اسرائيل – فلسطين : كيف جعلت الإمبريالية شعباً سجّاناً لشعب أخر، ودفعت بالإثنين إلى مأزق مأساوي - نص مفصل - 2008

ترجمة

حلقة ليون تروتسكي – باريس في 1 شباط / فبراير 2008
 النص الاصلي: https://www.lutte-ouvriere.org/documents/archives/cercle-leon-trotsky/is...
 

عناوين الفقرات

من الحرب العالمية الأولى إلى إنشاء دولة إسرائيل

القوى الامبريالية تقسم الشرق الأوسط

الحركة الصهيونية

وعد بلفور

الانتداب البريطاني لفلسطين

الانتفاضة العربية الكبرى (1936- 1939)

 

ولادة دولة إسرائيل

أول حرب عربية إسرائيلية
طرد الفلسطينيين و"تهويد" الأراضي المحتلة
دولة قائمة على التمييز والتفرقة وتحت نفوذ الحاخامات
إسرائيل، شرطي الإمبريالية في الشرق الأوسط

 

من عام 1967 إلى اليوم: النضال الفلسطيني يؤدي لإقامة سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية

الفلسطينيون يتحررون من وصاية الدول العربية

مأزق السياسة القومية لمنظمة التحرير الفلسطينية

مجزرة أيلول / سبتمبر الأسود (1970)

حرب لبنان (1975-1982)
عرفات، محاور معترف به من قبل الإمبريالية... ولكن ليس من قبل إسرائيل
الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد عام 1967
الانتفاضة الأولى (1987-1993)
فترة اتفاقات اوسلو (1993- 2000): حقيقة ما يسمى بـ "عملية السلام"
إنشاء السلطة الفلسطينية (1994)
حماس، من القتال ضد منظمة التحرير الفلسطينية الى أولى العمليات الانتحارية
الانتفاضة الثانية (2000)
وصول شارون إلى السلطة

 

إذا، ما هي الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها اليوم ؟

إسرائيل: ثقل الجيش

ثقل اليمين المتطرف

الفلسطينيون: حماس في السلطة

النفوذ المتنامي للإسلاميين

الدولة الفلسطينية: حل لا يقدم أي افق للأكثر فقرا

ليس هناك حل مرض لكلا الشعبين في اطار الإمبريالية

الأمل يأتي من نضال البروليتاريا

 

لقد شاهدنا جميعا صور ألاف الفلسطينيين من قطاع غزة وهم يعبرون الحدود مع مصر عبر ثغرة فتحت بالديناميت والجرافات. وقد شاهدنا جميعا المشهد المروع لهؤلاء الفلسطينيين يهرعون الى المتاجر المصرية لشراء البضائع الأساسية والأدوية. وشاهدنا ايضا بعض الاشخاص الذين التقوا بأقاربهم بعد فراق دام عدة سنوات... تذكرنا هذه الأحداث الأخيرة بأن غزة ـ هذا الشريط الصغير من الأرض على بضعة كيلومترات من الطول والعرض - قد أصبحت معسكر اعتقال لمليون ونصف من الفلسطينيين. والمسؤولية تقع بطبيعة الحال على إسرائيل. ولكن الأسلاك الشائكة والجدران التي تحيط بهذه الأراضي لم تضعها إسرائيل كلها. فمصر قد وضعت قسما منها أيضا.

وقد نظمت إسرائيل منذ عدة أشهر الحصار المفروض على سكان قطاع غزة مما أدى إلى تجويع السكان وحرمانهم من الكهرباء ومن الأدوية. وبكل السفاهة المعتادة للقادة الإسرائيليين، أعلن رئيس الوزراء: "على شعب غزة أن يفهم أنه ما دامت حماس في السلطة، فإننا لن نوفر له إلا الحد الأدنى"، محددا: "إن إسرائيل لن تسمح بحدوث أزمة إنسانية في غزة ولكننا نحرص على ألا يعيش السكان بشكل مريح."

علاوة على ذلك، يخضع الفلسطينيون في غزة لقصف الطائرات الإسرائيلية بشكل منتظم. كل هذا يوضح قيمة ما يسمى بـ"إحياء عملية السلام" التي بدأ الحديث عنها بعد اجتماع القادة الإسرائيليين والفلسطينيين في مدينة انابوليس في تشرين الثاني / نوفمبر2007.

فهذا العنف وهذا الازدراء، الذين تتميز بهما الدولة الإسرائيلية منذ نشأتها، هما ما خلق هوة الدم والكراهية بين اليهود والعرب في المنطقة.

ولكن الأسوأ من ذلك، والأكثر خطورة وتعاسة، أن الصهيونية قد حولت الشعب اليهودي، المضطهد على مدى قرون، إلى جلاد لشعب آخر.

إن المسؤولين الأساسيين عن هذه الحالة ليسوا في الشرق الأوسط. إنهم في لندن وباريس وواشنطن. إن قادة القوى الامبريالية هم الذين خلقوا هذا الوضع المعقد جدا، وهم الذين اختاروا، بوعي وعن قصد، إلى دفع هذين الشعبين الى المواجهة كما فعلوا بين شعوب أخرى في أماكن أخرى في العالم. من الهند حيث ألبوا بين الهندوس والمسلمين، إلى أفريقيا في كينيا الغارقة بالاشتباكات العرقية الدموية، هكذا دائما تمكنت الامبريالية من فرض سيطرتها.

وفي الشرق الأوسط، الذي هو منذ فترة طويلة محط أنظار القوى الكبرى المهيمنة على العالم وخاصة منذ أن طفحت فيه رائحة النفط، قام القادة الإمبرياليون بدفع اليهود والفلسطينيين للمواجهة للتمكن من استخدامهم. إلى هذا التاريخ المكتوب بدماء الملايين من النساء والرجال سوف نتطرق هذا المساء.

 

من الحرب العالمية الأولى إلى إنشاء دولة إسرائيل

القوى الامبريالية تقسم الشرق الأوسط

في أوائل القرن العشرين، كانت فلسطين جزءا من الإمبراطورية العثمانية القديمة التي امتدت من شبه الجزيرة العربية الى أوروبا الشرقية وشملت معظم دول الشرق الأوسط. وكانت منطقة فقيرة ومتخلفة اقتصاديا، وكان يسكنها بالكاد مليون نسمة. فالمزارعون الصغار، الذين كانوا يشكلون الغالبية العظمى من السكان، كانوا يستأجرون الأراضي العائدة إلى كبار ملاك الأراضي الساكنين في أغلب الأحيان في بيروت ودمشق.

وكانت الإمبراطورية العثمانية، التي كانت في طور الانحسار حيث لقبت بـ "رجل أوروبا المريض"، قد باتت تحت سيطرة القوى الامبريالية الكبرى الأوروبية المتربصة بها بهدف تقسيمها فيما بينها.

وفلسطين، وإن لم تكن أبدا البلد "الفائض لبنا وعسلا" كما وعد الكتاب المقدس، كانت مع ذلك تثير أطماع هذه القوى العظمى، وعلى رأسها بريطانيا، كونها بوابة لمنطقة الشرق الأوسط وسوقها وموادها الأولية، بما في ذلك النفط منذ ذلك الحين.

وشكلت الحرب العالمية الأولى، وخيار الإمبراطورية العثمانية بالاصطفاف مع ألمانيا، الفرصة لفرنسا ولبريطانيا لإطلاق رصاصة الرحمة على هذه الامبراطورية.

وبينما كان القتال على أشده في عام 1916، اجتمع ممثلو البلدين في موسكو تحت رعاية القيصر، الذي كان يريد أيضا المشاركة في تقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية، ووقعوا اتفاقا بقي في التاريخ تحت اسم اتفاقية سايكس بيكو، على اسم المفاوضين الاثنين. فعلى بعد آلاف الكيلومترات من المناطق التي كانوا يناقشون مستقبلها، وبازدراء للشعوب التي تعيش هناك، قاموا بتحديد مناطق نفوذ كل من دولتهما: وللتبسيط، أصبحت المنطقة التي تضم لبنان وسوريا الحاليين من حصة فرنسا بينما عادت المناطق التي تضم اليوم فلسطين والأردن والعراق إلى البريطانيين. وكان لهذا الاتفاق أن يبقى سريا، ولكن من سوء حظ هؤلاء المتخصصين بالدبلوماسية السرية، فقد اندلعت الثورة في روسيا في العام 1917 وأطيح بالقيصر وبعد بضعة أشهر وصل البلاشفة إلى السلطة ونشروا هذه الاتفاقيات. كان وقع ذلك سيئا على القادة الإنجليز الذي كانوا يكثرون من الوعود في المنطقة بهدف كسب الدعم بمواجهة القوات العثمانية.

فكان أحد مبعوثيهم في المنطقة، والذي بقي مشهورا باسم لورنس العرب، قد تمكن من إقناع آخر سليل لعائلة الهاشميين الإقطاعية العريقة والمسيطرة على مدينة مكة، بتأسيس جيش عربي للقتال جنبا إلى جنب مع البريطانيين. وكمكافأة له، وعدوه بالعرش على رأس مملكة عربية كبرى تضم فلسطين.

ولكن بعد الوعد بفلسطين أول مرة، لم يتردد البريطانيون بالوعد بها مرة ثانية، ولكن هذه المرة إلى اليهود. لا، لم يكن ذلك للـ 60.000 يهودي الذين كانوا يعيشون في أرض فلسطين، حيث كانوا يمثلون أقل من 8 % من السكان، والذين لم يطمحوا في أغلبيتهم غير بالاستمرار بالتعايش السلمي مع الطوائف الأخرى كما كان الحال منذ قرون. بل كان الوعد إلى حركة قومية تأسست بين الجالية اليهودية في أوروبا، وهي الحركة الصهيونية.

الحركة الصهيونية

في البلدان الأوروبية الأكثر تطورا، لم تكن غالبية اليهود المتواجدين منذ عدة أجيال تسعى لخلق "خصوصية يهودية" ما. فإنهم كانوا قد اندمجوا في المجتمع رغم بقاء معاداة السامية منتشرة في الأوساط الأكثر رجعية. كما أن معاداة السامية عاودت بالانتشار مع وصول موجات الهجرة اليهودية اللاحقة من أوروبا الوسطى.

وكان مؤسس الحركة الصهيونية نفسه، الصحفي النمساوي ثيودور هيرتزل، لا يشعر باهتمام بالغ لأصوله اليهودية إلى حين تغطيته قضية دريفوس، في عام 1894. إن ظاهرة معاداة السامية في فرنسا دفعت به إلى الاستنتاج بأنه يجب أن يكون لليهود دولتهم الخاصة، أي دولة يهودية.

ولاقت الصهيونية صداها الأكبر في القسم الشرقي من أوروبا. ففي هذا الجزء المتخلف اقتصاديا من أوروبا، كان التنظيم الاجتماعي التقليدي الموروث من العصور الوسطى قد حصر اليهود في التجارة والحرف اليدوية. ومع تنامي الرأسمالية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نمت البرجوازية الوطنية ودخلت بتنافس مع اليهود، الأمر الذي أعطى زخما لمعاداة السامية. وكان هذا الحال بشكل خاص في روسيا حيث لاقت معاداة السامية، ابتداءا من أعوام 1880، تشجيعا من قبل الحكومة القيصرية التي كانت ترى في ذلك وسيلة لتنفيس السخط الشعبي. ومن روسيا ظهرت كلمة "بوغروم" (pogrom) والتي دخلت اليوم في المفردات المستعملة، وهي تعني المذابح التي كانت تتم بحق اليهود بموافقة السلطات الروسية، إن لم تكن تقوم بتدبيرها.

ولكن، حتى في هذا القسم من أوروبا، بقيت الصهيونية في غاية الأقلية. فالمليونا يهودي الذين غادروا أوروبا الوسطى في أوائل القرن العشرين، هربا من الفقر والمذابح المنظمة، فإنهم، على غرار العديد من البولنديين والروس والإيطاليين في ذلك الوقت، قد بحثوا عن "أرض الميعاد" في أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة.

أما أولئك الذين أدى التمييز والاضطهاد لاندفاعهم وانفتاحهم على السياسة، سواء كانوا من المثقفين أو من الطبقة العاملة – إذ كان يوجد طبقة عاملة يهودية كبيرة في الجزء البولندي من الإمبراطورية الروسية – فقد انضم عدد كبير جدا منهم إلى الحركة الاشتراكية خلال تلك الفترة.

علاوة على كون الصهيونية تيارا أقليا جدا في بدايتها ومقسمة بين تيارات لا تشارك كلها رؤية هرتزل السياسية، فإنها كانت تواجه صعوبة محددة مقارنة مع الحركات القومية الأخرى: كان اليهود مشتتين في مختلف البلدان، فعلى أي أرض من الممكن بناء هذه الدولة اليهودية التي يطالب بها الصهاينة ؟

لم تكن فلسطين الخيار الأول لتشييد الدولة اليهودية المستقبلية. ففي مناقشاته مع دبلوماسيين بريطانيين، قام هرتزل طوال مدة بطرح امكانية انشاء هذه الدولة في أوغندا. وطرح آخرون اقامتها في الأرجنتين. إلى أن اختار معظم الصهاينة في نهاية المطاف فلسطين كونها هذا "الوطن الضائع" لليهود الذي كان الكتاب المقدس يتكلم عنه...

