كان جزء صغير من المغرب مخصص لاسبانيا وكانت ليبيا مستعمرة ايطالية. وفرنسا كانت قد ضمت الجزائر في حين قد وضعت كل من وتونس والمغرب تحت وصايتها. هذا الشكل من أشكال الهيمنة، وإن كان أقل وحشية في الظاهر، كان يهدف إلى تسهيل قبول السكان للهيمنة الأجنبية وتبادل مصالح القوى الأخرى.

لكن تأثير الوصاية لم يكن أقل تدميرا.

فالاستعمار قد استولى على المناجم، أي الاراضي الجيدة، وبات المغرب العربي عرضة للنهب من قبل البنوك والشركات الفرنسية الكبيرة.

في البلدان الثلاثة الواقعة تحت السيطرة الفرنسية، كانت عواقب الاستعمار والهيمنة الإمبريالية كارثية. ولكن التدمير في الجزائر كان أشد وذلك بسبب طول فترة الاستعمار وغزو المستوطنين. في سبيل ضمان سيطرتهم على البلاد، شجعت الأنظمة الفرنسية المتعاقبة عملية الاستيطان المكثف في الريف الجزائري.

فكان الترويج بين السكان الفقراء في جنوب فرنسا واسبانيا وايطاليا ومالطا عن إمكانية جني ثروة بشكل سريع في الجزائر. فبلغ عدد الأوروبيين الذين استقروا في البلاد في عام 1896 الـ 578000 مستوطن. ولكن الثراء لم يطال الجميع، بل على العكس من ذلك. فالكثير ممن سكنوا الريف التحقوا أخيرا بالمدن هربا من الظروف المعيشية القاسية هنالك. فتكونت هكذا فصيلة من السكان "البيض الصغار" من عمال وموظفين وحرفيين وتجار الذين ليسوا ولكنهم كانوا يتمتعون ببعض الامتيازات بالنسبة للسكان الأصليين.

وفي الريف، هيمنت الزراعة الرأسمالية الكبيرة التي أمنت اغتناء عدد قليل من المستوطنين، وذلك عبر زراعة القمح والعنب للتصدير. فتم إعادة تنظيم اقتصاد البلد بأكمله بما يناسب مصالحهم.

وتبدل تكوين المجتمع الجزائري بشكل عميق ومدمر. فالغزو العسكري وقمع الانتفاضات المعادية للاستعمار والاستيلاء على الأراضي، كل هذا قد أدى إلى تدمير الاقتصاد الريفي التقليدي فولد تناقص فعلي لعدد السكان: فتوجب الانتظار حتى عام 1880 لكي يستعيد الجزائر تعداده السكاني المسجل في عام 1830 والبالغ ثلاثة ملايين نسمة. فتم تدمير الطبقة الأرستقراطية القبلية التقليدية وكذلك الطبقة النحيلة التي شكلتها البرجوازية التجارية وأيضا حرفيي المدن.

فبين بلدان المغرب العربي، كان الجزائر البلد الذي تحمل أكبر عبئ للاستعمار الأوروبي.

القوميون الأوائل

وكانت تونس أول من شهد، في بداية هذا القرن العشرين، بلورة حركة احتجاجية بوجه السلطة المطلقة للنظام الاستعماري، وقد نشأت الحركة بين التجار الأغنياء والوجهاء وعلماء الجامعة القرآنية. فمنذ عام 1907، تأسست حركة اسمها "الشباب التونسي". لكنهم لم يعارضوا وجود السلطات الفرنسية بل طلبوا منها فقط أن تترك لهم مكان صغير في سلطة بلادهم. ولكنها الحرب العالمية الأولى هي التي قامت، على مستوى المغرب العربي كما في العديد من البلدان الأخرى، بتسريع تطور المعارضة للوجود الاستعماري.

ففي تونس، وخلال الحرب، شهد الجنوب حركة تمرد شملت كل القبائل وكانت مرتبطة بتمرد قبائل ليبيا ضد بدأ الغزو الإيطالي عام 1912. وفي نهاية الحرب، كانت الأوساط العربية المسيسة في حالة غليان. وفي فبراير 1920، أصبح حزب "الشباب التونسي" تحت اسم "حزب الدستور" مطالبا بمنح تونس نظام حكم دستوري.

كما تطورت الحركة القومية أيضا في الجزائر حيث كانت شبه معدومة في السابق. فأطلقت حركة الشباب الجزائريين في عام 1912 أول بيان لها وقد لاقى شعبية نسبية، وذلك بفضل زعيم الحركة الأمير خالد ووابنه الكبير عبد القادر. ودفعت شعبيته السلطات الاستعمارية إلى القيام بنفيه في عام 1923.

بدايات الحركة العمالية والشيوعية

غداة الحرب العالمية الأولى، نمت في شمال إفريقيا طبقة عاملة مؤلفة من السكان الأصليين. وكانت دول هذه المنطقة قد شكلت الاحتياطي البشري لتأمين ما لزم من محاربين ومن عمال لمصانع الدول المستعمرة خلال هذه الحرب. فكان لهذا نتائج هامة بالنسبة للجزائريين الذين تم تجنيدهم وعلى وجه الخصوص أولئك الذي تسنى لهم الاحتكاك بشكل أو بآخر بالحركة الشيوعية الوليدة في فرنسا. ومنهم من شارك حتى في التمرد الذي طال الأسطول المحارب ضد الثورة الروسية.

وبالتالي، تطورت الحركة العمالية في المغرب العربي. ففي ربيع عام 1919، امتدت موجة الإضرابات التي طالت فرنسا إلى الجزائر وانضم العمال الجزائريون إلى العمال الفرنسيين في النضال. كما شارك الآلاف من الجزائريين في مسيرات الأول من أيار / مايو عامي 1919 و1920، في الجزائر العاصمة وفي وهران.

وفي تونس، كانت الحركة العمالية قد بدأت في وقت سابق. ولكن في العشرينيات اكتشف عدد أكبر من العمال التونسيين سلاح الإضراب والعمل النقابي.

في روسيا، قامت السلطة السوفيتية الوليدة بمخاطبة عمال العالم اجمع. وكان ذلك نوع جديد من الخطاب إذ أنه حتى ذلك الحين، كانت الحركة العمالية في البلدان الامبريالية تتجاهل مصير الشعوب المستعمرة. ثم كان لانقسام الحزب الاشتراكي في فرنسا في كانون الاول / ديسمبر 1920، والذي أدى إلى تأسيس الحزب الشيوعي، انعكاسات فورية في تونس والجزائر.

ففي تونس، وبينما كانت الروح الاستعمارية والتعامل الأبوي / البطرياركي متفشيان داخل الحزب الديمقراطي الاجتماعي المحلي، كان الحزب الشيوعي الناشئ في عام 1921 يسعى للتأثير بالبروليتاريا التونسية. فكانت جريدته "المستقبل الاجتماعي" مكتوبة باللغة العربية العامية، وكان يروج لأفكاره انطلاقا من مصالح البروليتاريا العالمية. فبالنسبة للشيوعيين آنذاك، وكما عبر عن ذلك أحد النصوص، فالحزب الشيوعي "كما الاحزاب الاخرى المنادية بالاستقلال، سوف ينال لنا الحرية الوطنية ولكنه الحزب الوحيد الذي سوف يحررنا من عبودية العمل المأجور عبر احلال الملكية الجماعية". نعم لشعار "تونس للتونسيين"، ولكن أيضا: "تونس للعمال".

أما في الجزائر، ورث الحزب الشيوعي الهيكل القديم للحزب الاشتراكي والذي كان مندمجا كليا بالحزب الاشتراكي في فرنسا. فالاتحادات الشيوعية في الجزائر، والتي كانت حينها حصرا منظمات مؤلفة من أوروبيين، كان يشوبها الافكار العرقية التي كانت سائدة حينها بين البيض والموروثة من الحزب الديمقراطي الاجتماعي. وإضافة إلى هذا العائق، وابتداء من عام 1924، تعرض الحرب الشيوعي في الجزائر إلى قمع شديد، كما كان الحال أيضا في تونس حيث تم حظر الحزب الشيوعي في ايار / مايو 1922.

حرب الريف

لم يلزم الحركة الشيوعية المغاربية والفرنسية الانتظار مطولا لتثبت للشعوب المستعمرة، وبشكل ملموس، بأنها تقف إلى جانبه بوجه الإمبريالية. حيث اغتنمت الفرصة منذ عام 1924- 1925، خلال حرب الريف. ففي هذه الجبال الواقعة في شمال المغرب وحيث لم تكن القوى الاستعمارية قد احكمت سيطرتها بعد، نشب تمرد حقيقي بوجه الاستعمار.

ففي صيف 1921، في حين كان الفرنسيون قد أحكموا سيطرتهم على جزء كبير من جنوب المغرب، كان الاسبان في شمال البلاد لا يزالون يسعون جاهدين للحصول على حصتهم من الارض. وإذ في منطقة الانوال، يتعرض احد الجيشين الإسبانيين إلى هجوم حوله إلى أشلاء على الرغم من تعداده البالغ عشرين ألف رجل.

فبلغت الدهشة كافة أرجاء العالم. إذ تمكنت بعض مجموعات من الفلاحين المسلحين بأسلحة بسيطة من هزم قوات تفوقهم قوة بعشرة أضعاف! فأرسلت بعدها اسبانيا تعزيزات هائلة، ولكنه استلزمها عدة أشهر للتمكن من استعادة الأراضي المفقودة. وذلك لأنها واجهت تنظيما وما يشبه الدولة من جيش كان قائده عبد الكريم الخطابي المميز بصلابته.

وفي نهاية 1924، وحسب كل الاحتمالات كانت الحرب لصالح فوز قوات عبد الكريم، قام الجيش الفرنسي بفتح جبهة جديدة في الجنوب. فكانت كتائب عبد الكريم الخطابي متجهة نحو مجزرة كون الجيش الفرنسي من أقوى جيوش العالم آنذاك. ولكن، مرة أخرى، رأينا الجيش الفرنسي يتقهقر بشكل أسرع حتى من الجيش الاسباني.

لكن فرنسا واسبانيا المتحالفتان، نجحتا في نهاية المطاف بتصحيح الدفة وتحقيق الفوز. فالخمسة وسبعون ألف محارب في صفوف قوات عبد الكريم كانوا بمواجهة ثمانمائة ألف محارب في إجمالي القوات الاستعمارية. لكن مقاتلي الريف كانوا يتحلون بطاقة شعب يعرف لماذا يحارب. فبقي عبد الكريم الخطابي، رغم هزيمته، فائزا معنويا في أعين الجماهير المضطهدة من قبل نفس الاستعمار في أماكن أخرى من المغرب العربي وأفريقيا وحتى في الشرق.

في الجزء الاوروبي أيضا من فرنسا، لاقى تمرد الريف تضامنا لدى قسم كبير من الطبقة العاملة، على الأقل القسم الاكثر وعيا فيها. وكان اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SFIO) في الحكومة وموافقين على الحرب. لكن الحزب الشيوعي الحديث التأسيس تولى المهمة المشرفة بتنظيم التضامن مع مقاتلي الريف. فعبد الكريم الخطابي، وإن كان من الوجهاء الذين تعلموا في اسبانيا، وإن كانت طموحاته لا تمت بشيء إلى الشيوعية حيث كان هدفه مجرد انشاء دولة مستقلة في المغرب، إلا أن ذلك لم يكن ليغير شيء من واجب الأحزاب الشيوعية في فرنسا في التضامن مع التمرد.

فما إن دخلت فرنسا في الحرب، حتى دفع الحزب الشيوعي بنشطائه في حملة من الدعاية والتحريض ضد الحرب. ودعا الشباب الشيوعيون الجنود الى رفض الانصياع وبشكل جماعي للضباط، وكذلك إلى التآخي مع مقاتلي الريف.

وحل أول إضراب سياسي منظم ضد الحرب الاستعمارية في 12 تشرين الاول / أكتوبر 1925.

في المهجر : ولادة نجم شمال إفريقيا

في شمال أفريقيا، في أوائل العشرينات، كان الشيوعيون لا يزالون ضعفاء. ولكن في فرنسا، كان الحزب الشيوعي يتمتع بالفعل بقوة وبجمهور كبيرين. وكان من دون شك في أوساط العمال الجزائريين المهاجرين إلى فرنسا أكبر إمكانية لإنشاء حزب عمالي ثوري حقيقي لشمال أفريقيا.

فكان عدد هؤلاء المهاجرين حوالي المائة ألف، 92000 بالضبط في عام 1923. ومنذ عام 1921، كان الحزب الشيوعي قد أسس "الاتحاد بين المستعمرات" الذي كان يهدف إلى استقبال العمال القادمين من المستعمرات على أساس الأممية البروليتارية والنضال ضد الاستعمار. من جانبها، شهدت الكنفدرالية العامة للشغل الموحدة (CGTU) دفق مئات العمال الجزائريين الذين احتل بعضهم مسؤوليات نقابية قبل أن يقتنعوا بالافكار اشيوعية.

في عام 1924 قدم الحزب الشيوعي للترشيح في الانتخابات التشريعية في باريس المناضل الجزائري علي مصالي الحاج، مما أكسبه احترام العديد من المغربيين، حتى بين القوميين. وأخيرا، في عام 1926، أسس المناضلون الجزائريون في الاتحاد بين المستعمرات منظمة جديدة تحت اسم "نجم شمال إفريقيا".

كان بعض النشطاء الذين كانوا وراء تأسيسها مرتبطين بشكل وثيق بالحزب الشيوعي. لكن الارتباط أصبح أكثر تعقيدا في حالة مصالي الحاج، الرجل الذي سرعان ما أصبح العنصر الرئيسي للنجمة. كان مصالي الحاج قد ولد في عائلة برجوازية صغيرة في مدينة تلمسان. إذ كان والده فلاحا وكانت أمه ابنة قاض من الوجهاء. وكان هو من الاوساط الشعبية التقليدية جدا في نفس الوقت، وبشكل خاص على المستوى الديني. وكان مصالي قد استدعى في الجيش الفرنسي في الحرب العالمية، ثم عاد إلى فرنسا حيث عمل في مصنع، ثم في الأسواق الشعبية. وقد انضم إلى الحزب الشيوعي وكان يبدو مقتنعا بالأفكار الشيوعية. إلا أنه قد ظل متعلقا جدا بالتقاليد، بما فيها الإسلام.

وكانت دعوات نجم شمال إفريقيا للثورة ضد الظلم الاستعماري والمطالبة بانسحاب فوري للقوات الفرنسية واستقلال المستعمرات تلاقي صدى بين العمال الجزائريين.

ونشطاء النجمة، المنظمين في مجموعات صغيرة قاموا بالنشاط المنهجي في المقاهي وفي المساكن الجماعية التي كان يرتادها العمال الجزائريون، وتواصلوا مع نقابات الشركات التي تضم العديد من هؤلاء العمال. وكانت هذه السياسة ناجحة حيث أعلنت المنظمة بعدها بعام عن بلوغها الـ 3500 عضو.

وقدم الحزب الشيوعي لنجمة الشمال مساعدة مادية حيوية. ففتح لها مكاتبه وأمن لها طباعة منشوراتها. ولكن بدأ التوتر في نهاية عام 1927. فمصالي الحاج كان ينظر دائما بريبة لنفوذ الحزب الشيوعي على المنظمة. ولا بد أنه كان هناك شيء من هذا القبيل، لأن الحزب الشيوعي كان منذ ذلك الوقت متأثرا بشدة بالسياسة الستالينية. ولكنه كان وراء جفائه أيضا مضمون سياسي على الصعيد الوطني. إذ أن قادة نجم شمال إفريقيا بدؤوا بالتركيز بشكل متزايد على التقاليد الجزائرية، بما في ذلك اشارتهم إلى الإسلام.

