من الاتحاد السوفييتي إلى روسيا بوتين - نص مفصل - 2000

ترجمة

عرض لحلقة ليون تروتسكي بتاريخ 12 مايو 2000

المحتويات

الحرب في الشيشان وخلافة يلتسين

دولة متحللة

البيروقراطية وطغمها

- أكتوبر 1917والموجة الثورية الأوروبية :

ولادة البيروقراطية

-الديكتاتورية الستالينية :

نقطة تحول حاسمة للبيروقراطيين

-خلال فترة "الركود" البريجنيفية:

انتشار الطغم كنموذج للـ "ستالينية اللامركزية"

- الحلم البرجوازي للبيروقراطيين :

البيروقراطية تقطع أوصال الاتحاد السوفيتي

- عندما "تتبنى" البيروقراطية اقتصاد السوق :

تردد رأس المال الدولي الكبير

خيبة الأمل وتجريم المستثمرين الأجانب

- الأشكال الحالية لنهب البيروقراطية :

موجتان من الخصخصة

" الملكية الافتراضية "والمافيات

- روسيا خارج "القوانين الاقتصادية الاعتيادية":

الانهيار الاقتصادي

اقتصاد الشطارة

الشركات ذات المسؤولية المحدودة جدا

بيروقراطيون وملكية خاصة ودولة مبعثرة

البنوك الروسية ودورها

إما البورصة وإما الحياة (النسخة الروسية)

- دولة شبح وطيف سلطة قوية:

تحول الدولة الى إقطاعيات وتفككها

شعب منهوب

- الطبقة العاملة الروسية اليوم:

ملاك دون شرعية معترف بها

القوة الوحيدة للثوريين

برجوازية صغيرة ديمقراطية وطبقة عاملة

الضمان الوحيد للمستقبل

- الملحق

القانون الخاص والواقع البيروقراطي :

الزراعة السوفيتية سابقا كمثال

في26 مارس خرج رئيس روسي جديد من الصناديق : صناديق اقتراع وصناديق جنائز معا. ذلك أن فلاديمير بوتين حصل على تأكيد انتخابي لموقعه كرئيس بالوكالة من خلال حربه ضد الشيشان بعد استقالة بوريس يلتسين عشية رأس السنة الجديدة 2000.

فحين اعتلى يلتسين منصب رئاسة جمهورية روسيا الاشتراكية الاتحادية السوفيتية في يونيو/ حزيران 1990، فإنه كان يمثل دور الديمقراطي. أما القادة الروس الحاليين فإنهم لا يعبؤون حتى بذلك و يضحون بهذا المظهر الديمقراطي، وهو ما سمح لرؤساء الدول الغربية بتهنئة بوتين على نجاحه في حملة هي أكثر عسكرية من انتخابية.

لقد وصفته صحيفة النيويورك تايمز أنه "ديمقراطي" الكي جي بي - جهاز المخابرات السوفيتي - مع كل يعنيه ذلك من تناقضات.

الكي جي بي لديه من السمعة ما يستحق، باعتباره واحدا من أسوأ أدوات الستالينية. خدم بوتين نفسه في المخابرات أثناء حكمي بريجينيف وأندروبوف، وانتهى بإدارته للتنظيم تحت حكم يلتسين. وكان هناك بين من كانوا ينددون بـ الكي جي بي من يرى في ماضيه الشرطي ضمانا لكفاءته.

وهكذا فإن المؤرخة كارير أنكوس، التي كانت تتهم في عام 1990 الـ كي جي بي بتغطية اليمين المتطرف الروسي وتنصح بقراءة "أرخبيل معسكرات الجولاج" لسوليجينتسين من أجل إدراك مدى القمع الستاليني، فإنها تؤكد الآن بأن الـ كي جي بي قد أصبح "مدرسة روسيا الوطنية للإدارة "!