ولكن، بغية المكوث في هذه المنطقة، لم يقترح هرتزل بناء علاقات مع الناس الذين كانوا يعيشون فيها حينها، وكسب موافقتهم وثقتهم. بل أخذ الخيار المعاكس بالحصول على دعم وحماية إحدى القوى الأوروبية العظمى التي كان بإمكانها فرض هجرة يهودية إلى هذه البقعة. فبالنسبة لهرتزل، كان الأمر فعلا عبارة عن غزو استيطاني (وحتى استعماري). وقد صرح: "سوف ننشئ هناك (في فلسطين) موقعا متقدما لأوروبا بوجه آسيا، وسوف نكون رأس حربة الحضارة ضد الهمجية".

وكان شعار الصهاينة: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". إلا أن فلسطين لم تكن أرضا بلا شعب... والصهاينة كانوا يعرفون ذلك جيدا. ولكنهم لم يأبهوا بذلك، إذ كان يكفي تنظيم "نقل" – بحسب تعبير هرتزل – هذه الشعوب التي كانت مخطئة بتواجدها على أرض "الوطن الضائع" لليهود ...

وكانت جميع عناصر الوضع الحالي متواجدة منذ البداية في أفكار هرتزل: من فكرة طرد الفلسطينيين إلى فكرة أن تصبح الدولة اليهودية ذراعا للإمبريالية. كل هذا كان نابعا عن خيار واع جدا منذ البداية.

ولكن إلى حين نشوب الحرب العالمية الأولى، لم يستجب القادة الغربيون فعلا لآمال الصهاينة.

وعد بلفور

جاء خيار القادة البريطانيون باستخدام الصهاينة في عام 1917: بعث وزير الخارجية اللورد بلفور رسالة إلى لورد آخر من عائلة روتشيلد، للتعبير، باسم الحكومة البريطانية، عن "إعلان التعاطف تجاه التطلعات الصهيونية اليهود". وحدد في ذلك البيان بأن "حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين". بالطبع أن اللورد بلفور لم يكن يعبر هنا عن تعاطفه الشخصي مع اليهود: ففي عام 1905، كان هو المحبذ لسن قانون يحظر دخول اليهود الروس المضطهدين من قبل القيصرية إلى بريطانيا !

لقد كان ذلك من قبيل الحسابات الوقحة لقادة الإمبريالية البريطانية: كان ذلك من أول مظاهر سياسة تحريض اليهود ضد العرب، عن طريق الاتكاء على فصيل حينا ثم على الفصيل الأخر حينا آخر، وذلك بهدف لعب دور الحكم وتبرير استمرار وجودهم في فلسطين.

الانتداب البريطاني لفلسطين

في نهاية الحرب، تمكن البريطانيون فعلا من السيطرة على فلسطين، وتناسوا وعدهم للعشائر الإقطاعية العربية بإقامة دولة عربية كبيرة. وبهدف إرضائهم منح أحد ممثلي عائلة الهاشميين، وهو فيصل، عرش مملكة العراق، وتم منح آخر، عبد الله، عرش مملكة شرق الأردن، وهما مملكتان قد تم إنشاؤهما حديثا. بالنسبة للإمبرياليين، هذا الأمر كان ضمن سياسة بلقنة الشرق الأوسط من أجل فرض سياسة "فرق تسد": إن قادة هذه الممالك سيكونون أكثر انشغالا بالدفاع عن امتيازاتهم، وأحيانا بالتصارع فيما بينهم، بدلا من تنظيم النضال المشترك ضد الوجود الإمبريالي في المنطقة.

أما بالنسبة لفلسطين، فقد سعى البريطانيون لإدامة سيطرتهم المباشرة عليها: فاحتلوها عسكريا منذ نهاية الحرب، وفي عام 1922، وضعت عصبة الأمم فلسطين تحت الانتداب البريطاني مما أعطى شرعية لوجودهم. وشكل صك الانتداب امتدادا لسياسة البريطانيين تجاه الحركة الصهيونية التي بدأت بوعد بلفور، إذ أعطى البريطانيين مسؤولية "وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي" وذلك من خلال تسهيل الهجرة اليهودية وعملية شراء الأراضي من قبل المستوطنات التي ينظمها الصهاينة.

لكن الهجرة اليهودية لفلسطين، وبالرغم من تسهيلها، بقيت محدودة نسبيا في السنوات 1920. وفي عام 1927، كان اليهود المغادرون لفلسطين أكثر من الوافدين إليها.

وإنه ابتداءا من أعوام 1930، مع وصول هتلر إلى السلطة في ألمانيا ونشوء أنظمة يمينية متطرفة ومعادية للسامية في بلدان أوروبية أخرى، بدأت نسبة السكان اليهود في فلسطين بالازدياد بشكل مهم، من 175.000 في عام 1931 إلى 460.000 في عام 1939.

وخلال هذه الفترة من الانتداب البريطاني، نظم اليشوب - المجتمع اليهودي في فلسطين - نفسه وكون مؤسساته وأنشأ مجلسا تمثيليا، واضعا الأسس لقيام دولة حقيقية. وسعت المنظمات الصهيونية لبناء مجتمع يهودي منقطع عن المجتمع العربي، مع اقتصاد يهودي لا يوظف عمالا غير اليهود.

وكان الصهاينة يشترون الأراضي من كبار الملاك، ويقومون بطرد الفلاحين الساكنين فيها إلى ذلك الحين، بهدف إقامة المستوطنات اليهودية. وهكذا، ففي عام 1920، أدى شراء أراضي مالك كبير واحد إلى ترحيل العرب الفلسطينيين من عشرين قرية... وزعماء العائلات الكبيرة، الذين كانوا يلعبون دورا قياديا في المجتمع والحياة السياسة الفلسطينية، كانوا يكثرون من الإدانات اللاذعة للصهيونية علنا لكنهم لم يمتنعوا في نفس الوقت عن بيع أراضيهم للمنظمات الصهيونية محققين بذلك أرباحا كبيرة !

وتنامت الحركة الوطنية الفلسطينية بعد الحرب العالمية الاولى، احتجاجا على الاحتلال البريطاني ومطالبة باستقلال فلسطين. وقد نددت أيضا بالمنظمات الصهيونية وبسياستها الاستيطانية، وطالبت بوقف الهجرة اليهودية.

بدأ التوتر يتفاقم بين اليهود والعرب، بعد تعايشهم معا بسلام حتى ذلك الحين، وأدى ذلك في عام 1929 إلى أولى الهجمات المعادية لليهود. فكانت بداية الهوة الدموية بين اليهود والعرب والتي ما انفك عمقها يتزايد لاحقا.

مع ذلك، كان بإمكان آلاف اليهود القادمين من أوروبا لعب دور مختلف كليا. حيث كان بإمكانهم السعي لربط مصيرهم بمصير السكان العرب. بالطبع، كان من الضروري التغلب على الحذر الموجود لدى السكان العرب. ولكن تحقيق ذلك كان ممكنا خاصة وأن السكان العرب كانوا بصدد محاولة تحدي سيطرة الانظمة الامبريالية على المنطقة. والتاريخ غني بأمثلة لشعوب تمكنت، في توحيد نضالها ضد عدوها المشترك، من بناء علاقات قوية وخلق تضامن عميق فيما بينها.

الانتفاضة العربية الكبرى (1936-1939)

في عام 1936 اندلع ما سمي بالانتفاضة العربية الكبرى. فلمدة ثلاث سنوات، واجه العمال والفئات المتواضعة في المدن وخاصة السواد الأعظم من الفلاحين القوات البريطانية بالسلاح.

بدأت الحركة بإضراب شمل المدن الرئيسية في فلسطين واستمر لستة أشهر. وفي السنة التالية، خاضت ميليشيات حقيقة من الفلاحين معارك ضد البريطانيين، وسيطرت على مناطق بأكملها. وسيطر المنتفضون حتى على البلدة القديمة للقدس لبعض الوقت. فاضطر البريطانيون لاستدعاء 30.000 جندي وأقاموا الأحكام العرفية وأرهبوا العديد من القرى. كما لجؤوا إلى تفجير أكثر من 20.000 منزل بالديناميت واستخدموا الطائرات لقصف القرى. وأنشؤوا أربعة عشر معسكر اعتقلوا فيها حوالي 50.000 فلسطيني تم ترحيل الكثير منهم إلى المستعمرات البريطانية البعيدة، وخصوصا جزر السيشيل. اجماليا، لقي 10% من السكان مصيرهم بين النفي والسقوط جريحا أو قتيلا. هكذا تمكن البريطانيون من التغلب على الانتفاضة.

بالنسبة للجماهير الفقيرة ولملايين الفلاحين غير الملاكين، كان الشعور بالاضطهاد القومي مرتبطا ارتباطا وثيقا بالشعور بالاضطهاد الاجتماعي: فكبار ملاك الأراضي والإمبرياليين الأجانب، بسبب العلاقات التي تربطهم ببعض، كانوا وجهين لنفس الاضطهاد. وكان الفلاحون الثائرون، عندما يسيطرون على منطقة، يفرضون أحيانا تعليق دفع إيجار الأراضي والديون.

إلا أنه وإن شكلت الجماهير الشعبية وخاصة الفلاحون قوام الحراك، كانت قيادة الانتفاضة تعود للهيئة العربية العليا التي كانت تمثل العائلات الفلسطينية المرموقة القديمة. وكان على رأس هذه الهيئة صاحب أعلى رتبة في بين المسلمين، وهو مفتي القدس، والذي كان من عائلة الحسيني التي كانت من أغنى عوائل ملاك الأراضي في فلسطين.

وقامت الهيئة العربية العليا هذه بكل ما في وسعها بهدف جعل الانتفاضة معتدلة. وسعى هؤلاء الإقطاعيون لتأطيرها في مسلك لا يشكل خطرا اجتماعيا عليهم، بتوجيهها ضد اليهود، فدعوا لمقاطعة المجتمع اليهودية.

لم يكن هناك أية حتمية لنشوب الصراع بين العرب واليهود. فالمنظمات اليهودية كانت تملك الامكانيات البشرية والنشطاء الضروريين لكسب آذان وقلوب الجماهير الفلسطينية المستغلة، ذلك لو قامت بالقتال إلى جانب هذه الجماهير بهدف طرد المحتل البريطاني.

خصوصا وأن بين ألاف هؤلاء اليهود، كان هناك العديد من المرتبطين بالأفكار الاشتراكية بشكل أو بآخر. وعلى عكس الإقطاعيين العرب، كان بإمكانهم ربط المعركة ضد الاضطهاد البريطاني بالمعركة على الصعيد الاجتماعي، خصوصا بمعركة الفلاحين ضد الاستقطاعات الإقطاعية والديون. كان العديد من الذين وصلوا في السنوات 1920 والـ 1930 نشطاء في الأحزاب العمالية والنقابات العمالية في بولندا وفي روسيا، كما كان أحد القادة الصهاينة، ومنظم الهاغانا - جيش الدفاع اليهودي – ضابطا سابقا في الجيش الأحمر. وكانت الكيبوتس، هذه المستعمرات التي أسسها الرواد اليهود في تلك السنوات، منظمة وفقا لأفكار مثالية كالمساواة و"الشيوعية": إذ لم يكن هناك ملكية خاصة، وكل شيء كان مشترك وكان هذا مطابق في كثير من الأحيان لمثل أولئك المهاجرين الذين كانوا يريدون خلق مجتمع جديد، اشتراكي.

لكن القادة الصهاينة اختاروا عدم التوجه للجماهير العربية، فعلى الرغم من ادعاء أن العديد منهم كان يدعي الاشتراكية، فقد كانوا قوميين أولا. وقد اختاروا إقامة هذه الكيبوتسات على الأراضي التي تم شراؤها من كبار ملاك الأراضي وبعد طرد الفلاحين الفلسطينيين. في المجتمع الجديد الذي كانوا يبنوه، لم يكن للعرب أي مكان. في هذه الظروف، كان هذا المجتمع يبنى ضد السكان العرب.

وعلاوة على اختيار القادة الصهاينة عدم التحالف مع الجماهير العربية المستغله، فإنهم ساعدوا البريطانيين على قمع الانتفاضة العربية من خلال توفير قوات مساعدة للجيش البريطاني. وقام وايزمان، أحد الزعماء الصهاينة، بتقديم عنف البريطانيين ضد الانتفاضة العربية كـ"معركة الحضارة ضد الصحراء."

ولادة دولة إسرائيل

ومع ذلك، وبعد قمع الانتفاضة العربية، لم تبد الإمبريالية البريطانية أي امتنان للصهاينة. فمع اقتراب نشوب الحرب العالمية الثانية، وبهدف تقليص تأثير الإمبريالية الألمانية التي بدأت بالتقرب من الحركات القومية العربية، قامت السلطات البريطانية في عام 1939 بإصدار الكتاب الابيض الذي أكدوا فيه رغبتهم في تقليص الهجرة اليهودية بشكل كبير.

وبمزيج من البغض والسفاهة، اتخذ البريطانيون هذه التدابير في حين كانت الأنظمة الفاشية والمعادية للسامية، كنظام حكم هتلر في ألمانيا، قد بدأت بدفع عدد متزايد من اليهود للفرار من أوروبا هربا من الاضطهاد. وحتى عندما بدأ النازيون بتنظيم ترحيل وإبادة الملايين من اليهود، رفضت الحكومة البريطانية التساهل في سياستها.

ولم يكن هذا الموقف مقتصرا على الحكام البريطانيين. ففي الوقت نفسه، اعتمدت جميع البلدان الغربية إجراءات ضد الهجرة وأغلقت أبوابها بوجه اليهود.