وسرعان ما باتت رغبة النجم بالابتعاد بنفسه عن الحزب الشيوعي ملحوظة. فحاول الاخير حل المشكلة عبر مطالبة قيادة المنظمة، وبكل بساطة، بأن تنصاع إلى توجيهاته. لكن مصالي دعى إلى اجتماع الجمعية العمومية التي صوتت بالإجماع، في أوائل عام 1928، للاستقلال التام لنجمة الشمال عن الحركة الشيوعية.

مع ذلك، لم يسع مصالي إلى قطع اللعلاقات نهائيا. إذ كانت النجمة في حاجة حيوية إلى مساعدة الحزب الشيوعي. وكان العديد من مناضليها لا يزالون مرتبطين بالأفكار الشيوعية بفضل ماضيهم وحتى لأنها كانت من ضمن قناعاتهم. وعلاوة على ذلك، كانت أساليب التنظيم السرية التي علمت في صفوف الحزب الشيوعي مفيدة للمنظمة. فعندما أعلنت الحكومة عن قرار حلها في عام 1929، لم ينقطع عملها بل واصلت تعزيز موقعها في جميع أنحاء فرنسا.

وخلال جمعية نشطائها العمومية في أيار / مايو 1933، أكد النجم وجوده ليس فقط كمنظمة مناهضة للاستعمار ولكن أيضا كحزب سياسي. وتم حظر العضوية المزدوجة في نجمة شمال افريقيا والحزب الشيوعي وأبعدت بسبب ذلك بعض الناشطين عنها.

وفي الجزائر، كانت الاوضاع تتغير تحت تأثير الأزمة. فالفلاحون الذين طردوا من الريف تدفقوا إلى المدن حيث لم يجدوا فرصا للعمل. وعلاوة على ذلك، أدت البطالة التي كانت سائدة في فرنسا إلى موجة عودة للعمال الجزائريين، ومنهم من كانوا مناضلين في نجم شمال إفريقيا. كما أطلقت النجمة صحيفة جديدة تحت عنوان "الأمة"، موجهة على حد سواء للمهاجرين في فرنسا وللقاطنين في الجزائر. إن اسم الصحيفة، الذي يشير إلى المجتمع الإسلامي، يوضح كيف كانت النجمة تركز بالفعل على المشاعر الدينية. وتنامت النجمة وازدادت اصدارات صحيفة الامة في الجزائر حيث تمكن أحد مناضليها عام 1931 من تنظيم عدد من الخلايا في منطقة القصبة في مدينة الجزائر وكذلك العديد من الخلايا في الشركات مع عمال كانوا متأثرين بالأفكار الشيوعية. وكان هؤلاء يوزعون كل من صحيفة الامة إلى جانب بعض المنشورات الدعائية المنسوخة عن الحزب الشيوعي. في الواقع، ظلت الروابط قائمة بين الحزب الشيوعي ونشطاء نجمة شمال افريقيا حتى سنوات 1935ـ 1936.

القوميون في تونس وفي المغرب

أخذ تطور الحركات القومية في المغرب وفي تونس طابعا أكثر تقليدية.

في المغرب، ظهرت القومية السياسية في وقت متأخر نسبيا، ابتداء من عام 1930، لكن لا بد من القول بأن القتال من أجل احتلال البلاد لم يكن قد انتهى بعد، وكان لا يزال يواجه مقاومة شرسة من قبل السكان، حيث أن آخر منطقة متمردة، في جبال الأطلس الصغير، سقطت في ربيع 1934، بسلاح الطيران والتشكيلات الآلية.

وفي هذا البلد، الذي لم يقع فعليا تحت الاستعمار، كان إصدار مرسوم "الظهير البربري" في أيار / مايو 1930 هو ما أثار ردة الفعل السياسية الأولى للشباب القومي. وكان المثقفون الشباب من عائلات كبيرة من البرجوازية هم المقدامون. بعضهم (كعلال الفاسي)، قد جاء من الجامعة القرآنية وكان مفعما بالفكر التقليدي، ولكن البعض الآخر كانوا متخرجين من أرفع الجامعات الباريسية وقد تطور فكرهم في الحي اللاتيني إلى جانب قوميين شباب آخرين من شمال أفريقيا من تونسيين وجزائريين.

كان "الظهير البربري" محاولة من جانب الحكومة الفرنسية لتقسيم البلاد بين البربر والعرب. فتحت ذريعة الدفاع عن هذه العادة البربرية، توجب إنشاء محاكم عرفية بربرية تابعة للمقيم العام، وهو ممثل الحكومة الفرنسية، وليست تابعة للسلطان. فجاء الرد سريعا من المساجد حيث هب الشباب القومي لإنقاذ الديانة الإسلامية بوجه هذا الهجوم وكان ذلك فرصة لهم للتصالح مع المجتمعات التقليدية. وإن قامت الصحافة الإستعمارية بتسميتهم بـ"عصابة من البلطجية"، إلا أن السلطات اضطرت إلى سحب مشروعها.

و هكذا حارب "الشباب المغاربة" الوجود الفرنسي تحت راية الدين وتحت راية حماية التقاليد المغربية وفي عام 1933، أصبحوا "لجنة العمل المغربي" التي أعلنت عن ولائها للسلطان. وهكذا أصبح السلطان، ورغما عنه بالنسبة للقوميين الشباب، رمزا للكفاح من أجل الاستقلال مع استمراره لعب دور الدمية في يد الإمبريالية باسم التعاون مع الحكومة الفرنسية تحت راية الانتداب.

وفي تونس، نشأ في عام 1934 حزب قومي جديد سمي بـ"الحزب الحر الدستوري الجديد" وذلك لتمييزه عن الحزب الحر الدستوري. وكان هذا الحزب، الذي أسسه المحامي بورقيبة، يمثل مصالح البرجوازية الصغيرة، وكان مواليا جدا للغرب، حيث كان يريد فقط الضغط على السلطات الفرنسية بهدف كسب استقلال تونس تدريجيا. وسعى هذا الحزب الى اصطفاف مختلف طبقات المجتمع وتوحيدها وراءه. وهم نشطاؤه على تأطير الجماهير الشعبية ووضعها تحت قيادة بورقيبة الذي أصبح "المحارب الأسمى".

وكان هؤلاء النشطاء في كثير من الأحيان من البرجوازية الصغيرة التي درست في فرنسا ولكنها كانت من دون أمل بالتمكن من الارتقاء اجتماعيا. فلم يترددوا من ملاقاة الجماهير والتحدث مع الفلاحين والبرجوازية الصغيرة في المدن وذلك كوسيلة لكسب "الشعب".

ولكن بالنسبة لبورقيبة ومحيطه، لم يكن هناك مكان للصراع الطبقي. ففي الوقت الذي كانت الطبقة العاملة تتجه بشكل متزايد نحو العمل النقابي، قام الحزب الحر الدستوري الجديد بتنظيم "كشافة المسلمين المتشددين" و"منظمات شبابية" ترتدي البلوزات والأحذية السوداء، وكان يؤكد على معاداته للإشتراكية وللشيوعية. وكان بورقيبة يتعمد استخدام المعتقدات الدينية، ذلك من دون أن يكون مسلما أصوليا، حيث أنه ينادي بالحداثة وبالجمهورية، ولكنه كان صاحب شعار "لا إصلاحات قبل الاستقلال،" فكان يندد بتلك النساء من البرجوازية التقدمية الصغيرة اللواتي ثرن ضد الحجاب. كان استخدام الدين والدعوة إلى احترام التقاليد يقدم له الوسيلة للحمة الفئات الاجتماعية المختلفة وراء حركته وكان يسمح بإيهام الطبقات الشعبية بوجود مصالح خلقية ومبدئية تربطها بالبرجوازية الصغيرة والطبقات الغنية.

عواقب الجبهات الشعبية

في الثلاثينيات، التي كانت سنوات الأزمة المالية العالمية، تدهور الوضع الاقتصادي في المغرب العربي. فتدفق المزارعون إلى المدن بعد أن دفعهم الاستعمار، وبعض الإقطاعيين المرتبطين به، إلى النزوح من أراضيهم. وبدأت مجموعات من المشردين تتجمع في ضواحي المدن الكبيرة، وبدأت الأحياء الفقيرة بالظهور في ضواحي الدار البيضاء وتونس كما زادت العمالة الناقصة لا سيما بسبب أزمة الاقتصاد الحرفي وإغلاق جزء من الأسواق.

وهكذا أصبح الوضع الاجتماعي بالغ الدقة، فجاءت أولى ردود الفعل من قبل الطبقة العاملة وبدأت النقابات تتطور.

في حزيران / يونيو 1936، طالت موجة الإضرابات التي حلت في فرنسا جميع أنحاء المغرب العربي واعتمدت في كثير من الأحيان على نفس الأشكال: احتلال المصانع ورفع العلم الأحمر. وامتدت الاضرابات من شهر حزيران / يونيو إلى شهر تموز / يوليو واستمرت في كثير من الأحيان حتى عام 1937، كما إنها طالت مدنا رئيسية، كتونس والدار البيضاء وغيرهما.

وفي تونس التي كان للحركة العمالية فيها تقاليدا كفاحية، تمكن العمال التونسيون والأوروبيون، جنبا إلى جنب في كثير من الأحيان، من انتزاع تنفيذ اتفاقات ماتينيون التي كان العمال قد انتزعوها بفضل نضالهم في فرنسا. وكان هذا نصرغير مسبوق.

كما شهد المغرب، حيث كانت البروليتاريا موجودة حتى ذلك الحين بكمية ضئيلة وضعيفة، أول موجة كبيرة من الاضربات. وللمرة الأولى شارك العمال المغاربة في حراكات هامة، وفي الأشهر التالية، في عام 1937، كانوا يقودون عددا من المعارك في الدار البيضاء وفي مناجم الفوسفات في كرغيبة.

وخلال هذه الفترة، كانت المنظمات العمالية، كالكنفدرالية العامة للشغل، تتزايد عدديا عبر أعضاء جدد شاركوا في الحراكات. وتمكن النشطاء والشيوعيون والاشتراكيون، الذين كانوا فاعلين في الإضرابات، من الاتصال بالعمال، وظهرت الأحزاب الشيوعية المحظورة إلى العلن.

فكانت خيبة الأمل الناتجة عن سياسة الجبهة الشعبية قوية بقدر قوة الحراك. فبعد أن كان التفاوض بهدف وقف الحراك وسيلة الحكومة المرعوبة لإيقاف موجة الإضرابات في عام 1936، أصبحت سياستها في عام 1937، وخاصة في المغرب، باستخدام هراوات الشرطة.

وفي الجزائر، كان القمع أكثر دموية، وخاصة في الريف حيث كان الفلاحون قد استغلوا الحراك لاحتلال أراضي المستوطنين الكبار. فقامت السلطة الاستعمارية بتوجيه الجيش والقوات الجوية عليهم.

وكان بلوم، رئيس الوزراء الفرنسي والذي كان من الحزب الاشتراكي، قد أكد دوما بأن الاستعمار لم يكن له مبرر سوى تحضير الاستقلال. وكان القوميون مقتنعين بأنهم على وشك الوصول إلى هذا الهدف. فبورقيبة ورفاقه الذين تم تحريرهم من المنفى أعلنوا عن ارتياحهم لحكومة الجبهة الشعبية، كما أن المغاربة الشباب الذين كان لديهم عدد من الأصدقاء في الحكومة الفرنسية تم استقبالهم، وللمرة الأولى، في وزارة الخارجية. ولكن النشوة لم تدم.

الحقيقة أن مهمة حكومة الجبهة الشعبية كانت بالحفاظ على النظام القائم في بلدان المغرب العربي كما في فرنسا. ولم يكن تحرير المستعمرات على جدول أعمالها أكثر من تحرر العمال من قبضة رأس المال.

في المغرب عينت حكومة الجبهة الشعبية جنرالا جديدا كمقيم عام ؛ وما أدراك أي جنرال! كان هذا الجنرال شارل نوجس وهو كان قد شارك في غزو المغرب برفقة لويوتيه عام 1912 و1913 وقاد الحرب ضد عبد الكريم الخطابي، كما كان بين 1919 و1931 من ملهمي "الظهير البربري" الشهير والمعد لآخرعمليات الفتح في الأطلس وجنوب المغرب.

وفي الجزائر، أنجبت حكومة الجبهة الشعبية مشروع إصلاح تافه، سمي مشروع بلوم ـ فيوليت. هدف هذا المشروع توسيع نطاق الحقوق الانتخابية للجزائريين ليصبح عددهم في أحسن الأحوال 30000 ناخب بمقابل الـ 200000 ناخب فرنسي في الجزائر!

في الواقع، تبين أن الجبهة الشعبية كانت المدافع الوفي عن مصالح الامبريالية الفرنسية، ولعب الحزب الاشتراكي في السلطة دور مدير أعمال البرجوازية الفرنسية الفائق الاخلاص. لكن الأسوأ هو أنه يمكننا قول نفس الشيء بخصوص الأحزاب الشيوعية.

إذ أن الأحزاب الشيوعية في المغرب العربي، التي أصبح مسموحا لها بالتنظيم العلني، قد تبعت في سياستها الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان مقحما في سياسة الجبهة الشعبية والتأييد لحكومة بلوم وكان ذلك حقيقة بمثابة خيانة للبروليتاريا الفرنسية، ولشعوب المستعمرات. وأصبحت المناداة بالاستقلال بالنسبة للحزب الشيوعي الفرنسي وكذلك المغربي، تهدف إلى خدمة هتلر، وموسوليني وفرانكو. وأصبحت بالنسبة لهم أعمال الشغب الناجمة عن سوء المعاملة والقمع مشبوهة بالأعمال الفاشية.

كانت خيانة أحزاب الجبهة الشعبية والاحزاب الشيوعية أكثر تجليا ومأساوية بالنسبة للبروليتاريا في المغرب بشكل خاص. ففي منطقة الريف الخاضعة لإسبانيا، تمكن فرانكو من تحضير انقلابه ضد الحكومة الجمهورية في إسبانيا حيث أعد العتاد بشكل شبه علني وقام بضم المحاربين من بين الموريين إلى جيشه...

لكن في المغرب بالذات، لم تكن الطبقة العاملة الإسبانية تفتقر لميزات. ففي تطوان ومليلية، تمت تعبئة العمال وتنظيمهم. وكان للعمال الإسبان والمغاربة روابط فيما بينهم، حيث أنهم كانوا قد كافحوا معا وبشكل خاص قبلها ببضع سنوات، في عام 1931، بهدف الاطاحة بالممثل المحلي للملك أثناء تأسيس الجمهورية في إسبانيا. فلو أن البروليتاريا الإسبانية كانت قد أعلنت عن تأييدها للاستقلال الفوري لمنطقة الريف، لتمكنت من زعزعة القواعد الخلفية لفرانكو وحل قواته المتألفة بشكل أساسي من سكان الجبال في الريف والذين كانوا يكنون كراهية ثابتة تجاه إسبانيا.

لكن قادة الجبهة الشعبية والأحزاب العمالية الناطقة باسم البروليتاريا الإسبانية امتنعوا عن فعل ذلك كونهم حريصين قبل كل شيء على الحفاظ على مصالح سياسة بلادهم الإمبريالية. وكان العمال والناشطون في تطوان والعرائش ومليلية أول من دفع ثمن هذه السياسة الإجرامية. وإنه في هذه المدن من الريف حيث بدأ الفيلق فرانكو بوظيفته في مطاردة العمال والقبض عليهم ونهب المنازل قبل أن يصل إلى إسبانيا.

ومع ذلك، خلال صيف عام 1936، جاءت فرصة أخرى، إذ اقترح حزب العمل القومي المغربي في المنطقة الفرنسية خدماته على الجمهوريين الإسبان. كان القوميون يريدون محاولة التمرد في المنطقة الإسبانية. وكان يكفي لذلك أن تقترح الحكومة الجمهورية الإسبانية الحكم الذاتي. لكنها لم تفعل. وبالإضافة إلى ذلك، تدخلت الحكومة الفرنسية لمنع إعطاء الحق بالحكم الذاتي والحريات، خشية أن يتسبب ذلك في إعطاء المغاربة في المنطقة الفرنسية الرغبة بالمطالبة أيضا! كانت الجبهتان الشعبيتان، الفرنسية والإسبانية، لا تباليان بحقوق الشعب المغربي، وقدمتا خدمة كبيرة لفرانكو.