 

الحرب في الشيشان وخلافة يلتسين

يتزامن تعيين بوتين رئيسا للوزراء في أغسطس/ آب 1999 مع زيادة التوتر في الشيشان المستقلة عمليا، إذ هاجم كوماندوز انفصاليين داغستان وهي جمهورية قوقازية مجاورة. وفي خضم ذلك حدثت تفجيرات في أبنية داخل روسيا، فاتهمت السلطات الروسية الشيشان بإسقاط 300 قتيل.

بالنسبة لبوتين، فإن السباق إلى الرئاسة وإلى الحرب سيختلطان لعدة أسباب أحدها أساسي. ذلك أن انفصال الشيشان، منذ تسعة سنوات، يمثل خنجرا في خاصرة الكرملن، خاصة وأنه أصبح يمثل نموذجا للعديد من القادة البيروقراطيين الإقليميين الروس الذين راحوا يبتعدون أكثر فأكثر عن موسكو.

مع هذه الحرب، أطلق بوتين تحذيرا دمويا إلى أولئك الذين ربما حاول الشيشان تقليدهم. وكان ذلك يصب في اتجاه أماني قيادة الأركان التي كانت محط السخرية قبل أربع سنوات في أول حرب مع الشيشان، والتي كانت تحلم من جهة بالانتقام وبأن حربا من هذا النوع توفر، من جهة أخرى، العديد من الفرص للترقية وللنهب. وكان بمقدور بوتين أن يأمل في أن ظهوره بمظهر الرجل القوي من شأنه أن يخدمه الانتخابات، في هذا البلد حيث الفضائح والاختلاسات والقوة الفائقة للمافيات المختلفة تبدو مرتبطة بأزمة السلطة المركزية.

قبل ستة أشهر من الانتخابات الرئاسية، فقدت زمرة يلتسين اعتبارها أكثر من أي وقت مضى. كان رئيسا مكروها من الشعب وكان يرى انتهاء ولايته الثانية دون أن يكون له الحق في الترشيح من جديد. وفي هذا المناخ من نهاية عهد، كانت زمر القادة الأخرى تشحذ سكاكينها اشتهاء لمنصب رئيس عليل، غير قادر حتى على القيام بدور الكومبارس. بدأت صحف بنشر دناءات عن زمرته المقربة وعن "العائلة" وملياراتها المسروقة والمخبأة في الخارج.

كان هناك خطر في دار أولئك الذين نهبوا البلاد بشكل وقح في ظل السلطة. وربما كان حلول قائد من عشيرة أخرى محل يلستين يعني أن ساعة الحساب قد حانت وأن خصومهم في قمة الدولة ربما خلطوا الأوراق على حساب "العائلة". فبسبب السرقات العلنية وعلى نطاق واسع، فإن هذه "العائلة" جرت على نفسها الكثير من الكراهية حتى أضحت كبش فداء جاهزا حال اندحار معسكرها. ومما لا شك فيه أن الفصائل القيادية الأخرى ربما لن تتردد في تقديمها زادا للرأي العام إن كان في ذلك صرفا للانتباه عن آثامهم.

في الوقت الذي كان يتوجب فيه على السلطة أن تغير رأسها، فقد كان حيويا "للعائلة" أن لا يخرج ذلك عن يدها. فقد كان المقربون من يلتسين يسيطرون على وسائل الاعلام الرئيسية حيث استطاعوا فرض رجلهم بالرغم من سأم الجمهور من الفوضى السائدة منذ سنين. وكان بوتين الذي صور نفسه في صورة الرجل المسيطر، يمثل صدى لهذا الشعور العميق وبدا متمايزا مع سلفه... ساهم كل هذا ممزوجا بتزوير واسع النطاق في انتخابه من الدور الأول. في اليوم التالي، منح بوتين الحصانة ليلتسين و لحاشيته، وبهذا فهو يذكر بأسباب اختيار هذه العشيرة له.