لقد فهم القادة الصهاينة وبسرعة كيفية الاستفادة من النازية لخدمة أهدافهم. ووفقا للمؤرخ الإسرائيلي بني موريس (Benny Morris)، فإن الزعيم الصهيوني بن غوريون قد صرح بعد "ليلة الكريستال"، ذلك البوغروم الكبير الذي نظمته السلطة الهتلرية في ألمانيا في عام 1938: "لو خيرت بين إمكانية إنقاذ جميع الأطفال اليهود في ألمانيا بنقلهم إلى إنكلترا، أو إنقاذ نصفهم بنقلهم إلى إسرائيل، لاخترت الحل الثاني - لأننا يجب ألا ننظر فقط إلى مصير هؤلاء الأطفال، ولكن أيضا لتاريخ الشعب اليهودي."

وإذا كان رئيس الوزراء البريطاني حينها، ونستون تشرشل، قد أعلن في بداية الحرب العالمية عن تأييده لنشوء "دولة يهودية كبيرة"، سارع خلفه، في عام 1945، بتناسي هذا الوعد. فالبريطانيون، وبرغبتهم تكرار السيناريو الذي أعقب الحرب العالمية الأولى، سعوا للبقاء في فلسطين، ليصل عدد قواتهم المتمركزة فيها إلى 100.000 عنصر.

أغلق خيار البريطانيين الباب أمام إنشاء دولة يهودية. ولهذا السبب، قررت المنظمات الصهيونية، وللمرة الأولى، مواجهة الإمبريالية البريطانية بعد أن كانت سياستها دوما الاحتماء بها. ولكنها قامت بهذه المواجهة لحسابها الخاص، ليس فقط من دون الجماهير العربية، ولكن ضدها، كما دائما.

وسعى الصهاينة للحصول على دعم الإمبريالية الأمريكية التي، في تأييدها قيام دولة يهودية في فلسطين، وجدت المجال للحد من النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط.

لكن التغيير الحقيقي في ميزان القوى مع البريطانيين جاء مع تحرير معسكرات الإبادة من قبل الحلفاء. فمن بين الناجين من هذه العسكرات، لم يكن لليهود المرحلين من ألمانيا وبلدان أوروبا الشرقية المعادية جدا للسامية، كبولندا، أية رغبة بالعودة لهذه البلدان.

ولكن أين كان يمكنهم الذهاب؟ فالقوى العظمى كانت لا تزال رافضة لاستقبالهم كما قبل الحرب: فبين أعوام 1945 و1948، لم توافق الولايات المتحدة نفسها على دخول أراضيها إلا لـ 25.000 من يهود أوروبا، في حين كانوا ما يقارب الـ 100.000 مفرج عنهم من معسكرات الموت ينتظرون في مخيمات لأن يقوم بلد ما بقبولهم ليتمكنوا من إعادة بناء حياتهم.

كان من حق عشرات الآلاف اليهود هؤلاء الشعور بأن العالم أجمعه قد تخلى عنهم. فلقد أصبحوا بالمعنى الحقيقي للكلمة "دون وطن". هذا ما يفسر توجههم على بشكل واسع نحو المنظمات الصهيونية التي كانت تدعي تقديم وطن لهم.

يمكن بالطبع تفهم شعور آلاف اليهود الذين عاشوا للتو الجحيم، وفي هذه الظروف، كان طموحهم بالحصول على موطن خاص بهم مشروعا.

ولكن هذا التصميم الحاد لدى آلاف اليهود قد تم توجيهه ضد السكان العرب الذين لم يكونوا بأي حال مسئولين عما حدث في أوروبا خلال الحرب.

فشكلت المنظمات الصهيونية شبكات لإرسال اليهود الأوروبيين الى فلسطين، في حين نظم البريطانيون حملات لإيقاف هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين وقامت بتستيفهم في مخيمات في قبرص. وفي عام 1947، كان هناك 450.000 معتقلا يهوديا في قبرص.

كما شرع الصهاينة بالقيام بعمليات عسكرية ضد القوات البريطانية، وذلك عبر تنظيم الهاغانا الذي كان عبارة عن جيش حقيقي صغير. كما قامت بعض المنظمات الصهيونية الأخرى، مثل الأرغون – وهي منظمة يمينية متطرفة - بشن هجمات أوقعت قتلى في بعض الأحيان. حتى أن الأرغون تمكنت من تفجير الفندق الذي كان مقر القوات البريطانية في فلسطين. لكن الأرغون قامت، في الوقت نفسه، بتفجير قنابل في أسواق الأحياء العربية. فبغية إنشاء هذه الدولة اليهودية، إن كان عليهم التغلب على مقاومة البريطانيين، كان من الضروري أيضا ترويع الجماهير الفلسطينية المعادية لهم. كانت أساليب الأرغون، التي كان أحد قادتها مناحيم بيجين والذي أصبح رئيسا للوزراء في أواخر أعوام الـ 1970، لا تختلف بشيء عن أساليب المنظمات الإرهابية الفلسطينية اليوم...

تحت الضغوط الأمريكية، وأمام عجزهم عن وقف الاضطرابات المنظمة من قبل الصهاينة، وافق البريطانيون أخيرا على الانسحاب من فلسطين وعهدوا إلى الأمم المتحدة مهمة اقتراح حل. وفي 29 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947، اعتمدت الأمم المتحدة خطة تقسيم فلسطين إلى دولتين، دولة يهودية ودولة فلسطينية. وكانت الحدود المقترحة من قبل دبلوماسيي الأمم المتحدة تميل بوضوح لصالح دولة إسرائيل القادمة: فاليهود، الذين كانوا يشكلون ثلث السكان فقط، قد منحوا السيطرة على 55 % من مساحة فلسطين.

ورفض القادة العرب هذا التقسيم وكذلك إنشاء دولة يهودية. أما القادة الصهاينة، فقد أعلنوا عن انفتاحهم للتفاوض على أساس خطة الأمم المتحدة، ولكنهم في الواقع لم يكونوا ناويين على القبول بقيام دولة فلسطينية.

أول حرب عربية إسرائيلية

عشية رحيل القوات البريطانية في 14 ايار/ مايو 1948، أعلن بن غوريون ولادة دولة إسرائيل، دون انتظار الفترة الانتقالية التي أوصت بها الأمم المتحدة. وغداة هذا الإعلان، قامت جيوش عدة دول عربية باجتياح فلسطين.

واستمرت الحرب حتى تموز/ يوليو 1949، مع فترات هدن وهدوء. خرجت دولة إسرائيل منتصرة وتمكنت من توسيع حدودها إلى أبعد مما اقترحته خطة تقسيم الأمم المتحدة: فالدولة اليهودية الجديدة باتت قائمة على 78 % من مساحة فلسطين.

ويوجد بخصوص هذه الحرب أساطير صاغتها الحركة الصهيونية التي قدمتها كصراع داوود ضد جالوت.

من الصحيح أن الآلاف من اليهود المحاربين كانوا يشعرون بأنهم يدافعون عن وجودهم، الأمر الذي منحهم عزيمة أعلى بكثير من عزيمة جنود الجيوش العربية التي كان يقودها غالبا ضباط غير أكفاء، مليئين بالفساد، وذلك على صورة الأنظمة العربية نفسها.

ولكن بالإضافة إلى ذلك، كان التوازن العسكري لصالح الإسرائيليين. فلم يكن مجموع القوى العربية على مسرح العمليات يتجاوز في أيار/ مايو 1948 الـ 25.000 جنديا، في حين كان تعداد الجيش الإسرائيلي الحديث، التساحال، يبلغ الـ 35.000 ليرتفع إلى الـ 100.000 عنصر في كانون الاول / ديسمبر.

وأخيرا، فالدول العربية، وبعيدا عن تصريحاتها، كانت غير قادرة على تنسيق عملها وحتى أنها برهنت عن قلقها وانشغالا للدفاع عن مصالحها الخاصة أكثر منها هزيمة إسرائيل فعلا.

وهكذا، عقدت إمارة شرق الأردن وإسرائيل اتفاقا سريا على تقسيم فلسطين. فخلال الحرب، أوقفت القوات الأردنية، التي كانت تمثل القوة العسكرية الرئيسية ضد إسرائيل، تقدمها طوعا على حدود الضفة الغربية. وفي عام 1950، ضم ملك شرق الاردن عبد الله الضفة الغربية إلى مملكته. ومن جانبها، سيطرت مصر على قطاع غزة، لكن دون أن تضمه.

طرد الفلسطينيين

أما بالنسبة للشعب الفلسطيني، الذين كان لا يزال يعاني من فشل وقمع انتفاضة 1936، فلم يكن قادرا على المقاومة. ففر 700.000 إلى 800.000 منهم أمام تقدم الجيش الإسرائيلي وأصبحوا لاجئين مكدسين في مخيمات في الضفة الغربية وغزة وفي مختلف الدول المحيطة. واستقبلت دول الأردن ولبنان وسوريا، في عام 1950، ما يقارب الـ 300.000 فلسطيني موزعين على 35 مخيم.

وزعم القادة الإسرائيليون دائما أن الفلسطينيين قد غادروا طواعية، مستجيبين لدعوات القادة العرب.

إن المجزرة التي قام بها الأرغون بحق 250 من رجال ونساء وأطفال قرية دير ياسين معروفة. ولكن، ولاسيما منذ أن تم فتح أرشيف الوثائق الإسرائيلية، أصبح من المعروف رسميا أن هذه المجزرة لم تكن أبدا حدثا معزولا. فالمذابح والفظائع التي ارتكبها الجيش الاسرائيلي والمليشيات المسلحة كانت عديدة ونتيجة لسياسة واعية ومخططة للـ"تطهير العرقي"، وإن لم يكن هذا المصطلح مألوفا بعد حينها. إذ كان ذلك ضمن خطة لـ "تهويد" الأراضي المحتلة. فتم مسح نحو 370 قرية فلسطينية من الخارطة، بعد طرد سكانها وتفجير البيوت بالديناميت، وقد أرتكبت في بعض الأحيان مجازر بحق الرجال بهدف ترويع الآخرين. وفي نهاية الحرب، تلقت كل هذه القرى أسماء إسرائيلية لمحو آثار ساكنيها السابقين.

كان هدف القادة الإسرائيليين بث الرعب لتحقيق "عملية النقل" للسكان التي كان الصهاينة يذكرونها منذ نشوء حركتهم، فمن شأن "عملية النقل" هذه السماح بإقامة دولة "نقية عرقيا" إلى حد ما.

واستمرت هذه السياسة بعد الحرب: فبين عامي 1949 و1952، تم تفريغ أربعين قرية فلسطينية، وتم نقل شامل لسكانها الى قرى أخرى او إلى الجانب الآخر من الحدود أو تم تشتيتهم في جميع أنحاء البلاد. وأصدرت الحكومة الإسرائيلية في عام 1950 قانونا تحت عنوان "قانون الغائبين" الذي يسمح بمصادرة أراضي الفلسطينيين الهاربين.

في السنوات الأولى، كانت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين عبارة عن تراصف لا نهاية له من الخيام الكبيرة. فكان الفلسطينيون آملين باستعادة أراضهم في مستقبل قريب. لكنه عندما أصبح واضحا أن أملهم لن يتحقق، حلت المباني الصلبة تدريجيا محل الخيام وأعطيت هذه المخيمات طابع أحياء الصفيح الفقيرة الكبيرة.

وأنشأت الأمم المتحدة في عام 1949 وكالة خاصة، الأونروا (UNRWA)، للاهتمام بتأمين الرعاية الصحية والتعليم للفلسطينيين. وقد قامت بتوظيف فلسطينيين، مما وفر للآلاف منهم مصدرا للدخل، غالبا ما كان مصدر الدخل الوحيد.

وبفضل الأونروا، حصل جيل الفلسطينيين الناشئ في المخيمات على امتياز تعلم القراءة والكتابة، وذلك في مدارس مختلطة مكنتهم من اتمام دراستهم، في حين أن ذلك لم يكن متوفرا لغالبية فقراء البلدان التي استقبلت هذه المخيمات. فأصبح الفلسطينيون الشعب الاكثر تعلما والأكثر حصولا على الشهادات في العالم العربي.

وإذا تمكنت أقلية من الفلسطينيين من الحصول على عمل في الدول العربية، خاصة في بلدان الخليج، وتمكن بعضهم من الوصول لمناصب رفيعة في جهاز الدولة في البلاد التي تتواجد فيها مخيماتهم، كما في سوريا وخصوصا في الأردن، فإن الغالبية ظلت تعاني من المكوث في هذه المخيمات من دون أي أمل لتحسين أوضاعهم. لقد كانوا منبوذين بين المنبوذين وقد منحوا الوسائل للحصول على وعي حاد لحالهم. لقد كانت جميع المكونات مجتمعة لظهور جيل كامل من الثائرين.

وهكذا فإن ولادة إسرائيل، التي كان هدفها، وفقا للصهاينة، إنهاء الشتات اليهودي، كانت نتيجتها الرئيسية خلق شتات فلسطيني.

دولة قائمة على التمييز والتفرقة وتحت نفوذ الحاخامات

بقي أكثر من 150.000 فلسطينيي في إسرائيل. ولعدة سنوات، حتى عام 1966، بقوا خاضعين لنظام عسكري كان مستمدا من إجراءات الطوارئ التي اتخذها البريطانيون في عام 1945 لمحاربة الحركة السرية اليهودية ... وكان هذا الإجراء الخاص يمنح الحكام العسكريين صلاحيات موسعة على السكان. وهكذا استمرت سياسة مصادرة الأراضي قدما باسم "الأمن" و"المصلحة العامة".