نحو قمع علني للقوميين

في عام 1937، وبعد قمعها للاضرابات، قامت الحكومة الفرنسية بالتعرض للحركات القومية.

ففي المغرب، كانت هذه سنة أعمال القمع ضد المتظاهرين من أجل الاستقلال. فبعد أن أداروا ظهورهم للدبلوماسية الفرنسية ولحكومة الجبهة الشعبية، شارك القوميون في مظاهرات عنيفة، فانهال القمع عليهم مخلفا العديد من القتلى ولاقى 444 من منظمي المظاهرات عقوبة السجن لسنوات عديدة. وفي نهاية المطاف تم كسر رأس حربة الحراك بنفي علال الفاسي إلى الغابون، في حين تم وضع ضباط آخرين تحت الإقامة الجبرية.

وفي تونس وفي عام 1938، تم وضع الحزب الحر الدستوري الجديد في موضع المواجهة وذلك بعد أعمال شغب 9 نيسان / أبريل والتي خلف قمعها بدعم المدرعات، أكثر من 120 قتيلا. فتم حل الحزب وحبس وترحيل قادته مرة أخرى.

أما نجم شمال إفريقيا التابع لمصالي الحاج، فقد تم حله أيضا من قبل الحكومة الفرنسية، وتعرض للقمع.

إلا أن ذلك لم يمنعه من الظهور مجددا في آذار / مارس 1937 تحت اسم الحزب الشعبي الجزائري. فأصبح بموجبه الحزب الوحيد الراديكالي بما فيه الكفاية للمطالبة علنا بالاستقلال في الجزائر. فحتى تجمعات الوجهاء الجزائريين، كفرحات عباس وغيره ممن بدؤوا في الظهور، لم يكونوا على مستوى الحزب الشعبي الذي كان مكونا من مناضلين من الطبقات الشعبية وكان يتجرأ التكلم عن الاستقلال حرفيا. وتنامت شعبية مصالي الحاج في الطبقات الشعبية الجزائرية. وفي 14 تموز / يوليو 1937 تظاهر 20000 جزائري في باريس وراء الحزب الشعبي.

فتم الحكم على مصالي الحاج بالسجن مع خمسة زعماء آخرين. ولكنه بات للقومية الجزائرية حزبها الآن، حزب موسوم بالنهج التقليدي والإسلامي الذي وضعه مصالي الحاج، ولكنه كان حزبا شعبيا يجمع الآلاف من النشطاء الذين ضموا مقاتلي السنوات التالية.

العواقب الكارثية للستالينية

من تونس إلى المغرب، مرورا بالجزائر، كانت فترة ما بين الحربين العالميتين سنوات نضال، حيث بدأت الجماهير بالحراك بوجه الاضطهاد الذي كان يمارس عليها. لقد تم هذا الحراك بطرق مختلفة وبأحجام مختلفة ولكن ذلك عكس في النهاية ظهور وعي مشترك. ولا بد من استنتاج كيف ترتبط نضالات الشعوب المغاربية ببعضها البعض من بلد إلى آخر في المغرب العربي، وكذلك ارتباطها مع ما كان يحدث في فرنسا وخاصة الحركة العمالية الفرنسية. فالشعوب المغاربية بتنوعها، العربية والبربرية والمغربية والتونسية والجزائرية، قبعت تحت نفس الحكم الاستعماري وفي ظل نفس الظروف القمعية. وكان لديها نفس العدو: الاستعمار الأوروبي. فنضال كل منها كان لا بد من أن يساعد على نمو وعي الآخرين وتطور نضالهم. فنجاح عبد الكريم الخطابي في المغرب، أو حتى الصراعات التي كانت تجري في نفس الوقت في الطرف الآخر من العالم العربي، في سوريا، ضد الانتداب الفرنسي، ساعد على تطوير هذا الشعور المشترك بمحاربة نفس النظام الاضطهادي وبالتكافل بين ضحاياه في كل أنحاء المغرب وحتى خارجه، أي العالم العربي كله. وهذا الشعور المتنامي كان يحمل قدرات ثورية مهمة.

وعلاوة على ذلك، كانت الحركة العمالية الأوروبية، والفرنسية بشكل خاص، في اتصال مباشر مع العمال المغاربة. فعلى الأراضي الفرنسية، كانت الحركة العمالية الفرنسية على اتصال مع العمال الجزائريين المهاجرين. وفي المغرب العربي، كانت الحركة العمالية متواجدة في قلب المستعمرة الأوروبية. فعندما استطاع مقاتلو الحركة العمالية في فرنسا، في العشرينيات، اظهار تضامنهم مع العمال في المغرب العربي، كان لهؤلاء تقبل للأفكار الأممية. فبداخل الطبقة العاملة في بلدان المغرب العربي، كان يتواجد رجال وناشطون تواقون للتعرف إلى ماهية الصراع الطبقي وكيف يمكن الكفاح معا ضد الاضطهاد الرهيب الناجم عن الإمبريالية. وكانوا مستعدين لفهم تجربة الحركة العمالية الأوروبية، وخاصة تجربة الثورة الروسية، على أنها تجارب تتعلق بهم بالكامل؛ كما كانوا يشعرون بأن نضال الشعوب القابعة تحت الاستعمار والطبقة العاملة في جميع أنحاء العالم يمكن أن يتوحدا معا لتشكيل معركة واحدة تهدف إلى اسقاط العدو المشترك: البرجوازية الإمبريالية ونظامها الاضطهادي.

ولكن ذلك كان يتطلب أن تؤدي الأحزاب الشيوعية سياسة مختلفة عن تلك التي اتخذتها. فإحلال الستالينية في الأممية، وتحول الأحزاب الشيوعية الوطنية إلى توابع للسياسة الخارجية للكرملين، جعلت هذه الاحزاب تدير ظهرها عن نهج السياسة الثورية الأممية، فأصبحت غير قادرة على لعب دور في النضال من أجل التحرير الوطني والاجتماعي للشعوب المقهورة.

ترك هذا الفشل مساحة واسعة للحركات القومية البرجوازية التي سعت لترؤس الجماهير. ففي تونس والمغرب على وجه الخصوص، عشية الحرب العالمية الثانية، كانت هذه الأحزاب القومية ذات الصلة المباشرة بالطبقات الحاكمة الوطنية، قد بدأت بالهيمنة على الحراك الجماهيري، مدركة لكل الفائدة التي يمكن أن تجنيها بذلك للدفاع عن مصالحها الخاصة والتركيز على أهدافها الضيقة بمواجهة الإمبريالية.

وهذه الأحزاب كانت لا تزال ضعيفة ومعتدلة ومترددة في مواقفها، وكانت تخشى الجماهير في بلادها بنفس القدر الذي كانت تخشى فيه الإمبريالية نفسها. ففي حال الجزائر، حيث كانت هذه الأحزاب أقل وزنا، كان التيار الأكثر أهمية في وعيه وراديكاليته في مناهضة الهيمنة الفرنسية قد ولد داخل الطبقات الشعبية وتحديدا بين العمال المهاجرين الجزائريين في فرنسا، وكان ذلك تحت التأثير المباشر للحركة الشيوعية الفرنسية. كل هذه الحقائق تدل على أن امكانيات الطبقة العاملة في المغرب العربي، بترأس النضال ضد الاستعمار الفرنسي، كانت حقيقية فعلا.

لكن نجم شمال إفريقيا لم ينجب الحزب العمالي الثوري الذي طمح إليه مؤسسوه الأوائل. فإن تطور سياسة الحزب الشيوعي الفرنسي نفسه، من الأممية في العشرينات إلى الستالينية والشوفينية، هو المسؤول الأول عن ذلك. فكلما اتخذ الحزب الشيوعي في فرنسا نحوا شوفينيا وستالينيا متضامنا مع السياسة الاستعمارية للبرجوازية الفرنسية، كلما تطور نجم شمال إفريقيا باتجاه القومية. وهكذا شكل العمال الجزائريون الذين ناضلوا في فرنسا أول كوادر حزب الشعب الجزائري الذي كان عبارة عن حركة قومية.

وبسبب طبيعة وتاريخ كوادره الاوائل، ظلت الحركة القومية الجزائرية موسومة لفترة طويلة بالطابع الشعبي. لكن بانفصاله عن الشيوعية، اختار نجم شمال إفريقيا السياسة البرجوازية، فكان من شأن ذلك أن يؤثر على كل تاريخ النضال من أجل التحرر في الجزائر والمغرب العربي.

الحرب العالمية الثانية : تحطم آمال القوميين

في المغرب العربي، كما في معظم المستعمرات، كانت الحرب العالمية الثانية نقطة انطلاق زعزعة النظام الاستعماري.

ففي 8 تشرين الثاني / نوفمبر 1942 حط الأميركيون رحالهم على السواحل الجزائرية والمغربية، وإذ بالإدارة الفرنسية التابعة لبيتان في الجزائر والمغرب توافق بسرعة على العمل مع المحتل الجديد أي سلطة "فرنسا الحرة" التابعة لديغول الذي فرض في نهاية الأمر نفسه على المغرب العربي، رغم تحفظ الامريكيين. أما في تونس، على العكس، فقد تركت السلطات الفرنسية الحكم، ومن دون أية مقاومة، للقوات الألمانية القادمة من ليبيا. فدارت الحرب العالمية في شمال أفريقيا لبضعة أشهر.

وتحت رعاية فرنسا المسماة بالحرة، كانت دائما الإدارة الاستعمارية هي الحاكمة. والأسوأ من ذلك أنهم قاموا بتجنيد الفلاح لإرساله للقتال في ساحات المعارك في الحرب العالمية الثانية، في تونس ثم في إيطاليا. كان الحق الوحيد الذي كان يتمتع به هو أن يكون وقودا للحرب الإمبريالية.

في بلدان المغرب العربي الثلاثة، سعى ممثلو الطبقات الحاكمة إلى استغلال الوضع لإيجاد آذانا صاغية لدى قادة الولايات المتحدة. ففي الجزائر، قام فرحات عباس، على ما يبدو، بتعليق صورة روزفلت في صيدليته، وأجرى اتصالات مع وكيله في الجزائر. ثم بادر بإطلاق بيان يدعو بأن تكون نهاية الحرب العالمية نهاية للحكم الاستعماري أيضا في الجزائر. فردت السلطات الفرنسية باعتقال فرحات عباس. فلم يكن هناك مجال للحديث لا عن استقلال ولا حتى عن حكم ذاتي.

وبالمثل، كان من شأن دخول الحلفاء إلى المغرب وزيارة روزفلت الشخصية لسلطان المغرب في الدار البيضاء أن يفتحا آفاقا جديدة لهذا الاخير. فأخذ السلطان بالابتعاد عن المقيم العام الجديد التي بعث به ديغول، وأحاط نفسه بمجموعة من المستشارين الوطنيين. وفي كانون الاول / ديسمبر 1943، قام هؤلاء المستشارون بتأسيس حزب الاستقلال. وفي 11 كانون الثاني / يناير 1944 قدموا للسلطان وثيقة تطلب الاستقلال والسيادة. لكن الجانب الفرنسي رد بفيتو قاطع، وحل القمع على القادة القوميين وتم توقيفهم وترحيلهم... كما حصلت احتجاجات قمعت بشدة.

وفي تونس أيضا، لم يكن وصول قوات الحلفاء في أيار / مايو 1943 "تحريرا" للشعوب. فكانت السياسة الفرنسية على الفور سياسية سلطوية حيث أصدر الجيش الفرنسي مذكرات اعتقال ضد قادة الحزب الحر الدستوري الجديد. كما تم الإطاحة بالباي (منصف بك) نفسه وترحيله إلى الصحراء الجزائرية. وحل القمع بشكل كبير على الشعب الذي اتهم بالتطبيع مع العدو وبالتعاطف مع المانيا.

أذن لا في تونس ولا في المغرب ولا في الجزائر، لم يقرر الاستعمار الفرنسي مغادرة مكانه. فكان متمسكا بموقعه ومستعد للدفاع عنه مستعملا العنف وبأساليب متطورة. وهو لم يتأخر عن برهان ذلك.

سطيف، أيار / مايو 1945

طوال فترة الحرب، في حين كانت "النخب" تحاول لعب لعبتها، تعاظم الشعور الثوري لدى الجماهير واتخذ أبعادا أخرى وعمقا مختلفا. تدهور الوضع الاقتصادي وعرفت الدول المغاربية نقص الغذاء وتفشي البطالة وزادت الشدة في الطبقات الدنيا. وأدت نهاية الحرب إلى ولادة الأمل أنه في نهاية المطاف، ربما أن شيئا سوف يتغير. وكانت الجزائر ساحة تفجر الوضع.

عاود مصاليو حزب الشعب الجزائري نشاطهم. وكان حزبهم، خلافا لحزب فرحات عباس، يطالب بالاستقلال بوضوح وكان يدعو إلى "التضحية من أجل حرية الجزائر».

في الواقع، أخذت المواجهة بين الجماهير والسلطة الاستعمارية بالنضوج إلى أن حلت في أيار / مايو 1945. فكانت مذبحة سطيف وقالمة.

في الأول من مايو 1945، تظاهرت المنظمات القومية للمطالبة باستقلال الجزائر وبإطلاق سراح مصالي الذي ما زال مسجونا. فظهرت الشعارات والأغاني القومية وكذلك العلم الجزائري الأخضر والأبيض مع النجم والهلال. وقعت اشتباكات مع الشرطة تسببت بعدد من القتلى والجرحى وأجري عدد من الاعتقالات.

وفي 8 أيار / مايو، يوم الهدنة بين الحلفاء وألمانيا النازية، خرجت مظاهرات جديدة بمبادرة من نشطاء حزب الشعب الجزائري في مدن سطيف وقالمة، وكذلك في جميع أنحاء قسنطينة. فتحولت إلى مواجهات عنيفة. في سطيف توافد آلاف الفلاحين من القرى المجاورة، وكان معظمهم مسلحين. فتحولت الاشتباكات مع الشرطة إلى أعمال شغب، وتم قتل بعض الأوروبيين.

في الأيام التالية، كان رد السلطات الاستعمارية عنيف للغاية. وقد شعرت بأن أحداث الشغب في سطيف وقالمة يمكن أن تكون بداية لانتفاضة حقيقية. فأرادوا إغراقها، منذ البداية، في بحر من الدم.

لذلك سارعت بإرسال قوات متخصصة بالقمع الاستعماري كالفيلق الأجنبي والقوات الغومية المغربية وقوات الرماية السنغالية. وكان لهذه القوات الضوء الأخضر بارتكاب المجازر. فنهبوا وأحرقوا القرى وأوقفوا واغتصبوا وقتلوا بوحشية بالغة، وذلك على نسق أسوأ تقاليد القوات الاستعمارية، كل ذلك لأن هؤلاء الفلاحين الجزائريين ارتكبوا ذنب الأمل بالحرية.

لم نعرف يوما عدد القتلى الدقيق للمجزرة التي ذهب ضحيتها بين 10000 و45000 قتيل بحسب المصادر. فلم يحتاج الشعب الجزائري الانتظار مطولا لرؤية الوجه الحقيقي لما سمي بـ "تحرير" أيار / مايو 1945 في فرنسا التي تدعي الحضارة والتي تدعي حكومتها الجديدة الديمقراطية التي ضمت تحت رئاسة ديغول، وزراء من الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي.

فالتزم هؤلاء الوزراء الصمت بالنسبة لسطيف. وبالنسبة للحزب الشيوعي الفرنسي، كانت هذه الأحداث فقط فعل "عناصر تخريبية" من "مدعي القومية" ومن "المحرضين النازيين". وردد الحزب الشيوعي الجزائري نفس التعليق والقت اللوم على "الشعارات التي أذاعها راديو برلين" ولكنه لم يندد بالسلطة الاستعمارية وقواتها. أما الوطنيين المعتدلين، الخائفين من القمع، أدانوا أيضا "تصرفات عدد قليل من المخربين والعناصر اللاواعية". وأدان فرحات عباس "مغامرة سطيف وقالمة المشينة".