كان فوزه يعني انتصار حزب السلطة داخل دائرة أولئك الذين يدورون في قمة الدولة، وليس في الشيشان حيث لم يلق رجال حرب العصابات بسلاحهم. لا شيء يمنع من القول بأنه لو كانت الإدارة الروسية قد لجأت إلى الحرب لحل مشكلة رحيل يلتسين لكانت قد أشعلت فتيل قنبلة موقوتة في مخزن بارود القوقاز.

 

دولة متحللة

هل سينجح الكرملين في فرض سلام المقابر؟ على أية حال، فإن وصول بوتين إلى سدة الحكم لا يغير شيئا من المشاكل التي يتخبط فيها النظام منذ نهاية الاتحاد السوفيتي، بدءا من الضعف المستديم للدولة.

فروسيا الحالية هي نتاج لتفكك الاتحاد السوفيتي في ديسمبر/ كانون الأول عام 1991 إلى جمهورياته الخمسة عشر التي شكلت دولا مستقلة على قاعدة تدعي بالقومية. في ذلك الوقت، شجع رؤساء هذه الجمهوريات على هذا الانفجار بغية الوصول إلى السلطة بتخلصهم من وصاية المركز، والتي يجسدها غرباتشوف رئيس الاتحاد السوفيتي. جاء تقطيع أوصال ما كان يؤلف مجموعة الجمهوريات ذات الحكم الذاتي نظريا ولكن المندمجة للغاية، بنتائج مدمرة على اقتصاد البلاد وعلى حياة سكانها.

فعلى مستوى الدولة، لم تكن النتائج أقل خطورة. فمن أجل الوصول إلى السلطة، دفع يلتسين إلى تفكيك الاتحاد السوفيتي. وبعد وصوله إلى السلطة، حاول عبثا وقف العملية التي كانت تقوض سلطته وتدفع الى بلقنة فدرالية روسيا - وهذا هو اسمها الرسمي - التي كانت تضم عددا كبيرا من المناطق والشعوب، ترقى في بعض الأحيان إلى مستوى جمهورية، ينحو قادتها إلى تحويلها إلى دول مستقلة.

لذا رحنا نرى روسيا تتفكك خلال حكم يلتسين، واقتصادها ينهار، وسكانها يزدادون بؤسا ودولتها المركزية تزداد ضعفا كما هو حال سلطة الذي يجسدها. هل كان بإمكان يلتسين الهروب من هذه الظاهرة ؟ هذا ما سيقوله المستقبل.

 

البيروقراطية وطغمها

بعيدا عن كونه شخصية مبهمة برز كعقيد من بين ضباط الكي جي بي فقد انتصر بوتين كحال سابقيه لأن طغمة من رجال السلطة جعلت منه أداة لها.

ولكن من هي تلك الطغم البيروقراطية المتصارعة في قمة البلاد منذ سنين والتي تجمع مسؤولين كبار في الدولة ورجال أعمال انتهازيين تعود ثرواتهم الضخمة السعيد إلى العلا التي يربطهم بهؤلاء المسؤولين، والذين يسمون في روسيا بالنخب المتنفذة (الأوليجارك) ؟ ماذا يتخفي خلف قناع الديمقراطية الروسية التي ماهي بديمقراطية إلا بترديد القادة الغربيون لذلك أكثر من بوتين الذي يفضل الوعد بـ"دكتاتورية القانون" ؟ وما هو الواقع الاجتماعي الذي أفرز هذه الطغم البيروقراطية التي تكافح من أجل سلطة مركزية وهو ما يعني القوة والثروة المتداخلتين بشدة ؟ وأخيرا لماذا نجد هذا الوضع في كافة مستويات المجتمع، هنا من أجل السيطرة على جمهورية أو إدارة وهناك من أجل الهيمنة على مدينة أو شركة وحتى على حي أو نهاية رصيف التي يتنازع عليها هؤلاء المجرمون المسلحون والمتواجدون في كل مكان بالمشهد الروسي ؟

إن هذا الواقع الاجتماعي يستحضر أشياء عدة من الرأسمالية الهمجية إلى البربرية. ولكن أيا كان حاضرها وماضيها القريب، سيبقى هذا الواقع عصيا على الفهم إذا نسينا على أي أنقاض كان ظهوره وأبعد من ذلك، هذه الظاهرة الكبرى في القرن العشرين ألا وهي استيلاء البروليتاريا الروسية على السلطة عام 1917.