وحتى بعد إلغاء هذا النظام العسكري، لم يعط الفلسطينيون نفس الحقوق مقارنة باليهود. غالبا ما تقدم إسرائيل على أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط ... ولكن الدولة "الديمقراطية" هذه لا تعطي نفس الحقوق لجميع مواطنيها وتطبق نظام الفصل العنصري بشكل رسمي جدا. إن إسرائيل في الواقع، ومنذ تأسيسها، قد أعلنت نفسها كـ"دولة يهودية"، وبالتالي، فهي تمارس علنا التمييز والتفرقة بين اليهود وغير اليهود، وخاصة الفلسطينيين.

وهكذا فإن "قانون العودة" يسمح لأي يهودي قادم من نيويورك أو من باريس بالحصول على الجنسية الإسرائيلية كما يسمح له، وعلى الفور، بالحصول على حقوق أكثر بكثير من أي فلسطيني ولد في إسرائيل.

ووحدهم اليهود والدروز يؤدون الخدمة العسكرية الأمر الذي يعطيهم بعض الامتيازات من قبل الدولة، مثل القروض المصرفية والقروض العقارية والخصم على الرسوم الدراسية الجامعية. وهناك قوانين تمنع العرب الفلسطينيين غير المعترفين بالطابع اليهودي لدولة إسرائيل من الترشح للانتخابات.

مع هكذا تشريع، نشبت مشكلة تعريف من هو اليهودي. فتوجب الانتظار حتى عام 1970 كي تجرؤ المحكمة العليا الإسرائيلية لاقتراح تعريف: يعتبر يهوديا كل من ولد من أم يهودية أو من اعتنق اليهودية دون الانتماء إلى أي دين آخر. فسأل البعض: "كيف نعرف الأم يهودية ؟".

وإذا لم تسن دولة إسرائيل دستورا لنفسها، فذلك كان بهدف تجنب إثارة غضب من يريد جعل التوراة أساس الدولة الجديدة ... وإنه حزب العمل، الذي اسسه بن غوريون، الذي أقر الدروس الدينية الإلزامية في المدارس، فلم يكن ذلك من فعل حزب ديني ...

وفي مجالات عدة، تتكاثر الأمثلة عن حضور الدائم للدين ولقواعده. ومن هذا المنظور، فلدى إسرائيل الكثير من القواسم المشتركة مع  إيران والمملكة العربية السعودية وهي أنظمة رجعية بامتياز.

ففي الزواج والطلاق، يجب اتباع تعاليم التوراة. كما يخضع المسيحيون والمسلمون والدروز إلى السلطات الدينية الخاصة بكل منهم. يمكننا تصور المشاكل التي يواجهها من هو في علاقة "مختلطة". والمتزوجون الملحدون مجبورون على الطلاق وفقا "للخلع". كما أنه لا يمكن ليهودي يحمل لقب كوهين الزواج من امرأة مطلقة باعتبار أنه ينتمي إلى سلالة الكهنة اليهود المذكورة في الكتاب المقدس. شاء أم أبى، فهذا وراثي وإنه قانون الله...

كما أنه من الاجباري اتباع الطقوس الغذائية للديانة اليهودية في الفنادق والمطاعم والمطابخ العسكرية والمدارس والطائرات والسفن الإسرائيلية. كما أن المحلات التجارية ومرافق الترفيه ووسائل النقل العام تغلق لأبوابها من غروب الشمس يوم الجمعة حتى مساء السبت، وذلك التزاما باحتفال الشبات (shabat) ! الواقع أن الحاخامات يتمتعون بصلاحيات واسعة...

وبالتأكيد، لم يكن مشروع معظم المهاجرين الأوائل، العلمانيين وذوي الميول الاشتراكية، إقامة دولة دينية. ولكن هذا التطور كان مكتوبا بشكل ما في برنامج الصهيونية. فعندما خلقت الحركة الصهيونية دولتها، توجهت فورا، وبشكل طبيعي، نحو الحاخامات.

إسرائيل، شرطي الإمبريالية في الشرق الأوسط

كما أنه من المؤكد أن المهاجرين الأوائل لم يكونوا يهدفون لأن يصبحوا مرتزقة للإمبريالية، ذلك وإن كان، كما رأينا، مؤسس الصهيونية هرتزل قد أعرب عن هذا الدور بشكل واضح جدا. فالصهيونية قد جعلت من هذا الدور التكميلي للإمبريالية شبه شرط لوجود الدولة اليهودية في الشرق الأوسط.

الواقع أنه بعد الحرب العالمية الثانية، أعربت الجماهير العربية في الشرق الأوسط عن كراهيتها للإمبريالية وأيضا للأنظمة التي نشأت بمساعدتها، كما أدت هزيمة هذه الدول أمام إسرائيل إلى تزايد فقدان الثقة بها.

وابتداءا من عام 1948، اندلعت احتجاجات عنيفة في سوريا، تبعها، في العام التالي، انقلابان عسكريان. وفي عام 1951، أغتيل عبد الله ملك شرق الأردن على يد فلسطيني، وذلك بعد أن لاقى ضمه للضفة الغربية تنديدا وسط الجماهير. وفي مصر في عام 1952 والعراق في عام 1958، قام ضباط قوميون بالإطاحة بالأنظمة الملكية القديمة الموالية لبريطانيا والمكروهة كليا من قبل الجماهير. وسعى هؤلاء الضباط، عبد الناصر في مصر وقاسم في العراق في وقت لاحق، إلى الاعتماد على مشاعر معاداة الإمبريالية لدى الجماهير العربية.

وبقيامه بتأميم قناة السويس في عام 1956، والتي كانت حتى ذلك الحين تحت سيطرة البريطانيين، أصبح عبد الناصر في عيون الجماهير، ولسنوات عديدة، ممثلا للعالم العربي المكافح ضد القوى الغربية الكبرى.

وإنه في هذا السياق من عدم الاستقرار السياسي والاحتجاج الاجتماعي، لاقت إسرائيل أهميتها في نظر الإمبريالية وفازت برتبة الشرطي في خدمتها.

فبعد أن أمم عبد الناصر قناة السويس، غزا الجيش الإسرائيلي مصر، بالاتفاق مع الحكومتين الفرنسية والبريطانية، مما وفر لهما الذريعة لإرسال قواتهما لاحتلال قناة السويس بحجة "حمايتها" و"الفصل" بين القوات المتحاربة. ولكن الولايات المتحدة عارضت هذا التدخل، غير راغبة في رؤية القوى الاستعمارية السابقة تستعيد موطئ قدم لها في المنطقة. فاضطر الفرنسيون والبريطانيون، المجبرين للانصياع لأوامر الولايات المتحدة، إلى سحب قواتهم، واضطرت إسرائيل أيضا لسحب قواتها. فأصبح جليا، بالنسبة للإسرائيليين، أنه من الأفضل لها أن تتلقى الحماية من قبل الولايات المتحدة بدل من قوى المرتبة الثانية للإمبريالية (بريطانيا وفرنسا).

وبعد بضع سنوات، في عام 1967، حققت إسرائيل، في حرب "الأيام الستة" ـ عدد أيام الحرب - انتصارا هائلا على جميع الدول العربية وأضعفت نظام عبد ناصر بشكل دائم. وبقيت الأراضي المحتلة خلال الحرب، الضفة الغربية وقطاع غزة وصحراء سيناء وهضبة الجولان على الحدود السورية، تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية دون أن تضمها. أما مدينة القدس فتم ضمها لدولة إسرائيل.

ومقابل دور الشرطي الإقليمي، كان يمكن لإسرائيل، ومنذ تأسيسها، الاعتماد على الدعم الثابت للإمبريالية الأمريكية. دعم سياسي وعسكري ودعم مالي أيضا وبشكل مستديم، وإن دولة إسرائيل لم تكن تستطيع البقاء دون المساعدات الامريكية.

إن الصراع بين إسرائيل والدول العربية، وبين إسرائيل والشعوب العربية، قد أخذ في بعض الأحيان طابعا انفجاريا ومزعزعا لاستقرار المنطقة، ذلك خاصة وأن القادة الإسرائيليين كثيرا ما كانوا يعتقدون بأن باستطاعتهم فعل أي شيء يريدونه. ولكن هذه "الأضرار الجانبية" كانت - وما زالت - مقبولة من قبل القوى الكبرى، والولايات المتحدة في المقام الأول، ذلك لأن هذه المعارضة بين إسرائيل والعالم العربي تؤمن لهم حليفا موثوقا به في المنطقة يكون تحت تصرفهم، وقادرا على حشد جمهوره بالكامل.  

 

من عام 1967 إلى اليوم: النضال الفلسطيني يؤدي لإقامة سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية

الفلسطينيون يتحررون من وصاية الدول العربية

شكلت حرب عام 1967 ودخول القوات الإسرائيلية الى الضفة الغربية نقطة تحول لجيل من الفلسطينيين، إذ كانت بداية لحركة قومية تلقائية ومستقلة عن الدول العربية.

فكان على عشرات الآلاف من الفلسطينيين النزوح من جديد إلى مخيمات في الأردن وفي لبنان. وواجه مئات الآلاف الآخرون، أي من استمر بالعيش في الضفة الغربية، الاحتلال الإسرائيلي للمرة الأولى.

وشكلت هزيمة عام 1967 البرهان على إفلاس الدول العربية وأثبتت للفلسطينيين أنهم لن يجنوا شيئا منها، ولا حتى من عبد الناصر الذي كان قد ولد الكثير من الآمال في السنوات السابقة. فأدرك العديد أنهم لا يستطيعون الاعتماد إلا على نضالهم الخاص. فانخرط الآلاف من الشبان الفلسطينيين في النضال السياسي وأصبحوا مقاتلين، أطلق عليهم لقب الفدائيين.

وفي المخيمات الفلسطينية المتواجدة في الدول العربية المجاورة، شكل الفلسطينيون ميليشيات كتحد لسلطات هذه الدول الرافضين الخضوع لها. وقد أثار هذا الأمر إعجاب الجماهير الفقيرة في تلك البلدان، فشكل الفدائيون، بنضالهم وبشجاعتهم مثلا يقتدى به بنظر العمال والفقراء في المنطقة بأسرها. فأثار المقاتلون الفلسطينيون الآمال بين هذه الجماهير الفقيرة، وحتى إن كان ذلك عن غير قصد.

نعم، في تلك السنوات، كان بإمكان الفلسطينيين تشكيل طليعة نضال سائر البروليتاريا المتواجد في منطقة الشرق الأوسط، أي في الأحياء الفقيرة في القاهرة في مصر وفي العاصمة الأردنية عمان وفي بيروت في لبنان، وذلك لأن نضال المستغلين ضد المستغلين لا ينحصر ضمن حدود معينة.

ولكن، لجعل هذا النضال ممكنا، كان يتوجب وجود تنظيم يتبنى هذا البرنامج النضالي بشكل واع ويترجمه إلى أهداف سياسة سهلة المنال لملايين المستغلين.

وكان الفلسطينيون يتميعون بالعديد من المزايا المفيدة في هذا السبيل، كنطقهم بنفس لغة جماهير الشرق الأوسط وكونوهم يعيشون بينهم. فكان من السهل التفاهم مع ملايين الفقراء والتأثير بهم وإشراكهم في نضال موحد.

مأزق السياسة القومية لمنظمة التحرير الفلسطينية

ولكن منظمة التحرير الفلسطينية، التي فرضت نفسها كقيادة لنضال الشعب الفلسطيني، لم تكن راغبة بمثل هذه السياسة أبدا. فقد حصر قادتها معركتهم ضمن المجال الوطني الفلسطيني.

وقد ولدت منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964 من اندماج لعدة منظمات، وذلك بمبادرة من الدول العربية وخصوصا من مصر. ولكن بعد هزيمة هذه الدول، فرضت منظمة فتح نفسها على بقية المنظمات، معتمدة على تزايد راديكالية ناشطيها وعلى إرادتهم قطع جميع العلاقات مع الدول الفاقدة مصداقيتها. وفي عام 1969، أصبح قائدها ومؤسسها، ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير.

ولكن هدف عرفات الوحيد كان إنشاء دولة فلسطينية على جميع الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل، ما كان يعني بشكل واضح تدمير هذه الأخيرة.

وبوضعهم تدمير الدولة اليهودية كهدف رئيسي، سمح قادة منظمة التحرير الفلسطينية للصهاينة بطرح أنفسهم كمدافعين عن الشعب اليهودي في ناضله من أجل البقاء. وهكذا انطبق فخ القومية مرة أخرى، وبشكل مأساوي، على الشعبين اليهودي والفلسطيني.

كان هدف الحركة القومية برمتها، وعلى رأسها عرفات، قبول القوى الإمبريالية وباقي الدول في المنطقة بقيام دولة فلسطينية. بالتأكيد لم يتضمن برنامجهم تغيير النظام الاجتماعي في الدولة الفلسطينية المستقبلية، وأقل منها في البلدان الأخرى في المنطقة، حتى تلك التي كان لا يزال فيها أنظمة اجتماعية إقطاعية أو عشائرية. فكان من غير الوارد حتى التنديد بالنظام السياسي في البلدان الأخرى المجاورة، حتى حيث كان يسود حكم الديكتاتوريات وأنظمة ملكية كهلة. لم يكن لدى القيادة القومية ما تقدمه للجماهير المستغلة والمضطهدة في المنطقة. كانت تهدف فقط لأن يتم الاعتراف بها من قبل من يضطهد هذه الجماهير.