حل الصمت الثقيل في اليوم التالي للمذبحة في كل أنحاء الجزائر. وسعت الحكومة الفرنسية لكسب الوقت لسنوات عديدة حتى عام 1947 حيث سنت قانونا جديدة للجزائر، لكن دون اعطاء الاستقلال ولا الحكم الذاتي.

لكن القانون الجديد أعطى، ولأول مرة، حق الاقتراع للسكان المسلمين. وشهدت أول انتخابات تلت الحرب تقدما واضحا للأحزاب القومية والتي باتت حزبين : الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري الذي ضم القوميين المعتدلين، برئاسة فرحات عباس، في حين اتخذ حزب الشعب الجزائري التابع لمصالي تسمية جديدة: حركة انتصار الحريات الديمقراطية.

لكن الإدارة الاستعمارية فعلت ما يلزم للحد من نجاح القوميين. فأخذت تزور نتائج الانتخابات وكان الاشتراكي ناجيلان، حاكم الجزائر منذ عام 1948 هو من أدار هذا التلاعب الفاضح. وألقي القبض على المرشحين القوميين وتمت محاكمتهم وتم إلغاء قوائمهم الانتخابية، وتم حشي صناديق الاقتراع بالأصوات المزورة. كان النظام الاستعماري يبدو مراوحا مكانه. لكنه في الواقع كان يعيش سنواته الأخيرة.

تصاعد الحركة القومية في أعقاب الحرب العالمية

وكانت تونس والمغرب السباقتان على زعزعة الحكم الاستعماري هذا. الواقع أنه في هذين البلدين، وبمجرد وجود نظام الحماية، كان للقادة الوطنيين امكانية التفاوض مع السلطات المحلية. ولكن كان كل على حدا. فبالرغم من قيام "مؤتمر المغرب العربي" في عام 1947 والذي اتخذ القرار بتنسيق النضال القومي بين دول المغرب العربي الثلاث، مستلهما شخصية القائد المغربي القديم عبد لكريم. لكن كل هذا بقي رمزيا حيث كان كل من القادة القوميين يلعب لعبته بمواجهة الاستعمار الفرنسي، ولحسابه الخاص.

في تونس

عندما استأنفت الحركة العمالية في تونس نموها بعد الحرب، كانت هذه المرة تحت سيطرة الحركة الوطنية.

كان هناك بالتأكيد الكنفدرالية العامة للشغل الذي أعيد تأسيسها في أيار / مايو 1943، وحيث كان نشطاء الحزب الشيوعي يلعبون دورا أساسيا في دينامكيته. ولكن بالنسبة للحزب الشيوعي، المسألة لم تكن بتحقيق الاستقلال بل حدد مهامه حينها بالمشاركة بالمجهود الحربي ثم في معركة الإنتاج. وتجرأ الحزب الشيوعي الطلب من التونسيين في عام 1944، في حين كان الجوع يسود بينهم، بزيادة الإنتاج الزراعي لزيادة إمدادات الجيش وفرنسا!

فسياسة قادة الستالينية وضعت الحزب بعكس مجرى تطور الجماهير. فأخذت النقابات القومية التونسية بالتطور. في عام 1944، انفصل النقابي فرحات حشاد عن الكنفدرالية العامة للشغل. ووفقا لحديث لاحق لحبيب عاشور، أحد مرافقيه الذي أصبح لاحقا زعيم النقابات التونسية، كان موضوع القومية الأداة الاهم لتشويه سمعة الكنفدرالية العامة للشغل وشد العمال الجدد إلى العمل النقابي التونسي البحت.

أسس فرحات حشاد الكنفدرالية العامة التونسية للشغل في يناير / كانون الثاني عام 1946. وفي غضون بضعة أشهر، شدت الكنفدرالية العامة مجموع العمال التونسيين تقريبا وأصبحت رأس حربة حركة التحرر الوطني.

وقام فرحات حشاد، الزعيم الشعبي والمرموق، بوضع الحركة النقابية التونسية في خدمة الحزب الحر الدستوري الجديد. وكان هذا الحزب مشتت بسبب القمع الذي طاله في فترة الحرب العالمية. لكن عند عودة بورقيبة من منفاه في القاهرة، في نهاية عام 1949، نظمت له الكنفدرالية العامة التونسية للشغل استقبال الأبطال. وكانت البلاد حينها في حالة أزمة.

فقد ثار عمال المزارع، مما تسبب في حالة من الذعر بين المستوطنين، وبدأت الإضرابات تطال جميع المهن.

كان هدف بورقيبة المعلن هو الاتفاق مع فرنسا حول الحكم الذاتي لتونس. لكن الحكومة الفرنسية لم تعط إلا القليل من التنازلات. وفي كانون الاول / ديسمبر 1951 أعلنت عن رفضها لطلب التونسيين : فأكدت، في مذكرة مستوحاة من مصالح كبار المستوطنين، على أن "الارتباط الذي يربط فرنسا بتونس" هو "نهائي".

كان رد الكنفدرالية العامة للشغل على هذه المذكرة بإضراب دام ثلاثة أيام، بين 21 و23 كانون الاول / ديسمبر 1951. فقامت حملة القمع بشكل واسع من اعتقالات وتسريح جماعي للعمال. وكان عام 1952 عام مواجهات. فعند تعيين المقيم الفرنسي الجديد، أوتكلوك، الذي هبط بشكل رمزي من سفينة حربية، قامت مظاهرات هزت تونس وبنزرت وغيرها من المدن ووقع عشرات الجرحى.

وتم الإقرار، في مؤتمر الحزب الحر الدستوري الجديد الذي عقد سرا بسبب الحظر، على متابعة المقاومة. في المقابل، ألقي القبض على بورقيبة ومن ثم على معظم قادة الحزب فضلا عن قادة الحزب الشيوعي والقادة النقابيين. لكن فرحات حشاد بقي حرا بفضل مكانته في الكنفدرالية العامة ودعم نقابات الولايات المتحدة له. وفي الأيام التالية تضاعفت حدة الاحتجاجات وانتشرت.

وأظهر الجيش الفرنسي عن إمكانياته بقيامه بحملات تمشيط في الرأس الطيب. ففي جميع أنحاء المنطقة، بين 28 كانون الثاني / يناير و1 شباط / فبراير، قام المظليون والفيلق الأجنبي، مع عرباتهم المدرعة والطائرات، بنسف المنازل ونهب وتدمير الممتلكات. وتم إعدام عشرات المدنيين، بما في ذلك الأطفال، واغتصاب أعداد كبيرة من النساء المسلمات. وتم إنشاء معسكرات اعتقال لآلاف السجناء الذين لم تعد تسعهم الثكنات ومراكز الشرطة والسجون المكتظة.

ردا على هذه الممارسات، بدأت خلال هذا العام 1952 الأعمال التخريبية والإرهابية وتضاعفت في جميع أنحاء البلاد. فتعرض الدرك والمستوطنون لهجمات، وتم تخريب خطوط الهاتف والسكك الحديدية.

وفي نهاية المطاف، قام المقيم العام أوتكلوك، باعتقال رئيس الوزراء التونسي وثلاثة من وزرائه، وفرض حكومة تونسية جديدة، كانت بالحقيقة مجرد دمية بيده.

وأصبحت شخصية فرحات حشاد لا تطاق من قبل المستوطنين. فتم اغتياله. وكان القتلة أعضاء في منظمة إرهابية أوروبية تدعى "اليد الحمراء" كانت تحظى برضا أوتكلوك وبتواطؤ الشرطة. كان ذلك بمثابة عملية إعدام ألقت بتداعياتها على جميع أنحاء المغرب العربي وفي مصر.

في المغرب

في الوقت نفسه وبشكل مواز، تبلورت الحركة القومية في المغرب. ولكن هنا كان السلطان نفسه هو صاحب المبادرة في مواجهة الحكومة الفرنسية.

فكان البدء في خطاب شديد اللهجة ألقاه في 14 أبريل 1947، في طنجة.

وكانت تجوب المدينة مظاهرات مؤيدة له تحت إشراف كشافة من منظمة الاستقلال القومية. وقال: "المغرب عازم على استعادة جميع حقوقه".

كان الرد من الجانب الفرنسي سلبيا. وفي كانون الثاني / يناير عام 1951، أمر المقيم العام السلطان بإقالة أعضاء حزب الاستقلال من حكومته، مهددا إياه بخلعه عن السلطة، وقام بإرسال القوات الفرنسية لمحاصرة قصره. وبهذا تمكن الرئيس الاشتراكي اوريول، ولأول مرة، من جعل السلطان يستسلم.

لكن في 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1952، وبمناسبة يوم العرش، أدلى السلطان خطابا أعلن فيه عن توليه قيادة حزب الاستقلال وطالب "بالتحرر السياسي الكامل والحريات المدنية وإعطاء المغرب صفة الدولة"، وتجمهر حشد ضخم حول القصر، مع كثير من الشباب وكثير من الفقراء جدا، جاؤوا للاستماع إلى خطاب الملك.

وبعد ثلاثة أسابيع، وبمناسبة اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، قررت النقابات إقامة مظاهرة في الدار البيضاء سرعان ما اتخذت طابعا مناهضا للتواجد الأوروبي. وتم قتل بعض الأوروبيين الذين المارين صدفة، فردت القوات الفرنسية بمذبحة حقيقية أودت بحياة مئات المواطنين. وكانت المعركة مفتوحة بين الحامية الفرنسية والمقيم العام من جهة، والشعب المغربي والسلطان من جهةأخرى.

وهنا يأتي دور "الكلاوي" المشهور بشناعته. ففي حين تم خلع السلطان من قبل زعماء عصابات عينها المقيم العام الفرنسي، قام باشا مراكش "الكلاوي"، وهو واحد من أغنى ملاك الأراضي في البلاد، بحملة تنديد بالسلطان. وتم ترحيل السلطان إلى مدغشقر في 20 آب / أغسطس 1953 ووضع مكانه بن عرفة الهرم والمنصاع.

ومنذ 16 آب / أغسطس، اندلعت الاضطرابات في مراكش وذهب ضحيتها ثمانية أشخاص. وطال الشغب الدار البيضاءوامتد لمدينة وجدة، وأودت الاضطرابات بأربعة وأربعين قتيلا من بينهم أحد عشر فرنسيا. وساهم خلع السلطان بصب الزيت على النار. فتوالت الهجمات في البلاد. وفي آب / أغسطس 1954، أي بعد عام واحد من خلع السلطان، جاء انفجار الكراهية والعنف ضد الفرنسيين. ففي خريبݣة، مثلا، تم تدمير جميع المعدات التشغيلية للمنجم.

تونس: الفلاقة الأوائل

في الواقع، بدأت مقاومة الاستعمار الفرنسي في تونس والمغرب بتوليد حالة من السخط. وكانت المؤشرات تدل على أن الحركة الجماهيرية قد تخرج عن سيطرة القوميين الأكثر اعتدالا. فكان أول ظهور لحركات حرب العصابات التي اتخذت مقرها الاساسي في المناطق الجنوبية لتونس حيث كان وضع القبائل بالغ البؤس مع قلة مردود الأراضي والجفاف والمجاعة المتكررة.

بدأت الثورة المسلحة من هذه المناطق لتطال مجمع الأرياف. وأطلق على الثواراسم "الفلاقة" تمثلا بالمقاتلين التقليديين من الخارجين على القانون الاقطاعي وقطاع الطرق وفاعلي الخير الذين كانوا يعتاشون بفضل السكان.

ويذكر سويريس، قائد الجيش الفرنسي، في مذكراته ثورة الفلاقة :

"2000 رجل في أيلول / سبتمبر 1953، 000 3 رجل في تشرين الثاني / نوفمبر... وفي نهاية تموز / يوليو 1954، كانت عصابات الساحل وبنزرت وخاصة عصابات المناطق الجنوبية والوسطى قد احتلت معظم أنحاء البلاد... ويجب الاعتراف بأنه، طوعا أو كرها، شارك كل السكان البدو في هذه العملية مما أعطاها طابع انتفاضة وطنية... من الممكن أن العصابات الأولى قد ظهرت تلقائيا، ولكن شيئا فشيئا اتصل معهم ناشطو الحزب الحر الدستوري الجديد بهدف تنظيمهم تحت قيادتهم ليشكلوا عمليا جيشا حقيقيا".

ففي هذه الظروف، قام منديس فرانس، في كلمة ألقاها في قرطاج في 31 تموز / يوليو 1951، أي بضعة أسابيع فقط بعد تنصيبه رئيسا للوزراء، وفي أعقاب الهزيمة الفرنسية في ديان بيان فو في 7 أيار / مايو، بالاعلان عن التحول في السياسة الفرنسية وأقر بمبدأ الحكم الذاتي الداخلي للدولة التونسية. فأعلن قادة الحزب الحر الدستوري الجديد على الفور بأن ذلك يشكل "خطوة كبيرة وحاسمة في (...) استعادة السيادة الكاملة لتونس". في الحقيقة كان الاتفاق قد تم مسبقا بين الدولة الفرنسية وبورقيبة، من خلال مفاوضات سرية اجريت معه بالقرب من باريس حيث وضع تحت الإقامة الجبرية. وهكذا تم تشكيل حكومة انتقالية تضم وزراء من الحزب الحر الدستوري الجديد ووجهاء معتدلين.

ولكن في هذه المفاوضات السرية تقرر أيضا أنه على بورقيبة الحصول على وقف الأعمال المسلحة في تونس واستسلام الفلاقة. كان ذلك شرطا مسبقا من قبل الحكومة الفرنسية.

قبل بورقيبة بالشرط وحصل على موافقة القادة الأكثر ترددا بشأنه. فهو كان حريصا على المضي قدما على طريق السيادة السياسية في تونس. كما كان من الأهمية إثبات سلطته على البلاد.

فوعد المجلس الوطني لحزبه بمساعدة المقيم العام الفرنسي لاحتواء الاحتجاجات. فانهمك بورقيبة " دون أي حد" في هذه العملية، بحسب تعبيره. وقد أقيمت دعاية واسعة النطاق لهذه العملية.

فبينما كانت الأعمال المسلحة للفلاقة قد ارتفعت حدتها خلال فصل الربيع، جاءت الأوامر المفاجئة أوائل الصيف، بالكف عن الهجوم، مع الاحتفاظ بحق الدفاع الدفاع في حالة التعرض لهجوم، وذلك "احتراما لرغبة القائد الأعلى"، إي، بورقيبة. فجاء الاستسلام الفعلي بعد بضعة أسابيع، خلال شهر كانون الاول / ديسمبر 1954. فعاد أكثر من 2500 من المتمردين تحت القانون. ولكنه بقي هناك بعض العنيدين الذين، مع بداية الانتفاضة في الجزائر، رفضوا الانصياع. فلاحقتهم القوات الفرنسية، وهذه المرة، بدعم من حكومة "الحكم الذاتي الداخلي" التونسية.

نحو التمرد الجزائري

لكن الاستعمار الفرنسي لم يخلص من الحركة القومية. فالفلاقة التونسيين أعطوا تسميتهم لآخرين، في الجزائر هذه المرة.

ففي نفس سنة 1954، حيث اندلعت الحركات المناهضة للاستعمار الفرنسي في تونس والمغرب، بدت الجزائر هادئة. والوطنيون القانونيون، مثل فرحات عباس، كانوا ينفذون طاقتهم في رفع المطالبات إلى السلطات الفرنسية التي استمرت بتجاهلهم. وكان للوبي الاستعماري والشركات الكبرى المستثمرة في المغرب العربي تأثير أكبر في باريس من الوجهاء الصغار في الجزائر.