أكتوبر 1917 والموجة الثورية الأوربية :

إن ما لم تستطيع كومونة باريس الشروع فيه تحقق في روسيا بعد أكتوبر1917. فللمرة الأولى في التاريخ، لم تسيطر البروليتاريا على السلطة فقط، بل وانخرطت في بناء نظام اجتماعي يتخلص من الاستغلال الرأسمالي. فاستخدمت السلطة من أجل نزع ملكية الملاك، ثم بهدف تشغيل الاقتصاد على أساس جماعي ومخطط، وهو ما يعني الأخذ في الاعتبار مصالح الغالبية الساحقة وليس المصالح الأنانية لأقلية، وذلك حسب خطة مرسومة على مستوى البلاد كلها، تمركز الموارد المتاحة لتلبية هذه الحاجات. وهذا من خلال أوسع ديمقراطية للجماهير، لأن تحقيق ذلك لم يكن ممكنا ولا كان مجرد التفكير به ممكنا دون المشاركة الفعالة لأولئك الذين لا رتبة لهم، ومشاركة العمال والفلاحين والنساء في جميع أنحاء البلاد.

إن الفترة التي مارست خلالها الطبقة العاملة الروسية السلطة لم تدم. ولكن ذلك كان كافيا حتى نرى، ليس فقط من خلال أعمال ماركس، بل في أكبر بلد على الكوكب، كل ما يمكن أن يقدمه للبشرية مجتمع تجد الطبقة العاملة الوقت فيه من أجل العمل على إلغاء الرأسمالية.

أن حديثنا هذا المساء ليس بصدد سرد الثورة الروسية، بل نريد التذكير بأن الثورة لم تكن روسية فقط. "كانت أوربا كلها (في حينها) مليئة بروح ثورية (و كان) كل النظام القائم، من نواحيه السياسية والاجتماعية والاقتصادية في محل تساؤل من قبل كافة الجماهير في كافة أنحاء (القارة)"، هذا ما قد عاينه رئيس الوزراء البريطاني، لويد جورج، حيث لاحظ تعطش هذه الشعوب للانتقام والتي كانت البرجوازية قد أرسلت بها إلى المذبح.

في اكتوبر1918، امتلأت ألمانيا - البلد الأكثر تصنيعا في أوربا - بمجالس الجنود والعمال. انهارت الجبهة، اضطر القيصر إلى الفرار واضطرت قيادة الأركان إلى وقف الحرب.

كانت هذه هي المرة الوحيدة في القرن العشرين حيث كان هدف جيل من النشطاء العماليين والثوريين - الاستيلاء على السلطة من قبل البروليتاليا وبدء النضال من أجل إلغاء الرأسمالية - يبدو في متناول اليد، أو على الأقل في متناول الكفاح الذي بدأ.

ففي المجر/ هنغاريا وسلوفاكيا تأسست جمهورية عابرة للمجالس، ولكن في ألمانيا ذات الدور الحاسم في مصير الثورة الناهضة فإن البرجوازية وجدت في الاشتراكية الديمقراطية حليفا ذا وزن من داخل الحركة العمالية لكنه يعمل ضدها. وباعتبارها رمزا للسياسة الاشتراكية الديمقراطية لكافة البلدان التي تأثرت بالثورة، ففي ألمانيا كانت الاشتراكية الديمقراطية قد قامت بقيادة القوى التي ستسحق المجالس العمالية التي كان الوزراء الاشتراكيون يحاولون نزع سلاحها.