وللتعويض عن اعتداله في المجال الاجتماعي، سعى عرفات لإظهار الراديكالية في ميدان النضال المسلح. وكان يعتني بصورته الراديكالية بظهوره دائما مرتديا البزة العسكرية وواضعا الكوفية حول عنقه والمسدس في حزامه. وكان الكفاح المسلح أيضا ميزة لتبرير إنشاء جهاز عسكري خارج عن سيطرة الجماهير، مع الانضباط والمركزية اللازمة لإسكات كل الاصوات المنتقدة.

وكان هناك، ضمن منظمة التحرير الفلسطينية، فصائل أخرى بدا برنامجها أكثر راديكالية في المجال الاجتماعي من برنامج فتح: كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي أنشأتها جورج حبش عام 1967، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، المنشقة عن الجبهة الشعبية، بقيادة نايف حواتمة. كما ادعت هذه المنظمات اتباع النهج الماركسي، وأعلنت عن مناهضتها الإمبريالية، وأكدت على النضال من أجل الثورة العربية، ولكنها في الواقع بقيت على نفس أرضية عرفات القومية، ولم تقترح سياسة مختلفة جذريا عنه. ومثل عرفات، كان الكفاح المسلح والهجمات الإرهابية الوسيلة لتأكيد راديكاليتهم. لكن عرفات  لم يكن يخشى منافستهم على هذه الأرضية، إذ كان ففدائيو حركة فتح يبرهنون، في تلك السنوات، عن روح قتالية وشجاعة توازي مقاتلي هذه المنظمات.

وحتى من وجهة نظر مصالح النضال من أجل دولة فلسطينية، أضعفت هذه السياسة الجماهير الفلسطينية الراغبة بوضع حد للظلم الواقع عليها، ذلك لأن القادة العرب لم يكونوا حلفاء لها. في الواقع لقد برهنوا عن كونهم أعداء لهم بنفس قساوة القادة الإسرائيليين. والفلسطينيون امتحنوهم، للأسف، أكثر من مرة.

مجزرة أيلول الأسود (1970)

وكانت التجربة الأولى في الأردن حيث توافد آلاف الفلسطينيين بعد عام 1967. وقد شكل وجود الفدائيين بين الجماهير الأردنية، والشعبية التي كانوا يحظون بها، عاملا مزعزعا للاستقرار الاجتماعي إلى درجة أقلقت القادة الاردنيين. وفي أيلول / سبتمبر 1970، تم إرسال الجيش ضد المخيمات الفلسطينية ليتم قتل نحو 5000 فلسطيني في المعركة التي نشبت أو عبر تصفية من تم نزع سلاحه.

ولكن ذلك لم يمنع عرفات من المشاركة، بعد المجزرة، في اجتماع "المصالحة" الذي نظمه عبد الناصر، وصافح يد الملك حسين، عاهل الأردن، هذه اليد التي كانت لا تزال ملطخة بدماء الفلسطينيين. فهم عرفات كان بالحفاظ على علاقات جيدة مع رؤساء الدول العربية.

واضطر آلاف الفلسطينيين، بعد هذه المجزرة المعروفة باسم "أيلول / سبتمبر الأسود"، للهروب من الأردن وذهبوا إلى لبنان.

حرب لبنان (1975-1982)

كان الوجود الفلسطيني في لبنان كبير لدرجة أنه منذ عام 1969، قامت الدولة اللبنانية بإعطاء منظمة التحرير الفلسطينية حق فرض سلطتها ضمن المخيمات، وكان ذلك يطبق في الواقع خارج المخيمات أيضا. وأصبح مقر منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، بعد طردها من الأردن.

وكان لبنان يدعى حينها "سويسرا الشرق الأوسط". ولكن إذا كانت البرجوازية، ومعظمها من المسيحيين، تظهر ثروتها بشكل متغطرس، كان السواد الأعظم من العمال والفقراء يعيشون في ظروف تشبه وضع تلك المخيمات الفلسطينية. وقد أظهر هذا الجزء من الشعب اللبناني التعاطف وحتى التضامن الفعال مع الفلسطينيين. وفي المقابل، أعطى وجود الفدائيين الفلسطينيين الثقة لهؤلاء الفقراء وشجعهم على الكفاح.

وفي عام 1975، أدت التناقضات الاجتماعية إلى حرب أهلية حقيقية. فأدت مهاجمة الميليشيات المسيحية اليمينية المتطرفة لحافلة فلسطينية لاندلاع الاشتباكات. ولم يكن بوسع أية حكومة استعادة السيطرة على الوضع. وانشق الجيش اللبناني نفسه في نهاية الامر. في البداية، كانت هذه الحرب الأهلية عبارة عن مواجهة بين الفئة الأكثر رجعية من بين الطبقات المسيحية المترفة، والجماهير الأكثر فقرا، ذلك قبل أن تأخذ لاحقا طابعا طائفيا تحت تأثير قيادات القوى المختلفة المتواجدة على الساحة.

أوضح عرفات أن على الفلسطينيين عدم التدخل في الصراع، وعليهم الابتعاد عنه لأن ذلك لا علاقة له بالنضال من أجل إقامة دولة فلسطينية. ففي حزيران/ يونيو 1975، صرح قائلا: "إن كل ما يجري في لبنان هو غير مبرر. والثورة الفلسطينية تعرف من جانبها أن ساحة المعركة الحقيقة هي في فلسطين وأنه لا يمكنها جني أية فائدة من معركة هامشية من شأنها تحويلها عن مسارها الحقيقي."

حرم هذا الموقف الفلسطينيين من سياسة تخدم مصالحهم، في حين كانوا العامل المفجر لهذه الحرب الأهلية، وكانوا يشاركون في القتال. لهذا السبب تطلب عودة الاستقرار القيام بسحق الفلسطينيين.

وكانت سوريا من لعب سوريا دور الشرطي. ففي حزيران/ يونيو 1976، دخل الجيش السوري لبنان لدعم القوى المسيحية في وقت كانت بموضع ضعيف في الحرب. كانت القيادة السورية تسعى لتأمين مصالحها الخاصة، وفي نفس الوقت قامت بلعب دور ضامن الاستقرار في لبنان الأمر الذي شكل فرصة لنيل رضا الدول الإمبريالية التي كانت قد جعلت في السابق الدولة السورية تدفع ثمن سياستها القومية و ثمن تحالفها مع الاتحاد السوفيتي.

فكان الجيش السوري، وبمرافقة ميليشيات اليمين المسيحية المتطرفة – الكتائب – السبب بتراجع الفلسطينيين واليسار اللبناني في الحرب الدائرة.

وفي عام 1982، عبر أكثر من 100.000 جندي إسرائيلي الحدود اللبنانية وصولا إلى بيروت التي تم محاصرتها وقصفها. وكان الهدف المعلن هو الانتهاء من تواجد منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان.

تمكن عرفات من مغادرة بيروت وإيجاد ملجأ في تونس، في حين تم إجلاء 15.000 فدائيا بعد تجريدهم من السلاح إلى مناطق مختلفة في الشرق الأوسط.

وبعد تفريغ المخيمات الفلسطينية من المقاتلين، قامت ميليشيات اليمين المتطرف المسيحي، وبدعم من إسرائيل، بمجزرة راح ضحيتها أكثر من 1500 فلسطيني في مخيمي صبرا وشاتيلا الواقعين في ضواحي بيروت، معظمهم من النساء والأطفال. ارتكبت هذه المجزرة تحت أعين الجيش الإسرائيلي المتواطئ والمشجع عليها.

لقد شكلت الحركة الفلسطينية، بقوتها وقدرتها الثورية، تهديدا لجميع القادة العرب. ولكن وعي هؤلاء كان أكبر من وعي الجماهير الفلسطينية. وبتقديمه الدول العربية كحلفاء، جرد عرفات الفلسطينيين سياسيا وحرمهم من حلفائهم الحقيقيين، أي الجماهير الفقيرة المضطهدة من قبل هذه الانظمة. فوجد الشعب الفلسطيني نفسه معزولا، مجبرا في نهاية الأمر على مواجهة كل من إسرائيل والدول العربية.

عرفات، محاور معترف به من قبل الإمبريالية... ولكن ليس من قبل إسرائيل

بالنسبة لعرفات، كانت العمليات العسكرية، في المقام الأول، وسيلة للحصول على اعتراف دبلوماسي. وبالرغم من ضعفه بسبب الهزائم المتتالية - أو ربما على وجه التحديد بفضل ذلك ـ تم القبول بعرفات كمحاور بما في ذلك من قبل القادة الأمريكيين. وفي عام 1974، أستضيف للحديث على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد قبول منظمة التحرير الفلسطينية في الأمم المتحدة بصفة مراقب. وفي منفاه في تونس، وبفضل دعم عدد من الدول في مقدمها الممالك النفطية في الخليج، تمكن عرفات من تمويل جهاز دولة تضمن عدة آلاف من الموظفين.

بالنسبة لقادة الإمبريالية، كان الحفاظ على عرفات يعني الحفاظ على المستقبل: فإذا أصبح الوضع شديد التفجر لدرجة تفشل إسرائيل السيطرة عليه، يمكن لعرفات لعب دور مفيد جدا لضمان الاستقرار. فإنه رجل الإطفاء القادر على إخماد الحريق الذي يمكن للجماهير الغاضبة إشعاله.

ولكن في الوقت نفسه، واصل القادة الإسرائيليون إظهار التعنت من جانبهم ورفض التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية. بالنسبة لهم، لم يتغير شيء منذ تصريح رئيسة مجلس الوزراء الاسرائيلي غولدا مائير في عام 1969: "إن الشعب الفلسطيني غير موجود."

إنه نضال الجماهير الفلسطينية، وانتفاضتهم الأولى في الأراضي المحتلة، التي سميت بانتفاضة الحجارة، ما أجبر إسرائيل على الاعتراف لأول مرة بوجود الفلسطينيين في المجال السياسي والقبول بالحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية.

وقد بدأت هذه الانتفاضة في عام 1987 واستمرت حتى عام 1993 على الرغم من القمع الشديد جدا لها دون التمكن من القضاء عليها.

في سبيل فهم أصول هذه الانتفاضة، علينا التطرق إلى الظروف التي كان يواجهها الفلسطينيون في الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد عام 1967.

الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967

باحتلالها الضفة الغربية وقطاع غزة، وجدت إسرائيل نفسها، ولأول مرة، أمام مسؤولية إدارة أراض مأهولة حصريا من قبل الفلسطينيين، بعدد يبلغ أكثر من مليون شخصا. واختارت الحكومة الإسرائيلية عدم ضم هذه الاراضي ولكنها أنشأت فيها إدارة احتلالية، عسكرية بشكل أساسي.

بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي، مثلت هذه الأراضي متنفسا لصادراتها في حين كانت جميع البلدان المجاورة مغلقة لها. فاستطاعت المنتجات الزراعية الإسرائيلية غزو أسواق هذين القطاعين في حين تم منع فلاحي الضفة الغربية من البيع في السوق الإسرائيلية.

وسمح للفلسطينيين العمل في إسرائيل الأمر الذي وفر للشركات الإسرائيلية يد عاملة رخيصة. ولكنه كان لا بد من الحصول على تصريح خاص من الإدارة العسكرية للتمكن من بلوغ اسرائيل. وكانت المضايقات والإذلال أمرا شائعا من قبل الجنود الإسرائيليين الذين كانت تزداد عنصريتهم تجاه العرب.

ومنذ عام 1974، بدأت الحكومات الإسرائيلية بتشجيع إقامة المستوطنات عن طريق زيادة عمليات طرد المزارعين الفلسطينيين وتسكين مواطنين يهود على أراضيهم. فمكث المستوطنون في مجموعات سكانية محصنة بشكل حقيقي، ذلك في وسط السكان العرب الذين كانوا يعاملون بازدراء وبشكل استفزازي من قبل المستوطنين الواثقين من تلقيهم دعم الجيش الإسرائيلي إذا استلزم الامر.

وكان القمع ضد نشطاء منظمة التحرير الفلسطينية شديدا وقد ألقي القبض على الآلاف منهم، وأمضوا سنوات في السجن أو في المعتقلات. وعندما يلقى القبض على ناشط، كان يتم تدمير منزله بالديناميت كعاقب جماعي لكل عائلته التي تبقى دون مأوى...

لكن، بدل من تحطيم عزيمة الفلسطينيين، أدى القمع لولادة جيل جديد من الناشطين. فكل هذه المرارة والكراهية المتراكمة لم يكن ينقصها إلا شرارة كي تنفجر.

الانتفاضة الأولى (1987-1993)

اندلعت الانتفاضة الأولى في كانون الأول / ديسمبر عام 1987. ومنذ ذلك اليوم، تكرر بشكل يومي وخلال سنوات، نفس المشاهد: فلسطينيون، غالبا شباب صغار، يرمون الحجارة على الجنود الإسرائيليين الذين يردون بكل ما في حوزتهم من ترسانة، من الغاز المسيل للدموع إلى الرصاص الانشطاري.

وأعطى وزير الدفاع اسحق رابين، من حزب العمل، تعليمات للجنود الإسرائيليين بكسر عظام رماة الحجارة، بالمعنى الحقيقي. وهكذا رأينا على شاشات التلفزيون في جميع أنحاء العالم جنودا إسرائيليين ينهالون بالعصي على سيقان وأذرع شباب تحت العشرين من العمر... ولكن آلاف الشباب أظهروا خلال هذه السنوات تصميما تفوق في نهاية المطاف على القمع الإسرائيلي.