لكن بين القوميين، بدأت فكرة استخدام العصيان المسلح ضد الاستعمار الفرنسي تأخذ مسارها. وكانت حركة انتصار الحريات الديمقراطية التابعة لمصالي قد أقرت بالحاجة إليها. فبالنسبة لمناضلي هذه الحركة الذين كانوا من بيت الشعب الجزائري الأكثر فقرا والذين كان بعضهم قد عاش في سطيف وما زالوا يتعرضون لقمع الإدارة الاستعمارية، كان من الواضح أن القتال ضرورة. وكان مؤتمر الحركة قد قرر في عام 1947 إنشاء منظمة عسكرية سرية، "المنظمة الخاصة"، مهمتها إعداد العمل المسلح. فتم تشكيل منظمة سرية بكاملها.

ولكن الشرطة الفرنسية تمكنت من تفكيك هذه المنظمة بسرعة نسبيا، إلى أن قررت حركة انتصار الحريات الديمقراطية إلى حلها في النهاية. الواقع أن الحركة لم تكن جاهزة، على المستوى السياسي، للشروع بالكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي. بدلا من ذلك، في أوائل الخمسينات، دخلت الحركة في أزمة عميقة.

فالصراع تبلور في قيادة الحركة بين مصالي وعدد من القيادات الشابة التي كانت أيضا في حزب الشعب الجزائري في السابق. كان هؤلاء يلومون مصالي لاستبداده ولتأليه صورته. وكان بالفعل لمصالي شعبية واسعة لدى الشعب الجزائري.

وداخل قيادة حزب الشعب الجزائري، كان معظم القادة الشباب المتذمرون من المثقفين، وكان مصالي يرتابهم. وكان مشروعهم السياسي "إصلاحي" يقوم بالتخلي عن فكرة العصيان ضد فرنسا وبالاندماج في المؤسسات الاستعمارية في محاولة للعب دور ما فيها بهدف الدفاع عن تطلعات الجزائر الوطنية.

في أوائل العام 1954، كان الانقسام قد حسم عمليا بين مصالي بعد حصوله على دعم قاعدة الحزب، وبين "الإصلاحيين" الذين كان لديهم الأغلبية في اللجنة المركزية للحزب فأطلق عليهم لاحقا اسم "المركزيون".

في هذه الظروف، ظهرت المجموعة الثالثة التي أعلنت الرغبة بالتغلب على الانقسامات. ففي آذار / مارس عام 1954، شكل بعض النشطاء "اللجنة الثورية للوحدة والعمل" وهم من ناشطي "المنظمة الخاصة" السابقة. وكان الملهم الرئيسي لهذه اللجنة محمد بوضياف والذي كان مسؤولا عن تنظيم حركة انتصار الحريات الديمقراطية في فرنسا. وأعطت اللجنة الثورية لنفسها الهدف بالانتقال بسرعة إلى الضرب المباشر بوجه الاستعمار. فباشر العمل ساعيا أولا للحصول على عدد من كوادر الحركة.

أكدت اللجنة الثورية للوحدة والعمل على طابعها الثوري في تسميتها. وكان هذا ضد تيار الحركة "الإصلاحي"، على الأقل في أذهان بعض من أعضائها الذين انتقدهم بوضياف في وقت لاحق لعدم توجيههم النضال الجزائري في مسار اشتراكي. ولكن الحقيقة هي أنه، على المدى القريب، لم تكن معارضة اللجنة الثورية للمصاليين وللمركزيين قائمة على هذ المسار السياسي. فالهدف كان البدء بالعمل المسلح وكانوا يلقون باللوم على المصاليين لكلامهم عن العمل المسلح دون الفعل، وعلى المركزيين لعدم التفكير فيه. لكنهم وإن كانوا يعارضون الآخرين في مسألة العمل المسلح، إلا أنهم استمروا على نفس المسار السياسي. كانوا يريدون الفعل ولكنهم لم يعارضوا التوجهات القومية ولا الإسلامية في الحركة، ولم يطرحوا لها نهجا سياسيا واجتماعيا آخرا. حتى الذين يقولون، مثل بوضياف، بأنه كان لديهم تطلعات ثورية واشتراكية، كانوا يقبلون تشكيل جبهة موحدة مع التيارات الاخرى بحجة العمل العسكري، وكانوا يقومون بنفس السياسة التي مفادها إنشاء الدولة الوطنية الجزائرية.

الاول من تشرين الثاني / نوفمبر 1954

في هذا النطاق، شرعت اللجنة الثورية بالاستعداد للانتفاضة. وقامت إدارة مصغرة، مكونة من ستة أفراد، بتقرير زمن الهجوم.

وفي ليلة 31 تشرين الاول / أكتوبر - 1 تشرين الثاني / نوفمبر 1954، وقعت هجمات في مختلف أنحاء الجزائر، من قطع للخطوط الهاتفية وإطلاق نار على ثكنات الجنود الفرنسيين وحرق الفلين وقنابل ضد مستودع نفط وهجوم على باص في جبال الأوراس. فقتل ثمانية أشخاص بما في ذلك معلم شاب أوروبي كان يركب الباص الذي تعرض للهجوم. ولكن في الحقيقة فشلت العديد من الهجمات مما عكس غياب التحضير وخاصة نقص الامكانيات. وحدها منطقة القبائل والأوراس كان لديها بضع مئات من المتمردين الذين يمكن الاعتماد عليهم. فهذه المناطق الجبلية لا زالت تتمتع بتقليد عسكري قديم من مقاومة المستعمر. ولكن في الولايات الأخرى التي تقاسمها المنظمون "الستة"، فإنهم لم يجدوا إلا عددا قليلا من الرجال والامكانيات.

وأعلنت مجموعة "الستة" في 1 تشرين الثاني / نوفمبر 1954عن إنشاء "جبهة التحرير الوطني" في سبيل "استعادة السيادة الجزائرية ذات الصفة الديمقراطية والإجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية". وكان هذا الطموح في ذلك الحين يبدو مبالغا فيه بالنسبة للواقع.

لم يتأخر رد الحكومة الفرنسية. ففي 5 تشرين الثاني / نوفمبر، أعلن ميتران، الذي كان وقتها وزيرا للداخلية في حكومة مينديز - فرانس عن حل حركة انتصار الحريات الديمقراطية وأعلن: "إن الجزائر فرنسية، وفرنسا لا تعترف بأي سلطة عل أراضيها غير سلطتها". وتم إرسال تعزيزات من الشرطة والجيش إلى الجزائر. فاعتقل الناشطين البارزين وبدأ التمشيط في الجبال. فكانت بداية لحرب معقدة استمرت ثماني سنوات.

وجاء مقاتلون جدد إلى جبهة التحرير الوطني وتم تشكيل مجموعات في الوديان. فأعطتها جبهة التحرير الوطني بنية عسكرية سمتها جيش التحرير الوطني، فكان جيشا منضبطا، مع تسلسل هرمي، تحت سلطة قادة الولايات الستة الذين ينصاعون إلى قيادة الجبهة.

أما تعزيزات الجيش الفرنسي فكانت بعيدة من أن تتمكن من السيطرة على الوضع وإيقاف انتشار تمرد غير قابل للإحتواء.

وكانت المؤشرات تدل على أن الشعب الجزائري يساند التمرد. فارتفع التوتر بسرعة بين الجزائريين والأوروبيين.

1955-1956: خطر انفجار عام وتحول مسار الإمبريالية الفرنسية

في 20 آب / أغسطس 1955، كانت الذكرى السنوية الثانية لخلع سلطان المغرب من قبل الحكومة الفرنسية. وكان من المقرر قيام مظاهرات موحدة من قبل الوطنيين الجزائريين والمغاربة. فكانت جبهة التحرير الوطني في شمال قسنطينة تنظم التظاهرات في نفس الوقت الذي كانت تقوم فيه بالأعمال المسلحة. فهاجم جنود من جيش التحرير الوطني مراكز الشرطة والدرك في الوقت الذي كانت فيه حشود من عدة آلاف الفلاحين تتجه إلى المدن والقرى في المنطقة. فوقعت أعمال شغب وتم ذبح بضعة أوروبيين. فأدت الاحداث ألى وقوع 123 قتيلا منهم 71 أوروبي.

وبدت أحداث سطيف التي قامت قبل عشر سنوات على وشك التكرار. على أي حال تعامل الجيش الفرنسي بنفس الطريقةمنفذا القمع الوحشي والعشوائي. وتشكلت ميليشيات من الأوروبيين بهدف قتل كل جزائري يقع تحت أيديهم. ففي غضون أيام، أوقعت المجازر التي تشارك فيها الجيش والميليشيات الأوروبية حوالي 12000 قتيلا.

وفي اليوم نفسه من 20 آب / أغسطس 1955، قامت مظاهرات في شمال قسنطينة،وفي المغرب تمرد السكان وارتكبوا مجازر بحق الأوروبيين في بعض المدن المغربية، بما في ذلك وادي زم وخريبݣة. ومرة أخرى كان قمع الجيش الفرنسي قاسيا للغاية. فتحدث قادة حزب الاستقلال عن وقوع آلاف القتلى.

وبعدها بفترة وجيزة، بدأت عمليات المقاومين في الريف والأطلس المتوسط. وإذ بـ"جيش التحرير المغربي" يظهر للعلن، ويبدو أنه قد تم إنشاؤه بمساعدة المسؤولين في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، بوضياف وبن مهيدي. وفي جميع أنحاء البلاد، في الضواحي وفي الأحياء، وقامت الاحتجاجات ضد الدولة الفرنسية وممثلها الدمية السلطان بن عرفة، وكذلك الكلاوي. وظهرت طبقات جديدة من الناشطين القوميين الأكثر راديكالية، والمتواجدين في الأوساط الشعبية. وبدا المغرب على وشك الإنضمام إلى انتفاضة الجزائر، وكاد يخرج عن سيطرة القادة الوطنيين الأكثر اعتدالا.

في نفس العام 1955، وفي تونس التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي الداخلي رسميا، سببت المجاعة المحتدمة في الريف بتوليد العديد من أعمال الشغب. واندلعت اضرابات من أجل زيادة الرواتب وغيرها من المطالب العمالية.

في الواقع، كان المغرب العربي بأكمله عرضة لحركات تمرد ناتجة عن نفس القهر الاستعماري ونفس البؤس. وكانت الاحتجاجات والثورات تتابع وتحفز بعضها البعض في اتجاه حراك شامل. لكن لم يكن لأي من سياسات المنظمات القومية ما يعطي لهذا التلاقي تعبيرا وتنظيما واعيا.

فالقادة الوطنيون لم يريدوا إعطاء الحركة الجماهيرية طابعا شاملا. كانوا يريدون الحفاظ على سيطرتهم عليها. ذلك خصوصا أن قادة الإمبريالية الفرنسية، بإدراكهم لخطر حدوث انفجار لا يمكن السيطرة عليه، بدؤا يظهرون بعضا من التساهل، أقلها في تونس والمغرب. فأظهر القادة الوطنيون في البلدين قدرتهم على احتواء الجماهير، كما أثبتوا احترامهم لمصالح الإمبريالية الفرنسية. فكانوا على استعداد للعب لعبة الاستقلال في المغرب وفي تونس، بحيث يحصلون على السلطة السياسية، ويتم الحفاظ على جوهر المصالح الامبريالية. وفي كلا البلدين، لم يكن للأقلية الأوروبية ولأنصار الاستعمار ذات الثقل الذي كان لهم في في الجزائر. لهذا، كان الاستعمار الفرنسي في تونس وفي المغرب مضطرا للتراجع السياسي والإعتراف باستقلال كلا البلدين.

ففي المغرب، في 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1955، تم إعادة تنصيب السلطان المنفي على العرش، تحت اسم محمد الخامس. وتم الاعتراف باستقلال المغرب في يوم 2 آذار / مارس 1956، وفي تونس في 20 من الشهر ذاته. أما إسبانيا، فبالاتفاق مع فرنسا، قامت بالاعتراف بعد بضعة أسابيع باستقلال المنطقة الإسبانية من المغرب. في الواقع، كانت الإمبريالية تحاول إحتواء النار فوفرت الامكانية لعلاج حالة الجزائر بشكل منفصل.

تحقيق الاستقرار في تونس والمغرب

ولم يكن القادة الوطنيون في المغرب وتونس يطلبون أكثر من ذلك. وبالتالي، شرعت أنظمتهم بمهمة وضع حد لبداية حراك الجماهير. فالتنازلات التي أعطت للطبقات الحاكمة التونسية والمغربية منحتهم الإمكانية للسيطرة على الشعب وكسر المعارضة الداخلية.

ففي تونس، استغل بورقيبة فرصة وصوله إلى السلطة لتصفية حساباته نهائيا مع منافسه، الأمين العام السابق للحركة، بن يوسف، والذي كان ينتقده بسبب اعتداله المفرط بوجه الفرنسيين. فكان ثمن ذلك صراع عنيف مع تفجيرات وعمليات خطف واعتقالات. وكان الادعاء بـ"الخطر اليوسوفي" يستعمل كحجة لقمع أي اضطرابات، أولا بمساعدة القوات الفرنسية ثم مباشرة حيث أقام نظام دكتاتوري بوليسي وسن قانونا جديدا قمعيا.

كان عدد من رؤساء الفلاقة موزعين في الجنوب في عام 1956 بهدف إعادة إحياء الكفاح المسلح ضد الحكومة، والقيام بهجمات ضد المستعمرين الفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين. ولم يوقف الإعتراف الرسمي بالاستقلال هذه العمليات ولكنهم باتوا يواجهون الدولة التونسية نفسها. ولعدة أشهر، أي حتى شهر حزيران / يونيو، تم شن معارك حقيقية بالمدفعية الثقيلة والطيران ضد المتمردين، وتم إعدام الكثير من قادتهم.

والتغيير الذي حدث في المغرب بعد الإستقلال كان موازيا تماما للتغيير الذي حدث في تونس. فمحمد الخامس، الي أصبح بطل الإستقلال، استفاد من شعبيته لاستعادة الهدوء والنظام اللازمين لاستمرار نجاح الأعمال التجارية للبنوك الكبيرة وللشركات الكبرى.

فخطابه من أجل الاستقلال يعبرعن ما كان يشغله. فإنه كان دعوة لوحدة الشعب والأرض، وخصوصا دعوة إلى النظام الذي يتطلب تعاون جميع القوى السياسية: "إن الطريقة الأكثر فعالية لمساعدتنا في مهمتنا هي احترام النظام العام. لن نتوقف عن حثكم على القيام بذلك. دائما الهدوء ودائما النظام... ".

ولكن الامور لم تستقر بعد في المغرب.

فالهجمات المعادية لفرنسا تزايدت واستهدفت بعض كبار ملاك الأراضي ومستوطنين، وكذلك وجهاء مغربيين وباشوات ومن الذين وضعوا أيديهم على الاراضي في ظل نظام الحماية ونهبوا الناس. فالشعب البسيط كان يتوقع مع الاستقلال نهاية علله والبعض لم يعد يسعه الانتظار لفترة أطول.

وكان القادة السياسيين في حالة سباق من أجل الوصول إلى السلطة وكانت تتم تسوية الحسابات بين التيارات المتناحرة بالمدافع الرشاشة وكان الشيوعيون مستهدفين بشكل خاص، فاغتيل عدد من مسؤولي الحزب الشيوعي المغربي.

وبقيت أجزاء من البلاد، الريف والأطلس والجنوب، في يد جيش التحرير المغربي الذي كان قد تعزز في العامين الماضيين وكان لا يزال يحارب القوات الفرنسية. وبفضل الكسب المعنوي الذي أحدثه الاستقلال وصل جيش التحرير إلى جبال الأطلس المتوسط، وضاعف الهجمات ضد المواقع الفرنسية. وبالرغم من ولائهم للملك، إلا أنهم لم يكونوا يحتملون بقاء الجيش الفرنسي. وقبل كل شيء، فجيش التحرير المغربي كان يربط كفاحه بكفاح المقاتلين الجزائريين، وذلك بناء على شعور حقيقي لدى عدد من السكان بضرورة تخلص المغرب العربي كله، وللأبد، من الحكم الاستعماري.