ميلاد البيروقراطية

وجدت روسيا نفسها معزولة بعد هزيمة الثورة العمالية في كافة البقاع. لقد هزمت الدولة القيصرية في فبراير/ شباط 1917 وأطيح بالبرجوازية بعد ثمانية أشهر وسمح الانتصار في الحرب الأهلية ضد جيوش البيض والدول الإمبريالية، بمصادرة أملاك الطبقات المالكة. كان يجب أن يكون هناك ثورة مظفرة في بلد أكثر تقدما بمقدورها أن تقدم لطبقة عاملة أنهكتها سنوات طويلة من النضال الإمكانات لتعزيز سلطتها ومواصلة تطويرها على أسس جديدة. إلا أن ذلك لم يحدث.

في هذا السياق من العزلة المتفاقمة بسبب الحصار الإمبريالي، فقد نمت في روسيا ثم تعززت فئة اجتماعية ذات امتيازات مكونة من إداريين وقادة في جهاز الدولة. ثم راحت هذه البيروقراطية تنشيء دكتاتوريتها من خلال عملية تدريجية ولكن بشراسة متناهية فيما سيصبح مع نهاية عام 1922، اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية.

واليوم وبعد أن اختفى الاتحاد السوفيتي، فقد أصبح من المألوف لدى الأحزاب المسماة شيوعية التنديد بالستالينية والتي كانت تدعمها حتى آخر لحظة. فعلى مدى عقود كانت هذه الأحزاب تعيد ترديد دعاياتها الشائنة وأكاذيبها الكريهة. وصفقت لاضطهاد العمال السوفيت وللرعب البوليسي ولاختفاء الملايين من السوفيت في المعسكرات ولاغتيال رفاق لينين وثوريين أجانب ولخيانة النضالات العمالية خارج الاتحاد السوفيتي.

كان ذلك نقيض المثال الشيوعي، ولكن هذه الأحزاب كانت تقدم ذلك على أنه تجسيد الاشتراكية. كان تورز (السكرتير الأول للحزب الشيوعي الفرنسي آنذاك) يعتبر نفسه الستاليني الأول في فرنسا، في حين كان قائد آخر في الحزب الشيوعي الفرنسي، وهو أراغون، يمدح البوليس السياسي الستاليني من خلال قصيدة ! كان هؤلاء المثقفون الذين يدعون الشيوعية لا يجهلون شيئا عن الستالينية، لكنهم راحوا يرفعونها إلى عنان السماء. ومنذ ذلك الحين توافق معظمهم مع الاشتراكية الديمقراطية ومع اليمين معلنين بأن نهاية الاتحاد السوفيتي تعني فشل الشيوعية التي لن تنهض من جديد.

لذلك، علينا التذكير بأن الستالينية، ومنذ البداية، أثارت كافة أشكال المعارضة داخل الحزب البلشفي. وقد تبلورت جميعها حول المعارضة اليسارية التي شكلها تروتسكي والذي اضطلع وحده بكامل إرث أكتوبر وذلك برفضه أن تغتصب البيروقراطية وتحول لمصلحتها هذه الخطوة الرائعة التي خطتها البشرية جمعاء نحو الأمام، أي هذه الثورة الروسية المبشرة بثورة عالمية مقبلة. ولم يكن من قبيل الصدفة أن البيروقراطية لم تجد راية أخرى لمعارضتها سوى علم ما يسمى بـ "الاشتراكية في بلد واحد". إن مكافحة مثل هذا الانحطاط عن طريق الالتحاق بنضال تروتسكي يعني بالنسبة لجيل بأكمله من البلاشفة، اختيارا واضحا لمعسكرهم: معسكر الطبقة العاملة المناضلة من أجل الاستيلاء على السلطة في العالم أجمع ومن أجل الحفاظ على ثمرة انتصاره الأول أي سلطة السوفيت. وقدم العديد من الشيوعيين السوفيت حياتهم ثمنا لهذا الاختيار وكان تروتسكي في المقدمة.