فقد أصبح واضحا لدى القادة الإسرائيليين أن الجيش قد بدأ يصاب بالاستنفاذ والاحباط أمام فشل المهام القمعية من إنهاء الانتفاضة الفلسطينية. إذ أعلن بعض الجنود عن عدم رغبتهم أداء خدمتهم في الأراضي المحتلة. هؤلاء الرافضين، الذين لقبوا بالـرفزنيك refuzniks، لم يمثلوا سوى أقلية ضئيلة، ولكن هذا التحرك قد أثر كثيرا في هذا البلد الذي اعتاد سكانه على إعطاء الثقة التامة للجيش، كما ساد التذمر بشكل عام بين الجمهور.

وفي عام 1992 فاز حزب العمل الذي قاده رابين في الانتخابات بعد أن تعهد خلال الحملة الانتخابية بفتح المفاوضات مع الفلسطينيين. فأخذت الاتصالات، التي جرت سرا في السنوات السابقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، طابعا أكثر رسمية وأدت في عام 1993 إلى التوقيع على اتفاقات أوسلو، تحت رعاية الرئيس الأمريكي كلينتون.

فترة اتفاقات اوسلو (1993-2000): حقيقة ما يسمى بـ"عملية السلام"

كانت اتفاقيات أوسلو تنص على إنشاء سلطة حكم ذاتي فلسطينية، بشكل تدريجي، تسيطر أولا على غزة وأريحا. وفي وقت لاحق، حددت اتفاقات وقعت في عام 1994، وقد سميت بـ "أوسلو 2"، توزيع ثلاث مناطق: المنطقة أ، والتي تمثل 3 % من مساحة الضفة الغربية، كان من المقرر أن تدار من قبل السلطة الفلسطينية، والمنطقة ب، والتي تغطي مساحة 27 % من الضفة الغربية، وكان من شأنها أن تدار بشكل مشترك مع الإسرائيليين، والباقي، أي 70 % من الأراضي - المنطقة ج - كانت ستبقى تحت الإدارة الإسرائيلية.

وهكذا بدأت فترة "اتفاقات أوسلو" التي امتدت حتى اندلاع الانتفاضة الثانية في عام 2000، والتي قام خلالها الزعماء الاسرائيليون والفلسطينيون بالتفاوض، أو على نحو أدق باللقاء عدة مرات في كامب ديفيد وطابا وغيرها من الامكنة. فسميت هذه المناورات الدبلوماسية الكبيرة بـ "عملية السلام". ولكن في الواقع، لم يكن هناك أية "عملية سلام" وذلك لعدم وجود مفاوضات حقيقية: فإسرائيل وإن تنازلت للفلسطينيين عن حكم ذاتي محدود فقادتها لم يفكروا حقا بالذهاب الى أبعد من ذلك، أي إلى بإنشاء دولة فلسطينية.

في الواقع، إن موافقة إسرائيل على منح الفلسطينيين جنين دولة لم يكن إلا لأنها كانت تنتظر من السلطة الفلسطينية لعب دور الشرطي والسيطرة على جمهورها، الأمر الذي لم يعد الإسرائيليون قادرون على القيام به.

وفي السنوات التي تلت التوقيع على اتفاقات أوسلو، وضع القادة الإسرائيليون السلطة الفلسطينية تحت ضغط مستمر وعنيف بشكل متزايد.

كما ساهم اتهام اليمين واليمين المتطرف لقادة حزب العمل الإسرائيلي بالضعف أمام الفلسطينيين من تقليل استعداد هؤلاء القادة لتقديم التنازلات تجاههم. وجاء الانتقاد الأقوى من حركات المستوطنين الذين نعتوا الموقعين باتفاقيات أوسلو بالخونة واتهموهم بالاستعداد لتسليم اليهود والمستوطنين إلى الدولة الفلسطينية المستقبلية. وفي هذا المناخ من هيجان اليمين القومي المتطرف، قام شاب من المستوطنين باغتيال رئيس الوزراء اسحاق رابين في عام 1995. وقامت الحكومات المتعاقبة بعد ذلك، أكانت من حزب العمل أو من اليمين الذي عاد الى السلطة عام 1996، بإتباع نفس السياسة من التعنت والصرامة تجاه الفلسطينيين.

وكانت الوسيلة الأساسية المستخدمة للضغط هي القيام بتطويق الضفة الغربية وقطاع غزة بهدف عزلهما بشكل كامل. فخلال سنوات الاحتلال، كان التنقل يجري دون كثير من المعوقات، لكن عندما حصلت غزة على الحكم الذاتي، قام الإسرائيليون بتحويل القطاع إلى معتقل حقيقي محاطا بسور محكم مع معبر واحد فقط على الجانب الإسرائيلي هو معبر بيت حانون ("إيرز" بالعبرية). وكان يحتاج عبور هذا المعبر عدة ساعات في الاوقات العادية، كما كان بإمكان الحكومة الإسرائيلية أن تقرر إغلاقه في أي وقت، وهي لم تردد عن القيام بهذا الإجراء. وبهذا وجد أكثر من مليون فلسطيني أنفسهم محبوسين في سجن في الهواء الطلق.

والوضع لم يكن أفضل في الضفة الغربية حيث يمكن للمرء أن يتكلم بشأنها عن إقليم مرقع "كجلد الفهد" أمام كثرة المناطق المتبعثرة التي لا تملك السلطة الفلسطينية صلاحيات عليها: فإلى المناطق الخاضعة لاتفاقيات أوسلو اضيفت كل المستوطنات التي تزايد عددها بشكل مطرد خلال سنوات ما يسمى بـ "عملية السلام": فإذا كان هناك 115.000 مستوطن في عام 1993، ارتفع هذا العدد إلى 200.000 بعد سبع سنوات. وعلينا أن نضيف أكثر من 100.000 مستوطن يعيشون في العديد من الأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية. هذا التوسع في المستوطنات اليهودية كان يتم حتما عبر سرقة الأراضي من الفلسطينيين بهدف إسكان المستوطنين وأيضا لبناء الطرق المخصصة حصرا للإسرائيليين والتي تربط المستوطنات بعضها ببعض، وكذلك بهدف تخصيص مناطق أمنية ممنوعة من الزراعة لتسهيل عمليات المراقبة.

ولا تزال تجزئة الأراضي هذه تسمح للجيش الإسرائيلي بالقيام بحظر تنقل للفلسطينيين داخل الضفة الغربية الأمر الذي ينجم عنه عواقب وخيمة على الحياة اليومية للسكان: إذ تبقى المدن مقطوعة عدة أيام عن بقية العالم، دون أية إمدادات، كالمياه بشكل خاص، ولا يتمكن المزارعون من الوصول إلى حقولهم والأطفال إلى مدارسهم. ناهيك عن المرضى، وبعضهم في حالة خطرة، الذين يمنعون من الوصول الى المستشفى.

وأخيرا، جعلت عمليات التطويق المتكرر العمل في إسرائيل شبه مستحيل، الأمر الذي هذا حرم الكثير من الفلسطينيين من مصدر مهم للدخل. وارتفعت نسبة البطالة لتصل إلى الـ 40 و50 % أو أكثر من ذلك في بعض الأماكن.

خلال سنوات "عملية السلام" هذه، تدهورت الأوضاع المعيشية للسواد الأعظم من الفلسطينيين، وازداد فقرهم. وعملية السلام لم توفر عليهم المعاناة من إذلال الاحتلال لأن تواجد الإسرائيليين وجيشهم لم ينقطع...

إنشاء السلطة الفلسطينية (1994)

وأصيب غالبية الفلسطينيين سريعا بالخيبة من قبل السلطة الفلسطينية الجديدة التي أنشئت في عام 1994. وكانت قساوة خيبة الأمل بقدر الآمال التي ولدتها.

فجهاز الدولة الذي أنشئ قد اتخذ، وبسرعة، شاكلة أجهزة الدول العربية الأخرى في الشرق الأوسط، من فساد في كل هياكله وقساوة وازدراء إزاء الشعب.

وكانت أولى أعمال السلطة الفلسطينية تأسيس الشرطة وقوات الأمن قوة نالت بسرعة سمعة سيئة جدا. حتى أنه يمكننا التحدث عن عدة أجهزة للشرطة أمام وجود سبعة مؤسسات "أمنية" غير الشرطة "العادية"، وهي كانت تتنافس في ما بينها، وكان يحق لكل منها جمع الـ"ضرائب" وإلحاق الغرامات بالسكان. إحدى هذه القوى، القوة 17، كانت الحرس الشخصي لعرفات. وأخرى كان يقودها أحد أفراد عائلة عرفات، موسى عرفات، والمعروف عن أساليبه العنيفة وحبه للمال. ومن أصل 135.000 موظف لدى السلطة الفلسطينية، كان نصفهم يعمل في الأجهزة الأمنية المختلفة.

وتعرض المعارضون، أي كل منتقدي سياسة عرفات، للقمع، وألقي القبض على الكثير منهم. والشهادات كانت تؤكد بالإجماع أن ظروف الاعتقال لدى السلطة الفلسطينية كانت أسوأ مما كانت عليه في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

جاء عرفات مع جميع أعضاء جهاز منظمة التحرير الفلسطينية الذين كانوا معه من قبل في تونس. واحتلوا جميعا المناصب القيادية في السلطة الفلسطينية الجديدة والوزارات واللجان، وتقاسموا الصفقات العمومية. وسرعان ما أصبح الفساد، على تنوعه، جليا للجميع. فحصلت بعض الشركات على امتيازات حصرية لتوزيع البنزين ولاستيراد الاسمنت، وكان مقابل هذه الامتيازات ثمن بالتأكيد. وعلى أي حال، ألقت الشرطة الفلسطينية القبض على جميع الصحفيين الذين غامروا بالتنديد بهذه الامور. واشتهرت المؤسسات التي تصدر تراخيص الاستيراد والتصدير بطلبها رسوم إضافية على التراخيص. والمثال كان يضرب من اعلى الهرم حيث لم تكن الموارد المتعلقة بالتجارة الخارجية تظهر على أي محاسبة رسمية، وكانت تحول مباشرة على حسابات داخل اسرائيل ...

وفي غزة، حيث يسود الفقر في الأحياء، تم بناء فنادق فاخرة على مرأى الشعب الذي لم يحصل على أي شيء لتحسين ظروف معيشته البائسة.

فأدت خيبة الأمل الناجمة عن السنوات الأولى من وجود السلطة الفلسطينية، إلى فقدان عدد متزايد من الفلسطينيين ثقتهم بحركة فتح، حزب عرفات. الأمر الذي سمح لحزب حماس الاسلامي، من فرض نفسه كبطل للنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي.

فمن أين أتت حركة حماس هذه والتي، في غضون سنوات قليلة، فرضت نفسها بوجه منظمة التحرير الفلسطينية ؟

حماس، من الكفاح ضد منظمة التحرير الفلسطينية الى أولى العمليات الانتحارية

إن صورة المقاتل الرافض لحل وسط مع إسرائيل والتي خلقت منها حماس شعبيتها كانت في الواقع حديثة نسبيا. فلفترة طويلة لم يأخذ الإسلاميون على عاتقهم النضال القومي، فقد حصروا نشاطهم على المجال الديني والخيري، والسعي في مساعدة الفقراء وإنشاء المستشفيات ودور الحضانة، الخ. وعدوهم الرئيسي لم يكن الاحتلال الإسرائيلي، بل كان عبارة عن فلسطينيين آخرين "كفار" من ناشطين شيوعيين وناشطي منظمة التحرير الفلسطينية العلمانيين.

ولهذا السبب، فقد استفادت الحركة الإسلامية من تسامح السلطات الإسرائيلية الحيادي والتي كانت تعول عليها القيام بتقليص نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية. فسمحت السلطات الإسرائيلية بتلقي الجمعيات الإسلامية المساعدات من المملكة العربية السعودية بشكل قانوني تماما. وبفضل هذا التمويل، تضاعف عدد المساجد في غزة ثلاث مرات بين عامي 1967 و1987، من 200 إلى 600 مسجد. ولم يعارض الإسرائيليون أيضا إنشاء الجامعة الإسلامية في غزة، المؤسسة الجامعية الوحيدة في المدينة، والتي أصبحت مرتعا خصبا للناشطين الإسلاميين.

وأخيرا، وبعد فترة من تطور "لا سياسي"، وعند اندلاع الانتفاضة الأولى في عام 1987، أدرك الناشطون الإسلاميون بأنهم سوف يهمشون تماما إذا بقوا بعيدين عن المعركة الدائرة ضد الاحتلال الإسرائيلي، فقررت غالبيتهم إنشاء حزب حماس السياسي وهو اختصار لـ "حركة المقاومة الإسلامية". وشارك نشطاء حماس لأول مرة خلال الانتفاضة الأولى، ولكن تأثيرهم كان لا يزال محدودا.

وفي عام 1993، ابتعدت حماس عن منظمة التحرير الفلسطينية بمعارضتها لاتفاقات أوسلو ونددت بها على أنها خيانة للقضية الفلسطينية. ولكن هذه المعارضة والهجمات الانتحارية الأولى التي نظمتها ابتداء من 1994 لم تعطي حماس شعبية في تلك السنوات حيث غالبية الفلسطينيين كانوا لا يزالون فرحين بإنشاء السلطة الفلسطينية.