واقتراح النظام على رؤساء جيش التحرير الانخراط في الجيش النظامي. ولكن مجموعات الكوماندوز الاكثر تصميما واصلت القتال على الحدود المغربية الجزائرية، بالقرب من وجدة وفي جنوب الصحراء الإفريقية.

وبعد عامين، في كانون الاول / ديسمبر 1958، تمكن جيش ولي العهد الحسن الثاني، بقوامه الـ20000 جندي وبعد قصف هائل لجبال الريف، من تدمير آخر الكتائب المقاومة.

وقد أظهر تصرف بورقيبة والسلطان بأن الإمبريالية الفرنسية كان يمكنها الوثوق بهؤلاء السياسيين، ممثلي البرجوازية التونسية والمغربية، لمنع انتشار الفوضى في المغرب العربي. فقد ظلت قوميتهم محدودة بنيتهم الوصول إلى السلطة في بلادهم. وفي السنوات التي أعقبت الاستقلال، وجد القادة التونسيون والمغربيون أنفسهم مضطرين، بسبب الحرب في الجزائر، لإظهار بعض التضامن المغاربي، وإذا كان عليهم تأمين بعد الدعم لمقاتلي جيش التحرير الجزائري، فذلك كان أقل ما يجب فعله لحفظ ماء الوجه.

الجزائر: جبهة التحرير الوطني تفرض نفسها في القيادة

فبعد منعطف 1955 - 1956، بقيت الجزائر وحدها. ومرة أخرى حصلت مواجهة داخل الحركة القومية بهدف السيطرة على القيادة السياسية. ففي 1 تشرين الثاني / نوفمبر 1954، أعلنت جبهة التحرير الوطني في خطابها إلى الناشطين القوميين بأنها مستقلة من "عشيرتي" المصاليين والمركزيين، وبأن عملها "موجه فقط ضد الاستعمار". وأضاف أن جبهة التحرير الوطني تريد تقديم الفرصة لجميع المواطنين الجزائريين من جميع الطبقات الاجتماعية، وجميع الأحزاب والحركات الجزائرية بأن تندرج في النضال من أجل التحرر من دون أي اعتبار آخر".

في الأشهر التي تلت انتفاضة تشرين الثاني / 1 نوفمبر، تمكنت جبهة التحرير من ضم القادة المركزيين. ومشى الوطنيون المعتدلون التابعون لفرحات عباس على نفس الخطى. وبعد آب / أغسطس 1955، شعر أفراد البرجوازية والوجهاء والعلماء المسلمين بأن الجماهير أصبحت على وشك الخروج عن سيطرتهم، فقاموا بالتحالف مع القيادة السياسية التي بدت قادرة على الحفاظ على السيطرة على الجماهير، أي جبهة التحرير الوطني. وفي كانون الاول / ديسمبر 1955، استقال المركزيون من البرلمان الجزائري ومن المؤسسات المحلية، وأعلن عباس أن جبهة التحرير الوطني هي الممثل الوحيد للشعب الجزائري. وقام العلماء بفعل الشيء ذاته عام 1956.

كل هؤلاء الرجال، الذين يمثلون الطبقات المحظوظة من الجزائريين والسياسيين المعتادين ملازمة المؤسسات الاستعمارية في الجزائر، كل هؤلاء كانوا موضع الترحيب واستقبلوا بأذرع مفتوحة من قبل المبادرين للانتفاضة. لا شك أن الشرط الذي وضعته الجبهة لاندماج هذه الأحزاب كان بتخليها عن أي سياسة مستقلة. ولكن لرجال مثل فرحات عباس، لم يكن هناك أي مانع لذلك. فطالما أنهم مقتنعون بأن الطريق إلى السلطة لم يعد من خلال التعاون مع السلطة الاستعمارية بل عبر جبهة التحرير الوطني، فوافقوا على إعطائها الدعم السياسي اللازم. وفي مقابل ذلك، كل الذين تخاذلوا قبل بداية القتال حصلوا على شهادة في القومية من قبل جبهة التحرير الوطني التي كان صيتها يتحسن بين الجماهير.

وفي الوقت نفسه أظهرت جبهة التحرير استعدادها لاستخدام كل الوسائل بهدف إبعاد كل من يمكنهم تجسيد أي اتجاه سياسي بديل.

لكنه بقي هناك نوعان من الحركات السياسية في الجزائر المتجذرة تاريخيا والتي ما زالت محتفظة بروابط مع الطبقات الشعبية: المصاليين والحزب الشيوعي الجزائري.

في آب / أغسطس 1954، تمكن مصالي في نهاية المطاف من إعادة تشكيل حركة انتصار الحريات الديمقراطية تحت قيادته، ليغير اسمها إلى الحركة الوطنية الجزائرية. فهو أيضا قد قرر بدفع حركته في الكفاح المسلح من أجل الاستقلال. كما كان اختيار جبهة التحرير الوطني لتاريخ الاول من تشرين الثاني / نوفمبر لبدء الأعمال المسلحة عائدا لحرصها على تخطي المصاليين.

في الواقع، إن الحركة الوطنية الجزائرية كانت لا تزال لديها أكبر عدد من المناضلين وخصوصا في الطبقات الدنيا في المدن. فمصالي ورث من شعبية الحركة الوطنية التي طالت الجزائر في الماضي، وهذا ما جعله محل ريبة لدى المركزيين، ناهيك عن الوطنيين المعتدلين مثل فرحات عباس. فهؤلاء كانوا يخشون من أن تؤدي الحركة الوطنية الجزائرية إلى وجود معارضة شعبية في الجزائر المستقلة في المستقبل. ففضلوا التخلص منها وقائيا.

وقد حصل عدد قليل من محاولات التفاوض بين المنظمتين. فقد اقترحت جبهة التحرير الوطني على الحركة الوطنية الجزائرية الإندماج بها. لكن مصالي رفض. فبدأ التنافس بين جبهة التحرير والحركة الوطنية، وكان صراعا من دون رحمة. فأصبحت تصفية الحسابات الدموية قاعدة الصراع، إذ تقوم فرق الكوماندوز في جبهة التحرير الوطني باغتيال ناشطين في الحركة الوطنية، فتحاول الاخيرة الرد بنفس الأسلوب. ولكن جبهة التحرير كانت متقدمة نسبيا من حيث الفعالية العسكرية، فاضطرت الحركة الوطنية إلى اتخاذ موقف دفاعي. ولم يكن أي شيء يوقف جبهة التحرير الوطني : ففي مايو عام 1957، قامت وحدة من جيشها بارتكاب مجازر في دوار الملوزة في منطقة القبائل التي كان يعتبر سكانها من داعمي مصالي. فتم تصفية جميع الرجال رميا بالرصاص وقد فاق عددهم الـ300.

فاستغل الجيش الفرنسي الفرصة فقدم عروض لرئيس جماعات التمرد في الحركة الوطنية، بلونيس، بمنحه أسلحة للدفاع بوجه جبهة التحرير الوطني. فقبل بلونيس دون أن يستشير قيادة الحركة. فانتهى به المطاف مقتولا على يد الجيش الفرنسي. لكن جبهة التحرير اغتنمت هذا الحادث لكي تروج لفكرة أن الحركة الوطنية تضم "خونة" للقضية الوطنية الجزائرية. وأدت سياسة الترهيب الممارسة من قبل جبهة التحرير إلى ثني السكان عن تقديم الدعم لجماعات الحركة الوطنية. وأدى الاضطراب السياسي الداخلي للحركة، الذي لم يكن حادث بلونيس إلا عارضا من عوارضه، إلى نهايتها. كما أدت محاولات الحكومة الفرنسية، في نهاية الحرب، بتقديم الحركة الوطنية على أنها قوة ثالثة، إلى إعطائها صورة المهادن مع الاستعمار الفرنسي. لكن الحركة ظلت حتى النهاية تتمتع بنشطاء شجعان ومخلصين، وخاصة في فرنسا حيث كانوا في عزلة سياسية كبيرة ومتزايدة، وغالبا ما كان يتم تصفيتهم من قبل جبهة التحرير الوطني.

وكانت سياسة جبهة التحرير الوطني مماثلة تجاه الحزب الشيوعي الجزائري وإن لم تؤدي إلى إبادة بنفس الحدة.

أما الحزب الشيوعي الجزائري، وبعد إعلانه عن عدم دعمه لتمرد تشرين الثاني / نوفمبر عام 1954، حيث لمح، كما بالنسبة لسطيف، بأن ذلك يمكن أن يكون من فعل "عناصر فوضوية" و"استفزازية"، حاول تشكيل قواته الخاصة من "مقاتلي الحرية"، ليجري بعدها اتصالات مع جبهة التحرير الوطني للتفاوض على شروط الانضمام للجبهة. فاشترطت الجبهة من الحزب الشيوعي انضمام رجاله بشكل فردي إلى جيش التحرير، وأن يكف الحزب الشيوعي من الظهور تحت رايته إلى حين تحقيق الاستقلال. وهذا ما فعله الاخير إلى حد كبير. فتم إرسال مسلحيه إلى الأدغال وكان الشك دائما معقودا عليهم كما كان يقتصر دورهم على مهام وضيعة، وتم ابقاؤهم بعيدا عن المسؤوليات، كما تم تصفية بعضهم. فلم يحقق للحزب الشيوعي أية مكانة على المستوى السياسي في جبهة التحرير الوطني.

يضاف أن هذه الأساليب لا تتوقف على العلاقات مع المنظمات الأخرى، بل أيضا في داخل جبهة التحرير الوطني. ففي كثير من الأحيان، قد تم فك النزاعات الداخلية بالسلاح. فعبان رمضان، القيادي البارز الذي بدأ في فترة 1955 - 1956 بالاختلاف مع أعضاء وفد جبهة التحرير الوطني الخارجية، قد تمت تصفيته بهذه الطريقة عام 1957. وكان الأول على لائحة طويلة من الذين قضوا بهذه الأساليب التي كانت تدل على شكل الدولة الجزائرية بعد تحقيق الاستقلال.

فحزب جبهة التحرير الوطني، على رأس نضال الشعب الجزائري من أجل تحرره، كان عليه القيام بنضال شاق طبعا. فالجيش الفرنسي بالمقابل، مع قوامه البالغ عدده 500000 رجل، وجنرالاته من ماسو وبيجار ولوبان، قد استخدم أساليب إرهابية تفوق بكثير إمكانيات جبهة التحرير الوطني.

ولم تكن الضرورة العسكرية التي دفعت جبهة التحرير الوطني لشن حرب شرسة ضد المعارضين المحتملين في الجزائر بحجم الشراسة التي واجه بها الجيش الفرنسي. كان ذلك بالحقيقة نتيجة خيارات سياسية.

كان هذا العنف بالتحديد نتيجة اعتماد الجبهة، في حربها، على حماس الجماهير الجزائرية وتطلعاتها، في حين أنها لم تكن تريد أن تأخذ هذه الجماهير العادة، وهي كانت في حماسها منفتحة على الأفكار، أن تقوم بمناقشة الخيارات السياسية. فالخيارات السياسية التي يمكن للجماهير اعتمادها يمكن أن تؤدي إلى مكان آخر عن ذلك الذي ارادته قيادة جبهة التحرير الوطني.

في الواقع، فإن قسما كبيرا من كفاح جبهة التحرير الوطني كان في سبيل أن يتم الاعتراف بها كالسلطة الشرعية للشعب الجزائري. فهي إذا كانت قد استخدمت الإكراه مع المنظمات الأخرى كالحركة الوطنية والحزب الشيوعي، فذلك لأنها كانت تستخدم نفس الأسلوب بوجه الشعب الجزائري. فكل من لا يعترف بجبهة التحرير الوطني كان يعتبر "خائنا"، وغالبا ما كان يعامل على أنه كذلك. كما كان في بعض الأحيان يستخدم العنف لفرض احترام القوانين القرآنية بشأن شرب الكحول أو التدخين. كما أنه بدأ بوضع "تنظيم سياسي وإداري" يقوم، على سبيل المثال، بتسجيل الزواج.

كانت المسألة في الواقع إنشاء سلطة جزائرية معارضة لسلطة الدولة الفرنسية. ويجب على الجماهير الخيار بين هاتين السلطتين. فاختارت بسرعة جبهة التحرير الوطني التي تمكنت بذلك الاعتماد على دعمهم ونضالهم وتضحياتهم وكراهيتهم للاستعمار، ولكنها لم تكن تسعى لأن يكون لهم أية سيطرة. فكانت سلطة الجهاز العسكري والسياسي أعلى من سلطة الجماهير ولا يريد أن يتأثر بها.

فكانت جبهة التحرير الوطني قادرة على استدعائهم، ولا سيما العمال للقيام بمظاهرات ولحراكات محدودة زمنيا - وذلك تم بالحقيقة في وقت متأخر جدا من العملية النضالية. لكنه كان يتجنب دائما تعليم هؤلاء العمال والطبقات الشعبية التنظيم الذاتي وإيجاد أشكال النضال الخاصة بها وأن يقرروا التعبئة بأنفسهم. فإذا كانت جبهة التحرير الوطني تريدهم كقاعدة ودعم لها، فإنها لم تكن تسمح لهم، في سياق الحرب، اكتساب الخبرات التي قد تمكنهم، في وقت لاحق، من معارضة سياسة الدولة الجزائرية الجديدة. إن هذا الهم هو الذي ينعكس أيضا في خيارات العمل الكفاحي في المدن، وخاصة استخدام الإرهاب.

فاختيار العمل لإرهابي الذي تنفذه قوات خاصة كطريقة نضالية أساسية إنما كان يهدف إلى جعل العمل العسكري مهمة تقوم بها مجموعة متخصصة، الأمر الذي يحدد دور بقية السكان بابداء الدعم ليس أكثر. وكانت جبهة التحرير تعي خيارها هذا جيدا، وبانه بإعطاء نفسها صورة بغيضة بسبب هذه الأعمال الإرهابية، فإنها كانت تبعد بعض المقاتلين عنها وتعطي السلطات الفرنسية حجة لتنفيذ سياستها الفائقة الوحشية ردا على فظائع جبهة التحرير الوطنية.

وقاتلت جبهة التحرير بنفس الاسلوب ضد الحركة الوطنية الجزائرية بهدف السيطرة على العمال الجزائريين المهاجرين، حيث كان هناك 400000 عامل في فرنسا و150000 في ألمانيا. وهي قد استخدمت هذه السيطرة بهدف جعل العمال الجزائريين في فرنسا يمولون الجبهة، طوعيا أو كرها.

ومع ذلك، فعندما كانت الجبهة تقوم، في مظاهرات معينة كتلك التي نظمت في تشرين الاول / أكتوبر 1961، بدعوة العمال الجزائريين إلى التظاهر، كان هؤلاء يبرهنون، بشجاعتهم وتصميمهم، عن القوة التي كانت لديهم وعن الإمكانيات التي كان يمكنهم توظيفها في خدمة سياسة مختلفة تهدف إلى الإتصال ليس فقط بغيرهم من عمال شمال أفريقيا في فرنسا بل أيضا بالعمال الفرنسيين.

الأزمة السياسية للإمبريالية الفرنسية

ولكن الآن يجب علينا أن نتحدث عن كيفية تأثير نضالات الشعوب المغاربية على الاستعمار الفرنسي.

فالاستعمار الفرنسي كان يقوم بمعركة دفاعية، وكان قادته السياسيين على وعي بذلك، على الأقل أكثرهم حكمة. لكن حكومات الجمهورية الرابعة، الحريصين بشكل خاص على الحفاظ بأي ثمن على أغلبيتهم السياسية المترهلة، سرعان ما تبين أنهم غير قادرين على التعامل مع القضية الجزائرية بشكل آخر غير إرسال تعزيزات للقوات، أي الانخراط بحرب خاسرة.