بطبيعة الحال فإن المشكلة تطرح اليوم بشكل مختلف. ولكن يبقى أن تطور الاتحاد السوفيتي يطرح مشكلة جوهرية على كل ناشط شيوعي: كيف آلت أول ثورة عمالية منتصرة إلى مثل هذه الصورة الكاريكاتورية البشعة ؟ و للإجابة على ذلك فإن تحليل تروتسكي ونهجه وآراءه لا تزال أداة قيمة لأولئك الذين يريدون السعي من أجل الثورة العمالية. ذلك لأن تروتسكي قد شرح انحطاط اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، ليس بوصفه مراقب، بل كناشط ثوري يدافع عن الإنجاز الذي قامت به الطبقة العاملة ضد البروقراطية التي خانت، تحت قناع الشيوعية، مثال أكتوبر والدولة العمالية. إن هذا التحليل هو ثمرة نشاط من مكن، مع لينين، من نصر أكتوبر ومن قاد الأممية الشيوعية عندما كانت الثورة العالمية تطرق الأبواب ومن ناضل حتى آخر نفس ضد البرجوازية والبيروقراطية.

الدكتاتورية الستالينية :

عندما نتحدث عن البيروقراطية، فإنه لا ينبغي أن يغيب عنا أن هناك فرقا بين ما كان على المعارضة اليسارية أن تواجهه في منتصف العشرينات وبين ما أصبحت عليه، ولنقل عندما اختفى الاتحاد السوفيتي من الوجود. يجب أيضا أن لا نغفل عن أن زمرة المعارضة هذه كانت مكونة من أفراد مختلفين كثيرا من حيث وضعيتهم، وسلطتهم وما ينجم عنها من امتيازات. ما وجه المقارنة بين جنرال ستاليني، مغطى بـالنياشين، ولكن فرص ثرائه بالضرورة أقل من مدير مصنع أو متجر؟ وكيف أن إداريا صغيرا لمنطقة ريفية كان يرى كبار شخصيات النظام الستاليني وكأنهم من عالم آخر بسياراتهم وخدمهم ومشترياتهم وشققهم وبيوتهم الصيفية المريحة التي وفرتها لهم الدولة ؟

لقد لاحظ ذلك تروتسكي منذ عام 1936: "من خلال ظروفهم الحياتية، فإن الأوساط الحاكمة تضم جميع المستويات من البرجوازية الصغيرة للأقاليم وحتى البرجوازية الكبيرة للمدن". إن العامل المشترك لكل هؤلاء البيروقراطيين كان المساهمة في السلطة. وكان ذلك هو الأساس الوحيد للبيروقراطية.

ولكن على وجه التحديد، على عكس بيروقراطية جهاز الدولة في البلدان الرأسمالية، حيث تمتد جذور السلطة السياسية عميقا داخل مجتمع تسيطر عليه البرجوازية التي ترتبط بألف علاقة بالطبقة المسيطرة اقتصاديا، فإن البيروقراطية السوفيتية تبدو فوق الطبقات الاجتماعية، حيث لا أحد باستطاعته مراقبتها. يضاف إلى هذا إلى عدم تجانسها، حيث تمثل فئة اجتماعية ذات قدرة فائقة وغير مستقرة في آن، ولا تستطيع تأمين سلطتها إلا من خلال تماسك تفرضه على نفسها بالقوة.

لقد ظهرت البيروقراطية في بلد فقير، عانى على مدى قرون من بربرية التخلف الاجتماعي وأيضا من البربرية التي سادت على جزء من القارة. ويجب أن لا ننسى بأن الفاشية الإيطالية والعديد من الدكتاتوريات في أوربا الوسطى والبلقان قد قامت في أوائل العشرينات.

هذا هو السياق الذي كونت فيه البيروقراطية وعيها كفئة وتضامنها كجسد واحد في مواجهة الطبقة العاملة حيث ينحدر بعض أعضائها والتي لاحظت قدراتها الثورية، وضد البرجوازية التي رأت انجازاتها أثناء الحرب الأهلية.