يمكن للمرء أن يتصور درجة اليأس التي وصلت إليها جماهير الفلسطينيين كي تعتبر في أخر المطاف التفجيرات الانتحارية كإحدى الوسائل الأساسية للنضال ضد الإسرائيليين. وقد آل الغضب وخيبة الأمل واليأس إلى نشوب الانتفاضة الثانية.

الانتفاضة الثانية (2000)

اندلعت الانتفاضة في أيلول / سبتمبر 2000 بعد استفزاز قام به شارون الذي كان جنرالا من اليمين المتطرف وكان أثناء مجازر صبرا وشاتيلا في لبنان وزيرا للدفاع قبل أن يخسر منصبه باعتباره مسؤولا بشكل جزئي عن هذه المجازر.

فذهب شارون، الذي كان يعلم بمدى استفزازية فعله، الى حرم المسجد الاقصى في القدس، وهو مكان المقدس للمسلمين ومطالب به أيضا من قبل اليهود. وكان قصده إعادة التأكيد على سيطرة إسرائيل على هذا المكان، فاندلعت الاشتباكات عند وصوله واستمرت في الأيام التالية. فجاء القمع الإسرائيلي بشكل دموي، وذلك منذ الأشهر الأولى.

وأدى عنف القمع إلى ما سمي بـ "عسكرة الانتفاضة" من الجانب الفلسطيني. فالفلسطينيون الشباب قد شعروا بسرعة أن رمي الحجارة ليس كافيا. فاعتمدت المنظمات القومية، وخاصة حماس، على هذا الشعور كي تضم هؤلاء الشبان في ميليشيات قادرة على تزويدهم بأسلحة نارية. ووجدت هذه المنظمات وسيلة لتأطير حركة التمرد والسيطرة عليها، فكان النشاط المقترح على الأكثر الشباب تصميما هو القيام بهجمات انتحارية.

كانت سياسة الإرهاب الأعمى هذه إجرامية لأكثر من سبب. بالطبع لأنها كانت تستهدف أبرياء، ولكن أيضا لأنها بخلقها شعورا من الخوف وانعدام الأمن، فإنها دفعت بالسكان الإسرائيليين إلى أحضان أنصار السياسة القمعية تجاه الفلسطينيين.

وكان شارون قد لعب عمدا بطاقة الاستفزاز، ليكون بعد ذلك قادرا على الظهور كالضامن لأمن الإسرائيليين من خلال استخدام سياسة القمع القاسي. وقد بدت هذه السياسة كالوسيلة الفعالة الوحيدة المتبقية في نظر معظم الإسرائيليين. فالإسرائيليون الذين كانوا، قبل بضعة سنوات، قد صوتوا لصالح أحزاب ادعت مناصرة المفاوضات مع الفلسطينيين، قد باتوا يشعرون بفشل هذه السياسة، وبأنه من المستحيل التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين. وبالمراهنة على شعور الخوف هذا عند الإسرائيليين تمكن شارون من الفوز بانتخابات عام 2001.

وصول شارون إلى السلطة

ويقال أنه عند وصوله إلى السلطة، صرح شارون: "إن اتفاقات أوسلو قد ماتت." وخلاف سياسة أسلافه، رفض شارون كل اتصال مع قادة السلطة الفلسطينية الذين حملهم مسئولية الهجمات الانتحارية والتحفيز على الانتفاضة.

وبينما كانت السلطة الفلسطينية تتمتع باعتراف شكلي من قبل القادة الإسرائيليين، قام شارون بقصف جميع المباني الحكومية والوزارات والثكنات التي تأوي قوات الأمن وكل البنية التحتية التي بنيت في السنوات السابقة.

وتم تنظيم عمليات اغتيال لنشطاء ولقادة فلسطينيين انتقاما من الهجمات. وتم تقديم هذه الاغتيالات من قبل العسكريين الإسرائيليين على أنها ذات "أهداف محددة"، على عكس الهجمات الفلسطينية. ولكن هل يمكننا الحديث عن "هدف محدد" عندما، على سبيل المثال، تطلق طائرة هليكوبتر صاروخا على المنزل الذي لجأ اليه الناشط المستهدف، فتدمره كليا على رأس كل سكانه؟

ضاعف الجيش الاسرائيلي تدخلاته البرية في الضفة الغربية وقطاع غزة في حين أصبح التطويق والإغلاق شبه دائم. وعلى الطرق الرئيسية، وضع الجيش الاسرائيلي "نقاط التفتيش"، الأمر الذي جعل أية حركة عبارة عن عملية طويلة زمنيا وغير مضمونة المآل. وكانت بعض "نقاط التفتيش" دائمة، وبعضها الآخر مؤقتا. فساد هذا التعبير على واقع الحياة اليومية للفلسطينيين.

وأختنق الاقتصاد الفلسطيني حيث أصبح تبادل السلع شبه مستحيل، إذ فرض الإسرائيليون سياسة "من شاحنة إلى شاحنة": فكان يفرض على الشاحنات الفلسطينية تفريغ بضائعها في نقاط التفتيش ليتم شحنها على شاحنة أخرى على الجانب الآخر من نقطة التفتيش.

كما علقت الحكومة الإسرائيلية عدة مرات دفع عائدات الرسوم الجمركية على البضائع المصدرة من قبل الشركات الفلسطينية والتي كانت تستوفيها، منذ اتفاق أوسلو، نيابة عن السلطة الفلسطينية. فوجدت السلطة نفسها محرومة من أحد مواردها الرئيسية وغير قادرة على دفع رواتب موظفيها. ويمكن قياس عواقب هذا الامر عندما نعلم أن هذه المرتبات تشكل مورد ربع السكان.

وفي عام 2002، قامت الدبابات الإسرائيلية، خلال عملية "الدرع الواقي"، بغزو المدن الرئيسية في الضفة الغربية وأقدمت على محاصرة "المقاطعة"، مقر الحكومة الفلسطينية، في رام الله. أظهر شارون أن هدفه كان الإطاحة بعرفات ولكنه لم يجرؤ على إتمامه، فبقي عرفات أسيرا أكثر من عامين في هذا المبنى المدمر جزئيا، دون ماء وكهرباء في بعض الأحيان.

وفي المدن التي أعيد احتلالها، كان الجيش الإسرائيلي يفرض فترات حظر تجول استمرت أحيانا لعدة أيام. وتم تدمير أحياء بالكامل، كما حصل في مدينة جنين حيث كان يتم تدمير البيوت بالجرافات دون إجلاء مسبق لسكانها، فدفنت عائلات بأكملها تحت الأنقاض.

واسم شارون يرتبط على الاخص مع بناء "الجدار" الهادف إلى تحقيق الفصل التام مع الضفة الغربية. وشارون لم يقم سوى باستعادة فكرة أطلقها حزب العمل قبل بضع سنوات. ويقدم القادة الإسرائيليون هذا الجدار على أنه "السياج الأمني" الذي سيحمي الإسرائيليين من الهجمات الإرهابية.

وهو من المفترض أن يتم تشييد الجدار على طول 700 كم التي يبلغها "الخط الأخضر"، أي حدود ما قبل عام 1967. في بعض الاماكن يبلغ ارتفاع الجدار ثمانية أمتار من الباطون، وفي الاماكن الاخرى فإنه عبارة عن سياج، وهو مجهز بأحدث تقنيات المراقبة والكاميرات ورشاشات تعمل بالتحكم عن بعد.

كما من المتوجب أن يسمح مسار الجدار بدمج المستوطنات اليهودية الكبرى لإسرائيل تحت ذريعة ضمان سلامتها. الامر الذي سوف يؤدي الى ضم 43 % من الضفة الغربية. كما أن بناء الجدار بحد ذاته تطلب مصادرة أراض العديد من الفلسطينيين. فبدلا من الحديث عن جدار فصل، ينبغي الحديث عن جدار ضم!

وفي عام 2005، نظم شارون الانسحاب الكامل للجيش الاسرائيلي من قطاع غزة دون التفاوض مع القيادة الفلسطينية. الأمر الذي جوبه بمعارضة المستوطنين في قطاع غزة الذين توجب إخلائهم من هذه المستوطنات، وكذلك بمعارضة اليمين المتطرف المؤيد لـ "إسرائيل الكبرى"، والمعادي لأية إعادة أراض للفلسطينيين. في الواقع، لقد تخلى شارون عن غزة بسبب صعوبة السيطرة عليها، حيث الكثافة السكانية العالية، ومن اجل نشر القوات الإسرائيلية بشكل أفضل في الضفة الغربية.

خلال سنوات شارون، استمر الاستيطان في الضفة الغربية بوتيرة عالية، وواصل عدد المستوطنين بالتزايد حتى بعد إخلاء المستوطنات في قطاع غزة إذ يبلغ عددهم اليوم أكثر من 260.000 إضافة الى 180.000 مستوطن في الجزء العربي من القدس. وتشكل الأموال التي تنفقها الدولة على المستوطنات نصف المساعدات الأميركية التي البالغة ثلاثة مليارات دولار سنويا. إن الحكومة الإسرائيلية تهدف، عبر إنشاء مستوطنات جديدة، إلى خلق وضع راهن غير قابل للتراجع لتبرير ضم الأراضي الفلسطينية في المستقبل.

بالطبع أن السياسة التي اتبعها شارون لم تسمح بوضع حد للهجمات الانتحارية ولم تضمن أمن الإسرائيليين. فهي لم تؤدي إلا إلى تعميق الكراهية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كما تحضر لانفجار العنف وللانتفاضات في المستقبل.

 

إذا، ما هي الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها اليوم؟

إسرائيل: ثقل الجيش

بالنسبة للإسرائيليين، إن ثمن هذه السياسة باهظ جدا. فإسرائيل بلد صغير يبلغ 7 ملايين نسمة اليوم. ومن المؤكد أن كل أسرة قد فقدت أحد افرادها في احدى الحروب التي شنتها منذ إنشائها. في الواقع، إن سكانها يعيشون في حالة حرب دائمة، فالسلاح قريب عندما لا يكون في اليد. والخدمة العسكرية تدوم ثلاث سنوات للرجال واثنتين للنساء. وعلى الرجال، ولغاية الأربعين عاما، أن يقضوا سبعة إلى ثمانية أسابيع سنويا في الخدمة العسكرية. فبحسب رئيس أركان سابق في الجيش، إن المواطن الإسرائيلي هو عبارة "عن جندي في إجازة أحد عشر شهرا في السنة."

وأصبح الجيش حاضرا في سائر المجتمع الإسرائيلي. والجنرالات السابقون متواجدون بكثرة في المجال السياسي حيث أن معظم رؤساء الوزراء في السنوات الأخيرة كانوا رؤساء أركان سابقين. لقد أصبح المجتمع الإسرائيلي عبارة عن ثكنة عسكرية حيث لا تحمد عاقبة من يتهم بخيانة وطنه.

والدولة كرست دائما جزءا كبيرا من ميزانيتها للجيش، ولكن في السنوات الأخيرة أصبح هذا الثقل لا يطاق. فوضعت الدولة سياسة تقشف تخص الإنفاق الاجتماعي، فتم تخفيض الميزانيات الاجتماعية. ويضطر العاطلون عن العمل تحت سن الـ 25 سنة بقبول الوظائف المعروضة عليهم وإلا يتم شطب أسمائهم من لوائح المستفيدين من بدل البطالة، كما تواجدت بعض الأمهات الأرامل دون المساعدات التي كانت تسمح لهن ولأطفالهن بالبقاء على قيد الحياة.

إن انعدام المساواة، وليس فقط على المستوى الاجتماعي، كانت دائما كبيرا جدا في المجتمع الإسرائيلي: بين اليهود المتأصلين من أوروبا الشرقية، الاشكناز، من جهة، واليهود ذات أصول من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وإثيوبيا مؤخرا، أي السفارديم والمزراحيم الذين يلقبون أحيانا، وباحتقار، بـ"سود" إسرائيل. ولقد تعمقت هذه الفوارق في السنوات الأخيرة. فواحد من كل ثلاثة أطفال في إسرائيل يعيش تحت خط الفقر. وحتى الـ 240.000 الناجين من معسكرات الموت في إسرائيل لا يملكون الحق في معاملة خاصة لأن ثلثهم يعيشون تحت خط الفقر.

ثقل اليمين المتطرف

ولكن الامر ليس بمجرد تكلفة مادية. فهذه الحرب ضد الفلسطينيين تؤدي إلى جعل كل المجتمع الإسرائيلي أكثر عنفا. فالشاب الذي قام خلال شهور في الضفة الغربية بأفعال وحشية ضد الفلسطينيين لا يمكن ان يعود سالما عقليا إلى الحياة الاجتماعية.

واليمين المتطرف القومي والديني، الذي يمتلك قاعدة ناشطين متشددين قوامها آلاف المستوطنين، له ثقل كبير في الحياة السياسة. والكثير منهم هم من أنصار "إسرائيل الكبرى" التي تشمل الضفة الغربية، والتي يسمونها، وفقا للمصطلحات التوراتية، يهودا والسامرة. وبعضهم يناشد علنا، في تجانس مع الفكر الصهيوني، بفكرة نقل الفلسطينيين من إسرائيل أو الضفة الغربية الى البلدان العربية الأخرى.

الفلسطينيون: حماس في السلطة

أما بالنسبة للفلسطينيين، فإن الوضع أسوأ بكثير مما كان عليه قبل عشر سنوات. وقد سبق أن ذكرنا كل النتائج المترتبة عن السياسة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني من الناحية المادية وفي الحياة اليومية.