والحكومات المدعومة من الأحزاب اليسارية فعلت كغيرها. فمينديز فرانس ووزيره ميتران سعيا إلى التعويض عن معركة ديان بيان فو وفقدان الهند الصينية عبر تأجيج الحرب في الجزائر. وفي أوائل عام 1956، جاءت حكومة غي موليه بعد النجاح الانتخابي للجبهة الجمهورية التي كان قد وعدت الناخبين بتحقيق السلام في الجزائر. لم يستلزمها الأمر شهرا واحدا لتقرر اتباع سياسة معاكسة تحت ضغط احتجاجات الفرنسيين المتطرفين في الجزائر والذين استقبلوه في 6 شباط / فبراير 1956 عبر رمي الطماطم والبيض الفاسد. فلم يكن باستطاعة الشجاعة السياسية لغي موليه احتمال ذلك!

فتم في عهد حكومته زيادة تعداد الجيش في الجزائر إلى نصف مليون رجل وتم تمديد الخدمة العسكرية لسبعة وعشرين شهرا ومناداة جنود الاحتياط وإقامة التعذيب على نطاق واسع.

ولا بد من التحديد أن الحزب الشيوعي لم يتلكأ عن دعم سياسته. وإن لم يكن الحزب الشيوعي الفرنسي يتحدث، كما في عام 1945، عن ضرورة الاحتفاظ بالجزائر ضمن "الوحدة الفرنسية"، لكنه كان يتحدث في أحسن الاحوال عن ضرورة تحقيق "السلام في الجزائر" دون الإعلان عن تأييده لاستقلال الجزائر. وفي الواقع كان يبدو متضامنا مع الاستعمار الفرنسي. وقد برهن بشكل واضح عن دعمه بتصويته، في آذار / مارس 1956، لإعطاء الصلاحيات الخاصة التي مكنت غي موليه من تكثيف الحرب. كان الحزب الشيوعي الفرنسي يريد اثبات حسن نيته للحزب الاشتراكي الذي كان يمكنه فتح طريق السلطة أمامه. فقدر أن هذا الحساب السياسي الضئيل يستحق إضافة حقارته إلى حقارة غي موليه.

هذا ما كانت عليه الصورة التي قدمتها الأحزاب التي من المفترض أنها تتكلم باسم الطبقة العاملة الفرنسية للشعب الجزائري في سنوات الحرب، ولكن هذه الطبقة العاملة لم تبق دون ردود فعل. فإنها هي التي دفعت تكاليف سياسة الحرب وانعكاساتها كتدابير التقشف والتضخم وغيرها. فحاولت الدفاع عن نفسها بما أمكنها.

فكان الرد على استدعاء جنود الاحتياط في آذار / مارس 1956، بقيام مظاهرات حاشدة، كما رفض جنود الاحتياط المغادرة إلى الجزائر، وتظاهروا في العديد من المدن، ومنهم من تمدد أمام القطارات لمنعها من الاقلاع نحو الجزائر. وكان وراء هذه المظاهرات في كثير من الأحيان مناضلون من اليسار وأقصى اليسار، بما في ذلك الشباب الشيوعيون. لكن أحزاب اليسار تخلت عن جنود الاحتياط المتمردين. فالحزب الاشتراكي القابع في الحكومة والحزب الشيوعي الذي صوت لصالح إعطائه الصلاحيات الخاصة لم يريدا لم يكن في نيتهم أبد قيادة المظاهرات المعادية للجيش والتي كانت في الواقع رافضة للحرب الاستعمارية. ولكن الجنود المستدعين أجبروا على المغادرة، فهكذا شاركت أحزاب اليسار الفرنسية بزجهم في عفونة الجيش الفرنسي في الجزائر. فمات بعضهم، ولكن الكثير تعلم استعمال أدوات التعذيب و"اصطياد العرب". فالأحزاب اليسارية الفرنسية مسؤولة عن هذه الغرغرينا كما أنها تتحمل مسؤولية هزيمتها السياسية التي كانت نتيجة جبنها وارتدادها عن أفكارها والخنوع الذي أصابها.

كانت الطبقة العاملة الفرنسية قوية ومنظمة. والأزمة الجزائرية أصبحت أزمة سياسية كبيرة للبرجوازية الفرنسية. لكن الأحزاب التي كانت تمثل الطبقة العاملة فعلت كل ما بوسعها لتجنب أن تناضل هذه الطبقة من تلقاء نفسها، تحت رايتها الخاصة، ضد هذه البرجوازية المأزومة.

لذلك، فإن البرجوازية هي التي وجدت الوسيلة لحل أزمتها. وإذ بالجمهورية الخامسة تلد من عفن الحرب في الجزائر. فديغول، مستفيدا من أعمال الشغب في 13 أيار / مايو عام 1958 واستقالة الأحزاب اليسارية، ومتكئا على الجيش في الوقت الذي كان يقدم الوعود للمتطرفين من سكان الجزائر الفرنسيين، قام بتقديم، للبرجوازية الفرنسية، نظام سياسي قلل من وزن الأحزاب اليسارية وخاصة الحزب الشيوعي الفرنسي، وحيث أصبح دور البرلمان محدودا وحيث لم تعد دكتاتورية رأس المال المالي تخاف من عدم الاستقرار الأغلبية البرلمانية.

فكان هذا الوسيلة السياسية المرجوة من البرجوازية الفرنسية لمواجهة نهاية استعمار الجزائر.

لكن نهاية الاستعمار تطلبت عدة سنوات والعديد من الاضطرابات السياسية. فديغول أراد أن يحاول الحفاظ على المكانة الاقتصادية والمصالح المستقبلية للامبريالية الفرنسية في إمبراطوريتها الاستعمارية، بما في ذلك الجزائر. كما انه أراد التعامل مع الجيش ومع المتطرفين الفرنسيين. فدفع الشعب الجزائري ثمن ذلك أربع سنوات إضافية من الحرب، بينما ظل في فرنسا خطر حصول انقلاب لليمين المتطرف على السلطة فعليا جدا.

من عام 1958 وصولا إلى استقلال الجزائر

لن نتحدث إلا سريعا عن السنوات الأخيرة من حرب الجزائر من 1958 إلى 1962. دعونا نقول فقط أنه، في نواح كثيرة، كانت السنوات 1958-1959 فترة صعبة للشعب الجزائري. فالجنرال ماسو وقوات المظليين معه قاموا بفعلتهم الوخيمة في الجزائر العاصمة، والجيش انتشر في البلاد في حين شكل نزوح السكان إلى مراكز التجميع عائقا في وجه المقاومين. فمقاتلو جبهة التحرير الوطني المعزولين افتقروا للسلاح والإمدادات وكانوا يموتون من الجوع والبرد في الجبال. فحل الإحباط في عدد من مجموعات المقاتلين.

فأدى هذا الوضع، في البداية، إلى أزمة داخل جبهة التحرير الوطني. فقام أربعة عقداء من جيش التحرير بمؤامرة عسكرية حقيقية في تونس في محاولة لانقلاب على القادة. لكنه تم احباط مؤامرتهم وتحويلهم إلى أمام محكمة جبهة التحرير الوطني والتي كان يرأسها بومدين، فتم الحكم عليهم بالإعدام.

ولكن في المقابل، شهدت هذه الفترة اتخاذ جبهة التحرير الوطني شكلها السياسي النهائي حيث اكتسبت مصداقية على المستوى الدولي وكسبت أكبر عدد من النقاط على الجبهة الدبلوماسية.

ففي أيلول / سبتمبر 1958 تم تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية برئاسة فرحات عباس. وأعطت هذه الحكومة المؤقتة نفسها سريعا الوسائل اللازمة لتكون حكومة حقيقية. كما واصل تعداد جيش التحرير الوطني المتمركز على الاراضي التونسية والمغربية تزايده إلى أن أصبح بقياس الجيوش الكلاسيكية مع معسكرات للجيش وأسلحة ووسائل النقل والتسلسل الهرمي. فكان "جيش الحدود" بقيادة بومدين. ولم يكن الغرض من هذا الجيش في الواقع الاشتباك مع الجيش الفرنسي. فهو قد بقى في تونس وفي المغرب ليشكل أحد ركائز الدولة الجزائرية ما بعد الاستقلال، حينها فقط سوف يبدأ استخدامه.

في السنوات الأخيرة من الحرب، باتت المواجهة أقل على الصعيد العسكري بين جيش التحرير الوطني والجيش الفرنسي منها على الصعيد السياسي. فقادة جبهة التحرير الوطني كانوا يدركون عدم امكانيتهم طرد الجيش الفرنسي بقوامه الـ 500000 عنصر الذين كانوا منتشرين في كافة أنحاء البلاد. على هذه الصعيد، المسألة كانت بشن حرب استنزاف مما اضطر الحكومة الفرنسية، التي لم يكن بوسعها ابقاء كل هذا الجيش في الجزائر مطولا، إلى الإسراع في البحث عن حل سياسي. ذلك خصوصا أنه منذ أن اقترحت الحكومة الفرنسية، بلسان ديغول في عام 1959، "تقرير المصير" للجزائر، بدأت تصطدم بمعارضة متزايدة من قبل الجيش والأوربيين القاطنين في الجزائر.

ومن المفارقات أن هذا التحول قد قلص تدريجيا المجال أمام الحكومة الفرنسية في مواجهة جبهة التحرير الوطني.

فحاولت مرارا وتكرارا إنشاء "قوة ثالثة" داخل النخبة الجزائرية يمكنها إحداث توازن في التفاوض ضد جبهة التحرير الوطني. فباءت كان هذه المحاولات بالفشل، وكذلك الجهود من نفس النوع التي بذلت بين السكان الأوروبيين بهدف بلورة وجهة نظر ليبرالية تقوم بالحوار مع "القوة الثالثة" الجزائرية هذه. ثم جاءت منظمة الجيش السري والضربات المتتالية من قبل اليمين المتطرف والجيش في محاولة لتجديد يوم 13 أيار / مايو 1958 بهدف إجبار الحكومة الفرنسية على التخلي عن فكرة التفاوض مع جبهة التحرير.

لكن المفاوضات أدت في نهاية المطاف إلى توقيع اتفاقيات إيفيان في آذار / مارس 1962 والتي حصلت فيها الحكومة الفرنسية على ضمانات اقتصادية وخاصة فيما يتعلق باستثمار النفط.

وكان ثمن هذه السنوات باهظا على الشعب الجزائري، حتى أنها كانت أكثر السنوات تكلفة. ولكن في 5 تموز / يوليو 1962، وأخيرا، وبعد 132 سنة من الاستعمار الفرنسي، تم إعلان استقلال الجزائر. واستغرق الأمر ثماني سنوات من حرب وحشية، ذهب ضحيتها ما يقارب المليون قتيل في الجانب الجزائري، و27500 قتيل بين الجنود الفرنسيين وحوالي 3500 مدني أوروبي.

ثماني سنوات ليتم الاقرار بحق الشعب الجزائري بحقه البديهي بالتمتع بدولته الخاصة وبكرامته الوطنية!

لكن المشاكل لم تنته هنا. ففي صيف 1962، سرعان ما تبدد الفرح في قلوب الكثير من الجزائريين لتحل مكانه خيبة الأمل لرؤية مشهد الصراع على السلطة بين قادته داخل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية والذي ظهر بسرعة للعلن.

فالصراع كان بين الحكومة المؤقتة الرسمية التي كان يرأسها حينها بن خدة، بدعم من كريم بلقاسم وبوضياف وآيت أحمد من جهة، ومجلس أركان جيش التحرير الجزائري وقائد "جيش الحدود" بومدين والذي ناصره بن بيلا ومحمد خيضر. فكان في نهاية المطاف بن بلا الذين تمركز في السلطة وذلك بفضل دعم بومدين والجيش... وبقي في السلطة حتى قام بومدين نفسه بابعاده عنها في حزيران / يونيو 1965.

فكانت السنوات التي تلت الاستقلال مرحلة توطيد الدولة : دولة لا تمثل الجماهير، شيدت على حساب الحرية النقابية واستحوذت على الحركة الطلابية وسيطرت على المعارضة الطبيعة كما تلك في منطقة القبائل، فأخذت هذه الدولة شكل دكتاتورية.

الحصيلة

في نهاية المطاف لقد تم منح الاستقلال السياسي للدول المغاربية. لكنه من المؤكد، بالنسبة لجميع من ناضل وأمل طوال كل هذه السنين، أن النتيجة ليست بمستوى طموحاتهم. فسرعان ما حلت خيبة الأمل.

ففي المغرب، يشكل نظام الحسن دكتاتورية دموية والسجون ممتلئة وبات جزء كبير من السكان جياعا. وفي تونس، إن ديكتاتورية بورقيبة بالكاد أقل وطأة، في حين أن التناقضات الاجتماعية أصبحت لا تطاق، حيث أن أقلية من السكان تجهر بثروتها أمام أعين الأغلبية المحكوم عليها بالبؤس. وحتى في الجزائر، لا يزال النظام الديكتاتوري البوليسي لا يسمح بأية معارضة وحيث يتفشى الفقر أيضا بين الشعب.

وفي هذه البلدان الثلاثة، أصيبت هذه الأنظمة بميول رجعية أثرت على المجتمع ككل، مثل استخدام الأيديولوجية الإسلامية مع كل ما ترتب على ذلك من تقهقر اجتماعي، وخاصة بالنسبة للنساء.

لقد رحل الاستعمار، ومعه غطرسة المستوطنين وعنصريتهم واحتقارهم للسكان الأصليين وإنكارهم حتى لحقوقهم وللغتهم وثقافتهم وتاريخهم وحتى وجودهم. ولكن اليوم، لقد تعززت الطبقات الحاكمة المنبثقة من السكان الأصليين، فزادت ثروتها التي باتت تظهرها بشكل استفزازي، في حين تقوم بفرض قوانينها على باقي المجتمع. فتبلورت أجهزة السلطة التي أنفقت مبالغ باهظة على جيوشها وأفرطت بتجهيزها وبتسليحها. وتشكل هذه الجيوش الدعم الحقيقي للسلطة في كل بلد، ذلك عندما لا تتحارب مع بعضها البعض، كما الحال بين الجيشين الجزائري والمغربي الذين يتناحران على بضعة كيلومترات مربعة من الرمال في الصحراء.

ذلك لأن القادة التونسيين والمغاربة والجزائريين لم يقوموا حتى بقيادة نضالات شعوبهم إلى بناء مغرب كبير موحد. بالعكس، فإنهم بدلا من ذلك قد طوروا القومية الجزائرية والمغربية والتونسية المتعارضة فيما بينها. ليؤدي ذلك إلى نشر الكراهية القومية بعد أن كان يعم في السابق شعور الأخوة والشعور بالانتماء إلى نفس الشعب من طرف إلى آخر من المغرب العربي.

وفي آخر المطاف، فإذا كانت الأعلام الوطنية هي التي باتت ترفرف على المباني العامة في البلدان المغاربية الثلاثة، بدلا من علم القمع الفرنسي، إلا أن الإمبريالية الفرنسية ما زالت تهيمن اقتصاديا وما زالت تستغل وتنهب هذه البلدان.

وما زالت ثمار عمل المستغلين في الجزائر وتونس والمغرب تقوم بإثراء نفس رأس المال الكبير، الفرنسي أو الغربي. وفي كثير من الأحيان كان استغلال مئات الآلاف من عمال شمال افريقيا يتم بشكل مباشر حيث أنهم كانوا يضطرون للقدوم إلى العمل في الشركات الكبيرة هنا في فرنسا.

إن لجماهير الفلاحين والعمال في المغرب وتونس والجزائر كل الأسباب لتشعر بالفخر بتمكنها من إجبار الجيش الفرنسي بالخروج من بلادها، لكنه من حقها أيضا الشعور بخيبة الأمل لما آلت إليه السياسة التي اعتمدت على روحهم القتالية وعلى طاقتهم. إن الشعور بخيبة الأمل محق بشكل خاص نظرا للإمكانيات الفعلية التي كانت موجودة في تلك السنوات.