ويمكن القول أن تخوف البيروقراطيين من الطبقة العاملة ومن البرجوازية لم يكن عملية عقلانية مجردة بل معاناة حياتية قاسية. إذ كان عليهم الدفاع عن وجودهم الفردي والجماعي في مواجهة هذا التهديد المزدوج.

ومن البديهي أن العمال كانوا الأكثر عرضة للخطر من الناحية الاجتماعية: فعلى كاهلهم كان يقع عبء ضمان البروقراطيين لامتيازاتهم. فقد كان على الشعب أن يتحمل استعبادا قاسيا حتى يشبع هؤلاء الوصوليون بفضل "المحلات التجارية المغلقة" وغيرها من "الوكالات التجارية الخاصة" عندما كانت المجاعة في أوائل الثلاثينيات تحصد أرواح الملايين من البشر في البلاد.

إن البيروقراطية المولودة في خضم الأخطار أعطت لنفسها تمثيلا سياسيا على شاكلتها. وعلى المستوى الاجتماعي، كان النظام الستاليني دكتاتورية ضد الطبقة العاملة والبرجوازية. لكنه كان دكتاتوريا سياسيا أيضا لأعضائه الذين لا يتمكنون من حل المشاكل التي تنشأ في داخلهم ديمقراطيا، وبالتحديد خوفا من أن يقوض ذلك سلطتهم. أن ضرورات الدكتاتورية الاجتماعية قد أدت إلى الدكتاتورية السياسية على شكل رئيس يقرر في كل شيء دون أية مناقشة، ومقررا قطع الرؤوس في نفس الوقت.

وبعيدا عن مايراه البيروقراطيين على انه انحرافات، فان الجنون الدموي للنظام كان لها أسس موضوعية حول طبيعة البيروقراطية وتجربتها الجماعية للخطر الاجتماعي. فحول هذا يستند التوافق في الاراء داخل البيروقراطية والذي بدونه كان سيتعذر على ستالين اقامة دكتاتورية حيث كان يتمتع بحق الحياة والموت حتى على كبار البيروقراطيين. وكانت ضربات ستالين ضدهم تجبرهم على احترام النظام والانضباط وعلى الرغم من ان هذه الضربات كانت تبدو عمياء، فلم يكن هناك احدا يشعر بالامان.

وعندما لم يكن البيروقراطيين يعدمون بفترات التطهير الحاشدة والدورية، فإنهم كانو تحت رحمة النفي أو الإقصاء أو ببساطة بتغيير في الموقع وذلك لأنهم لم يكونوا يتركون شخصا في نفس المركز لفترة طويلة، ولا سيما قادة الأجهزة المركزية في النظام، حيث كانت سيرتهم الذاتية تشبه خارطة أدارية للاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية.

نقطة تحول حاسمة للبيروقراطيين

في عهد ستالين، كان للبيروقراطيين موطئ قدم في الماضي الثوري، دون معرفة ما إذا كان الآخر موجود في مواقع السلطة أم في تلك التي تؤدي إلى أقبية الكي جي بي حيث كان القليل يخرجون منها أحياء. وكانت أنظارهم تنحو صوب برجوازية كانوا راغبين في تقليدها في حين كانوا يصرحون بأنهم قد أزاحوها من على سدس الكرة الأرضية، في الاتحاد السوفيتي. من وجهة النظر هذه، وجهة نظرهم، ينتهي عصرا مع وفاة ستالين في مارس/ آذار1953 .

ثلاثين عاما مضت منذ ظهور البيروقراطية. أنها لم تعد تشعر مهددة في البلاد، وفي الخارج، فإن مواقع النظام قد خرجت مدعمة من الحرب العالمية الثانية. لقد تغير سياق الأمور، وكذلك ردود الفعل الجماعية للبيروقراطيين. أنهم يريدون التمتع بامتيازاتهم دون الارتعاب أمام قائد بإمكانه حرمانهم منها ومن حياتهم.