بعد وفاة عرفات في عام 2004، انتخب رئيس وزرائه محمود عباس كرئيس للسلطة الفلسطينية. وكما عرفات، وأكثر، حاول محمود عباس لعب ورقة الاعتدال والتفاوض مع القوى الكبرى. وسعى ليتوافق مع متطلبات ما يسمى بـ "خارطة الطريق"، وهي وثيقة أعدها ممثلو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة إثر اجتماع "رباعي"... فوعد القادة الغربيون بإنشاء دولة للفلسطينيين في المستقبل، ولكن كان من الضروري أولا إرساء الديمقراطية في المؤسسات الحالية... وبانتظار ذلك، فإن الدولة الإسرائيلية بإمكانها مواصلة قصف الفلسطينيين "ديمقراطيا" لأنهم لا يقومون بجهد كاف!

ولكن نتيجة إرساء "الديمقراطية" في الحياة السياسية الفلسطينية لم تكن تلك التي تمناها قادة الإمبريالية. ففي كانون الثاني/ يناير 2006، أصبحت حماس الحزب الفلسطيني الأول، وفازت بالأغلبية في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني. فقد دفعت السياسة الإسرائيلية بنسبة كبيرة من الفلسطينيين في أحضان الإسلاميين. ويجب التذكير بأن ذلك لم يكن موجة مد انتخابية كما قيل كثيرا: فحماس جمعت 45 % من الأصوات في حين أن الـ 55 % المتبقين اختاروا التصويت لصالح منظمات علمانية.

بعد انتصارها الانتخابي، شكلت حماس حكومة تعرضت فورا لمعارضة إسرائيل والقوى الغربية التي علقت مساعداتها للسلطة الفلسطينية. فنشب صراع مفتوح وعنيف بشكل متسارع بين حماس وفتح التي رفضت تسليم مقاليد السلطة. وكانت فتح تتمتع بالدعم الغربي ودعم إسرائيل غير المباشر عبر قيامها، على سبيل المثال، باعتقال عدة وزراء من حماس في صيف عام 2006.

فأجبرت حماس بالقبول بتشكيل حكومة وحدة وطنية في شباط / فبراير 2007. ولكن هذا لم يضع حدا للاشتباكات التي أدت في النهاية إلى انهيار السلطة الفلسطينية: في حزيران/ يونيو 2007، قامت حماس بالسيطرة على قطاع غزة فيما احتفظت فتح بسيطرتها على الضفة الغربية. ومنذ ذلك الحين، تنشب اشتباكات بانتظام بين حماس وفتح، سواء في غزة أو في الضفة الغربية.

ولكن بالنسبة للفلسطينيين، فإن أي من هاتين القوتين لا تمثل أفقا. فالطموح الوحيد لحركة فتح هو البقاء في السلطة من خلال قبولها من قبل الإمبريالية من أجل الحصول على جهاز دولة، مهما كان ضعيفا، وعلى جميع الموارد التي يمكنه توفيرها.

ووصول حماس إلى السلطة على جزء من الأراضي يمثل تراجعا اجتماعيا وسياسيا مأساويا للفلسطينيين. فأن تتواجد منظمة رجعية إلى هذه الدرجة على رئاسة الكفاح الفلسطيني، يمثل بوضوح المأزق الذي أوصل قوميو منظمة التحرير الفلسطينية شعبهم إليه.

النفوذ المتنامي للإسلاميين

إن تأثير الأفكار الإسلامية يتجاوز تأثير حماس نفسها. ففي السنوات الأخيرة، انشرت هذه الافكار تدريجيا في كل المجتمع الفلسطيني. وكما في كل مكان، فإن الشعور الديني يتغذى من اليأس.

كان المجتمع الفلسطيني في اعوام 1970 أحد أكثر المجتمعات علمانية في الشرق الأوسط. وفي العديد من المجالات، كان ثقل التقاليد والدين والتجمعات الأسرية قوي جدا، ولكن منظمة التحرير الفلسطينية كانت منظمة علمانية مع فلسطينيين من أصول مختلفة - كان جورج حبش من عائلة مسيحية، على سبيل المثال ـ والغالبية لم تكن تستخدم الدين في خطابها. وقد شاركت النساء بشكل واسع في النضال السياسي، بما في ذلك الكفاح المسلح في ميليشيات الفدائيين. واكتسبت هذه النساء حرية كانت تحسدها عليها العديد من النساء في الشرق الأوسط.

اليوم، في الأماكن العامة من المدن الفلسطينية، أصبح نادرا عدد النساء اللواتي لا يرتدين الحجاب، ومهما كانت اوساطهن الاجتماعية.

إن فقدان الثقة بمنظمة التحرير الفلسطينية أدى لفقدانها بالقومية العلمانية وسمح للإسلاموية بالتقدم في العديد من المجالات. وللحفاظ على نفوذها حاولت منظمة التحرير الفلسطينية التنافس مع الإسلاميين على أرضيتهم. فعرفات، في السنوات الأخيرة من حياته، بدأ بالتردد على المسجد علنا. وفي عام 2001، تم تشكيل ميليشيا مرتبطة بفتح وتحت اسم "شهداء الأقصى"، في إشارة إلى مسجد الاقصى. وفي رام الله، أنشأت السلطة الفلسطينية شرطة أخلاق مهمتها، من بين أمور أخرى، فرض احترام رمضان.

هذه الانتهازية تساعد أيضا على تعزيز سيطرة هذه الأفكار الرجعية على المجتمع بأسره.

الدولة الفلسطينية: حل لا يقدم أي أفق للفقراء

إذا كان للدولة الفلسطينية أن ترى النور في مثل هذه الظروف، فإنها ستشبه "بانتوستان"، تلك الدول الهزلية التي أنشأتها جنوب أفريقيا خلال نظام الفصل العنصري بهدف تكديس السود بعيدا عن المناطق المأهولة بالبيض.

هذه الدولة المأهولة بأكثر من مليون ونصف نسمة سوف تكون عبارة عن أحياء فقيرة كبيرة تشكل خزان يد عاملة للاقتصاد الإسرائيلي، الأمر الذي يعني حفاظ إسرائيل على سيطرتها على هذه الأراضي بعد تغيير وضعها القانوني. إن هذا سوف يلبي رغبات أقلية من القادة الذين سيجدون الفائدة من ذلك، ولكن الجزء الأكبر من الفلسطينيين سوف يستمر بالمعاناة من نفس البؤس.

اليوم، يعيش أكثر من مليوني فلسطيني في الأردن ولبنان وسوريا. هل يمكن لدولة فلسطينية كهذه استقبالهم؟ إسرائيل لا تنوي الاعتراف لهم بـ "حق العودة". إن الرجوع بالضبط إلى حيث كانوا يعيشون قبل طردهم قد لا يكون ممكنا في كثير من الحالات، ولكن هذه الاعتبارات لا تمنع القانون الإسرائيلي من الاعتراف بهذا الحق لجميع اليهود في العالم. وتحدث بوش عن إمكانية مبادلة هذا الحق بتعويضات ولكن بضعة ملايين الدولارات التي دار الحديث عنها لن تسمح لهؤلاء الفلسطينيين بمغادرة المخيمات التي يعيشون فيها منذ عقود...

أما بالنسبة للمليون فلسطيني داخل إسرائيل (المسمون عرب إسرائيل)، فإنهم وإن كانوا يعاملون في إسرائيل كمواطنين من الدرجة الثانية، فإنهم لن يذهبوا مع ذلك للاستقرار في دولة فلسطينية حيث سيكونون بالتأكيد أسوء حالا.

كلا، إن إنشاء دولة فلسطينية على النحو المخطط له لن يغير حقا من مصير الغالبية العظمى من الفلسطينيين.

بالطبع أنه في المعركة التي تخاض، وكثوريين بروليتاريين، لسنا محايدين. فإننا نقف دون قيد أو شرط إلى جانب الشعب الفلسطيني وبغض النظر عن القادة الذين يختارهم ونحن متضامنون مع مطالبه بدولة فلسطينية.

فبدلا من دولة واحدة ثنائية القومية بحقوق متساوية لكلا الشعبين، إن التطلع الشعب الفلسطيني إلى دولة قومية هو أمر محق أيضا، تماما كما كان ذلك محقا لليهود الذين طردوا من أوروبا من قبل النظام الرأسمالي المتعفن في الغرب.

ولكن التضامن مع تطلعات الشعب الفلسطيني لا تقود بالطبع للسير وراء قوميي منظمة التحرير الفلسطينية. وقد برهنت السنوات الأخيرة بشكل كاف عن عدم وجود مخرج ضمن إطار الصراعات القومية. كما ليس من الممكن منح حماس أي طابع تقدمي أو مناهض للإمبريالية، على عكس ما يردده البعض، بما في ذلك في أقصى اليسار.

إن الشعب الفلسطيني اليوم سجين في معسكر اعتقال: فمهما كانت الصفة القانونية لهذا المعتقل، كسلطة حكم ذاتي أو كدولة رسمية، فإن ذلك لن يغير شيئا بالنسبة لوضعه. فالإسرائيليون سوف يتولون دور حراسة المعتقل. وحياة حراس السجن لا يحسد عليها مقارنة بحياة سجنائهم. فالحراس والسجناء يعيشون في نفس السجن... والشعب الذي يضطهد شعبا آخر لا يمكن أن يكون شعبا حرا.

لكننا نثق في قدرة الشعوب بالعثور، من خلال كل التجارب، على الوسيلة للعيش سوية. ونحن هنا، علينا أن نتذكر كم من الأعداء المتوارثين قد حددهم لنا قادتنا في أوقات مختلفة: الإنجليز والألمان... وكم من الحروب وقعت بين هذه الشعوب قبل أن تكون في وضع يمكنها من العيش جنبا الى جنب، سلميا.

والأمر سوف يكون سيان في المستقبل، نحن مقتنعون بذلك، بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين. فهذين الشعبين يجب أن يعيشان سوية، وهما في نهاية المطاف سوف يعيشان، نحن مقتنعون بذلك، في نفس الدولة التي سوف تعترف بحقوق متساوية للجميع.

ليس هناك حل مرض لكلا الشعبين في إطار الإمبريالية

نحن لا نعلم إن كان حل كهذا ممكنا في إطار النظام الإمبريالي الحالي. يمكننا فقط ملاحظة أن ذلك كان مستحيلا خلال القرن المنصرم، تماما كاستحالة حل العديد من النزاعات وحالات الظلم والطغيان في عالمنا بسبب تداخلها مع المصالح الامبريالية. ويمكننا أيضا أن نلاحظ أن القادة القوميين قد أوصلوا كلا الشعبين، وبشكل واضح، إلى فشل مأساوي.

لربما أنه ليس هناك حل مرضي لكلا الشعبين في سياق النظام العالمي الإمبريالي الحالي، القائم على الرأسمالية، ما يعني الاستغلال واقتصاد السوق. إن استدامة هذا التنظيم الاجتماعي هو ما يحافظ على العديد من أشكال الظلم في العالم ويخلق باستمرار اشكالا جديدة من الظلم. إن إطالة عمر هذا النظام الاجتماعي الرأسمالي هو الذي يعمق باستمرار الهوة بين بعض الدول الإمبريالية، أو بتعبير أدق بين طبقاتها الغنية وصاحبة الامتيازات، والغالبية الفقيرة من العالم. وإن هذا ما يعيد ظهور، من قمامة الماضي، العديد من الأفكار والسلوكيات التي عفا عليها الزمن، كالعنف العرقي والأصولية الدينية، كاثوليكية كانت أو مسلمة أو هندوسية.

الأمل يأتي من نضال البروليتاريا

إذن، من الممكن أن لا يتم حل المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية إلا عبر انتصار البروليتاريا وإسقاط الرأسمالية، أو على الأقل في مرحلة معينة من النضال من أجل تحقيق ذلك. ذلك لأن البروليتاريا وحدها ستكون قادرة على وضع حد للتخلف في القسم الأكبر من هذا الكوكب. إن الحل الحقيقي للنزاع بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين لا يمكن أن يقتصر على رسم حدود جديدة. الامر يتطلب أيضا امتلاك الشعبين حقوقا متساوية بما يخص استعمال الثروات الطبيعية والتعليم والصحة ... فيجب وضع حد للتفاوت الاجتماعي الذي تتسم به علاقاتهم منذ بدء الصراع.

نحن لا نعرف ما سوف تعتمده شعوب الشرق الأوسط من حلول للتعايش في عالم خال من الرأسمالية. فالخيار يعود إليهم بين دول متعددة الجنسيات أو تجمع لكافة دول المنطقة في فيدرالية اشتراكية.

في الختام، من المتأمل ألا يقود المأزق الحالي هذين الشعبين للإحباط وأن يظهر في المستقبل، كما كان الحال في الماضي، جيلا جديدا من المناضلين.

ومن المتأمل أن يختار هؤلاء المناضلين آفاق أخرى مختلفة عن تلك التي تحرض الشعوب بعضها على البعض الأخر. فيختارون سياسة توحدهم في نضال مشترك بهدف التحول الاجتماعي في جميع أنحاء الشرق الاوسط.

إن ذلك طموح، وهو كذلك برنامج ونهج نضالي. إنه البرنامج الذي علينا الدفاع عنه كشيوعيين ثوريين، ذلك لأن التاريخ غير مكتوب سلفا، وكذلك لأن مقاتلي الغد سوف يتعلمون من المآسي وفرص الماضي الضائعة.