أما بالنسبة للامبريالة الفرنسية، والإمبريالية جمعاء بشكل عام، كان الوضع بالغ السخونة في هذا الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط. فشعوب الجزائر وأيضا المغرب وتونس تمكنت من تخريج عشرات ومئات الآلاف من الرجال والنساء من صفوفها القادرين على المحاربة بشجاعة. هؤلاء العشرات ومئات الآلاف من المقاتلين، المدعومين من قبل شعب برمته، شكلت قوة لا يستهان بها. والطاقة التي بذلها الشعب الجزائري، ولا سيما الطبقات الفقيرة والعمال والفلاحين - الذين وفروا الجزء الأكبر من المقاتلين وحتى، وللأسف، الكوادر والقادة السياسيين - كان بإمكانه تغيير معالم القسم الجنوبي من البحر الأبيض المتوسط، ولربما أيضا قسمه الشمالي.

ففي جميع أرجاء المغرب العربي، شكل عزم الشعب الجزائري مثالا مشجعا كان بإمكانه جر كافة المغرب العربي إلى التمرد ضد القمع الفرنسي وكذلك أيضا ضد الطبقات المترفة من السكان الأصليين. ولكن تحقيق ذلك كان يتطلب وجود قيادة سياسية تضع لنفسها هكذا هدف، وبدل أن يكون همها كيفية رسم حدود جديدة بين الشعوب، أن تعمل بالعكس على إزالة هذه الحدود وتوحيد الشعوب فيما بينها. كان ذلك يتطلب قيادة ذات سياسة أممية، قيادة تمثل مصالح العمال والطبقة العاملة وكل الطبقات الشعبية.

إن مصيبة الطبقة العاملة الجزائرية، ومصيبة كل الشرائح الشعبية الأخرى في الجزائر كما في بقية بلاد المغرب العربي، هو أنه في الوقت الذي قامت بتوفير الجزء الأكبر من المقاتلين فإن هذه الطبقة العاملة والشرائح الشعبية بقيت وراء اتجاه سياسي يمثل مصالح البرجوازية الوطنية التي استخدمت القومية بهدف تشييد جهاز دولة يحميها من الإمبريالية بعض الشيء، وكثيرا من شعوبها.

إن القيادة البروليتارية لو كانت موجودة، لسعت لأن تؤدي الطاقة الثورية لمئات الآلاف من الجزائريين المكافحين إلى جر الفقراء في البلدان المغاربية الأخرى ليتم خلق، في خضم الحراك ومتى أمكن ذلك، مغربا كبيرا وموحدا تحت قيادة الطبقة العاملة والطبقات الشعبية.

كانت الإمكانية الموضوعية لتحقيق ذلك متوفرة. فإنه إذا كان من الممكن تصدير الثورات شريطة وجود إرادة ذات طابع أممي، فالثورة الجزائرية كان يمكن تصديرها بسهولة أكبر للبلدان المغاربية الأخرى بحيث أن هذه البلدان كانت مسبقا على حافة الإنفجار. كما كان من شأن المغرب العربي، تحت القيادة العمالية، أن يمثل قوة جذب كبيرة لجميع المستغلين، بدءا من الطبقات الشعبية في البلدان العربية الأخرى.

كما كان للعمال الجزائريين أيضا إمكانية أخرى. فكما ذكرنا، كان مئات الآلاف من العمال الجزائريين يعيشون، منذ ذلك الوقت، في الجزء الأوروبي من الاراضي الفرنسية. وكان لمئات الآلاف من هؤلاء، بسبب الاضطهاد القومي الذي كانوا ضحيته، درجة عالية من الوعي السياسي والتعبئة مقارنة بالطبقة العاملة الفرنسية الاصل. بذلك، كان بإمكان الطبقة العاملة الجزائرية إعطاء الطبقة العاملة الفرنسية التأثير الانساني الذي لم تتمكن الطبقة العاملة الفرنسية فعله تجاه الشعب الجزائري وذلك بسبب قادته الإصلاحيين والخائنين.

فمئات الآلاف من العمال الجزائريين في فرنسا، لو كانوا قد ناضلوا ضمن سياسة خاصة بهم تخدم الثورة البروليتارية وبنفس التصميم الذي أبدوه في دعم جبهة التحرير الوطني، لكان بإمكانهم جذب بعض العمال الفرنسيين إلى هذا النضال وبل حتى تحدي وربما كسر السيطرة الحديدية التي كان يفرضها القادة الإصلاحيين والستالينيين على العمال الفرنسيين. فكان هؤلاء القادة جبناء في الدفاع عن المصالح الحقيقية والسياسية للطبقة العاملة الفرنسية تماما كما كانوا جبناء في الدفاع عن حق الشعب الجزائري والتونسي والمغربي بالتحرر الوطني.

هل كان ذلك ليكفي في ذلك الوقت لجعل الطبقة العاملة في فرنسا تسلك الطريق إلى الثورة؟ من الصعب الاجابة كما لا يمكن إعادة كتابة التاريخ. ولكن، على أي حال، كان بإمكان هؤلاء العمال، في بلدهم المتأخر اقتصاديا، تكوين الحزب الثوري البروليتاري الذي لم تتمكن بنائه الطبقة العاملة في البلدان المتقدمة كفرنسا، وكان من شأن ذلك أن يغير معالم الأمور بالتأكيد.

كان لقادة جبهة التحرير الوطني، في ذلك الوقت، الشجاعة لبدأ القتال ضد الاضطهاد الاستعماري. وهم إن تمكنوا من قيادة هذا القتال والبقاء في القيادة حتى النهاية فذلك يعود للفشل السياسي للبروليتاريا في المغرب العربي كما في فرنسا. ولكن هؤلاء القادة، بتوجيههم نضال القوميات الصغيرة بإتحاه قومية ضيقة أدت إلى تفكيك وحدة المغرب العربي، كان لا بد لهم من خيانة الفقراء والعمال الذين وضعوا آمالهم فيهم.

ثوارا كانوا، نعم، ولكنهم كانوا يعملون لثورة مثل الثورات التي سبقتها في التاريخ القديم والتي هدفت إلى تأسيس أوطان لم يعد لها مكان في عصر الإمبريالية العالمية والقمع الرأسمالي.

فاليوم، إن الثورة الحقيقية، والتي تعني التغيير الشامل لمصير الناس وكيان المجتمع، هي الثورة البروليتارية.

لقد ضاعت الفرصة في خمسينيات هذا القرن. لكن التاريخ لا يتوقف. والطبقات الشعبية في المغرب العربي أظهرت في السنوات الأخيرة أنها قادرة على القتال حتى ضد الأنظمة التي تدعي القومية. إذن، للختام، إن الأمل الوحيد الذي نستطيع التعبير عنه هنا والذي يشكل في الوقت نفسه تعبيرا عن إرادتنا السياسية، هو أن يبدأ أبناء الجيل الذي حارب في الخمسينات ضد الاستعمار الفرنسي، أي أفراد البروليتاريا الذين تمردوا العام الماضي في تونس وفي الرباط وفي الدار البيضاء، بتعلم القتال تحت راية خاصة بهم، راية المستغلين، راية البروليتاريا وراية الأممية!

ملاحق

بدايات الحركة العمالية في تونس

في تونس، كانت الطبقة العاملة متكونة منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، ولكنها كانت لا تزال اوروبية بمعظمها. وقد تم الاحتفال بالاول من أيار / مايو للمرة الأولى في عام 1904: فمبادرة من عمال البناء الإيطاليين، تضامن العمال الفرنسيون والإيطاليون وأيضا التونسيون واليهود والمالطيون فيما بينهم للمرة الأولى.

وفي السنوات التي أعقبت الحرب العالمية، وبتحول الفلاحين والحرفيين إلى عمال، تنامت الطبقة العاملة المتشكلة من تونسيين.

أما أرباب العمل، بلعبهم على الفوارق بين أفراد الطبقة العاملة، فكانوا يأخذون بعين الاعتبار مطالب العمال الأوروبيين بشكل خاص. كما لم يكن للعمال العرب تمثيل في قيادة الكنفدرالية العامة للشغل التي أسست عام 1920 في تونس، فكانوا يعاملون كمنتسبين من الدرجة الثانية.

في الواقع، كان قادة الكنفدرالية العامة للشغل، وخلفهم الحزب الاشتراكي في فرنسا، ينظرون للبروليتاريا العربية كيد عاملة جاهلة وكانوا يحتقرونها بشكل شبه علني.

لقد ساعد هذا التعامل على وضع العمال التونسيين تحت تأثير القوميين. ومع ذلك، لم يكن العمال التونسيون في ذلك الوقت منجذبين فعلا إلى حزب الدستور الذي تألف من أثرياء ومتعلمين كانوا يطمحون قبل كل شيء للمشاركة في إدارة الاقتصاد ولم يكن لديهم شيء يقدموه للعمال.

ثم جاء إضراب عمال الموانئ في العاصمة تونس ليؤدي إلى تأسيس نقابة تونسية مستقلة. فعمال الموانئ، الذين أتوا في الغالب في نفس المنطقة، من قابس، كانوا يشكلون مجموعة متجانسة، لكنهم، أمام لامبالاة المسؤولين النقابيين تجاهههم، لم يكونوا منتسبين إلى النقابات. فعندما شرعوا في اضرابهم في صيف عام 1924، طلب عمال الموانئ المشورة من محمد علي، وهو شخصية تحظى بشعبية بينهم. وكان محمد علي قد تمكن من تثقيف نفسه فكريا، وكان يؤيد فكرة تنظيم العمل على شكل تعاونيات عمالية في مختلف المجالات. فقام بتأسيس لجنة عمل نجحت بالتوجه إلى الرأي العام في المدينة لمطالبته بدعم الإضراب.

إن هذا الحدث يظهر كيف يقوم العمال، عند شروعهم بالنضال، بالبحث عن مشورة وعن وجهة لكفاحهم. ففي نضالات فترة 1924-1925، اتصل بعض المثقفون في تونس وبنزرت بالمضربين لكنم أعطوا لهذه النضالات طابعا قوميا لم يتمكن النشطاء الشيوعيون الذين كانوا في الحراك، كشرم العياري، من مضاهاتها. وعندما أسس محمد علي وأصدقائه الكنفدرالية العامة للشغل تونسية في أيلول / سبتمبر 1924، التي سميت بالجامعة العامة التونسية للشغل، فشلت المحاولات بإعطاء خط الجامعة العامة طابعا أمميا.

على الرغم، أو ربما بسبب النمو السريع للجامعة العامة التونسية للشغل بين العمال التونسيين، تبلور ضدها تحالف مقدس ضم الاوروبيين من المستوطنين إلى الاشتراكيين. وكان نشوء ونمو الجامعة العامة ضربة قاسية بالنسبة للاشتراكيين الذين اعتادوا اعتبار الطبقة العاملة معقلا لهم. فقاموا بإعلان اللعنة عليها بإسم الأممية المزعومة. لكن الجامعة العامة التونسية للشغل ردت بالقول بأنها، ولو كانت تونسية ومستقلة، كانت تنوي الانضمام إلى الدولية العمالية، شأنها شأن الكنفدرالية العامة للشغل في فرنسا، وأن "أبوابها مفتوحة لجميع العمال دون تمييز لا للعرق ولا للدين".

فقام الاشتراكيون بجلب ليون جوو، رئيس الكنفدرالية العامة للشغل، شخصيا لمحاولة إعادة المنشقين إلى الخط المستقيم. لكن ذلك كان دون جدوى. فالأسباب التي استخدموها لجذبهم كانت مليئة بالازدراء، كما يظهره ما قاله الزعيم الاشتراكي جواكيم دورال باستعلاء : "نفضل القول بكل صراحة، ولو كان من شأن ذلك أن يزعجكم، أنها ليست الطبقة العاملة المنظمة في أوروبا هي التي بحاجة إليكم (...)، بل أنتم من تحتاجون إلى مناهجنا في التنظيم والتثقيف والنضال، والتي من دونها سوف يستمر بؤسكم وسوف تبقون كما كنتم دائما : قطيع مواشي".

ومن الملحوظ أن حزب الدستور قام بالتخلي عن الجامعة العامة التونسية للشغل. ففي فرنسا، كان تجمع اليسار قد دخل الحكومة فأمل حزب الدستور حدوث إصلاحات كما كان يريد أن يكون على علاقة جيدة مع الحزب الاشتراكي. لذلك كان من المهم أن ينأى بنفسه بشكل واضح عن كل من الحزب الشيوعي والنقابيين المستقلين أيضا، وانتهى به الامر إلى ابرام اتفاق مع الاشتراكيين حاول بموجبه اقناع العمال التونسيين بالانضمام إلى الكنفدرالية العامة للشغل. وقامت حكومة الحماية، التي كانت بموقع قوة، باعتقال القادة النقابيين التونسيين في شباط / فبراير 1925، وحاكمتهم بتمهمة التآمر ضد أمن الدولة الداخلي، كما قامت باعتقال رئيس تحرير الصحيفة الشيوعية " المستقبل الاجتماعي".

وهكذا تم قطع رأس الحركة العمالية التونسية الوليدة. وحده الحزب الشيوعي، الذي كان في تلك الفترة متضامنا مع مقاتلي الريف ضد الإمبريالية، ظل محافظا على تضامنه مع الحركة العمالية التونسية حتى النهاية. وقد راكم بعض نشطائه عقوبات بسبب الموقفين. لكن ضعفه لم يسمح له بالحصول على نفوذ حقيقي بين العمال التونسيين، وفي وقت لاحق كانت سياسته هي المسؤولة عن هذا الفشل.

عملية إخضاع المغرب

في المغرب، الذي وقع تحت الحماية الفرنسية عام 1912، استمرت مقاومة السكان الاصليين طويلا، فاستخدم الجيش الفرنسي لكسرها أسوأ الاساليب. من بين هذه الاساليب تحفيز الجنود على مصادرة مخازن الغذاء من أجل تجويع السكان وفرض ضرائب باهظة على القبائل المهزومة وأخذ النساء كرهائن بهدف الضغط على المحاربين "المتمردين". في بعض الأحيان، كما كتب ضابط سابق "كنا نضع قنبلة يدوية داخل رغيف الخبز الممزوج بالسكر، ونعطيه للمستهلكين غير الحذرين منا بقدر كاف" وكان يتم وضع قنابل في الآبار أو على ظهر حمار يفلت ليلا بالقرب من خيام القبائل. ويقتبس "دانيال غيران" شهادة طيار خلال الحرب ضد عبد الكريم الخطابي، حيث تلقى الأمر "بتنظيم رحلة من أربعة أو خمسة طائرات بريجيت تقوم بالتحليق على علو منخفض فوق قبائل الشلوح المتمردة والتي كانت تفر مع قطعانها. فمزقت مراوح الطائرات ونيران الرشاشات كل الرجال والحيوانات".

وهزيمة عبد الكريم الخطابي لم تضع حدا للقتال. فبعد حرب الريف، استمرت الممارسات الإرهابية وقتل الناس على نطاق واسع بهدف إحلال السيطرة الفرنسية. فتم إزالة قرى بأكملها كما تظهره هذه الحادثة التي وثقها دانيال غيران في تافيلالت التي نالت حظها من سياسة البطش بين عامي 1927 و1933: "يعج سوق المدينة في الوادي بالسكان الذين يأتون لشراء حاجاتهم بكل أمان. والحالة صعبة بالنسبة للأربعين ألف نسمة التي تسكن هذه المنطقة بسبب الحصار الذي أطبق الجيش بهدف إخضاع ثلاث قبائل متمردة في الجوار... وهم يتأتون إلى السوق لمحاربة الجوع الذي بدأ يخيم عليهم.

وإذ في السماء الصافية يظهر سرب طائرات يهجم على هذا التجمع المسالم والذي بات هدفا مميزا "للطيارين البواسل".

فيتحول السوق، خلال دقيقة واحدة، إلى مقبرة. فتتناثر الجثث بفعل القنابل في ساحة السوق المشمسة وتنهي رشاشات على كل من كان يبحث على ملجأ..."

وعلى الرغم من الأساليب الإرهابية وإمكانيات الجيش الفرنسي الكبيرة، استمرت المقاومة حتى عام 1934.