أن خلافة ستالين سوف تمكنهم من ذلك. وذلك لوجود عدد كبير من المتنافسين بين مساعدي ستالين، وللفوز على منافسيهم فإنهم قد سعوا للحصول على دعم من البيروقراطيين وطرح كل منهم نفسه على أنه من يسعى لوضع حد للنهش داخل النظام. وبالنسبة للبيروقراطيين فإن قيادة جماعية على أرض الواقع، كانت تغييرا كليا، فرديا وجماعيا. مجرد أن يكون هناك، على الأقل لبعض الوقت، حكم وحيد، فإن ذلك قد أدى لظهور العديد من الأطراف السياسية المتنافسة وعلى جميع المستويات، ذات المصالح الاقتصادية القوية.

وذلك لأن امتيازات البيروقراطيين، وحتى أولئك الذين في الصف المتوسط أو الأدنى، لاتكمن في الوصول فقط إلى المحلات التجارية "الخاصة" أو في الحق في استخدام سيارة الوظيفة. فبفضل إمكانيات الاقتصاد المخطط، الذي سمحت به ثورة الطبقة العاملة والغاء ملكية البرجوازية، فإن روسيا أضحت متطورة.

فمنذ الثلاثينيات، وبالرغم من النهب البيروقراطي، وعلى الرغم من كل انحرافات نظامه، فإن الاقتصاد قد تطور، بمعدلات نمو أكثر بكثير من أي مكان آخر في العالم. كل هذا بالإضافة إلى بطولة الجماهير السوفيتية، التي كان من شأنها السماح للنظام بمواجهة الحرب العالمية الثانية. على الرغم من أن الدمار الذي خلفته الحرب قد دفع إلى الوراء بعيدا بالبلاد، فإن ذلك قد سمح للبيروقراطية وإلى قائدها بالخروج من النزاع كمنتصر، معززا بنهب بلدان أوربا الوسطى التي قد احتلتها جيوشهم. ولذا فإن تطفل البيروقراطية قد أخذ أبعادا أخرى. ولهذا فإن صراعات النظام، وحتى صراعات الأجهزة الاقتصادية، قد بدأت تأخذ أهمية متصاعدة.

فعلى سبيل المثال، من الذي سيسيطر على الثروات المنجمية في الدونباس ؟ هل هي وزارة الفحم، أم قسم اللجنة المركزية المسؤولة عن المناجم، أم جهاز المقاطعة ومن خلفه أدارة جمهورية أوكرانيا، والذي هو بحد ذاته منافس لروسيا وذلك لأن حدوده الأدارية تجتاز الدونباس ؟ وخلف هذه الصراعات على السلطة، فإن صراعات ذو أسس اقتصادية تختبئ خلفها.

كلما كانت صراعات كهذه تندلع، كان ستالين يحيد بقبضة من حديد هذه الأجهزة. ولكن بوفاته، فإن التهديد قد خف وكل ذلك طفح إلى السطح من جديد. فبالإضافة إلى الأجهزة السياسية الأخطبوطية والمركزية على نحو عال التي كان يعتمد عليها بيريا وخروشوف ومولوتوف وآخرين أمثال كاغانوفيج في محاولاتهم لأخذ مكان ستالين، كانت هناك أجهزة اقتصادية قوية مركزية وأقليمية.

لاحظنا أن هذه الأجهزة المختلفة تقف ضد بعضها البعض وكان قادتها يستندون على معاقلهم لمنع منافسهم من التقدم عليهم. أدى ذلك إلى أزمة للسلطة.

استعمل خروشوف طرق قديمة كي يفرض نفسه على منافسيه. ففي 1954و 1957لجأ إلى إعادة هيكلة عامة لكوادر البيروقراطية في كل البلاد، وذلك من أجل بث نفوذ زبانيته. واستفاد من المنافسات بين الحزب والكي جي بي والجيش ومؤسسة التخطيط (غوسبلان) والادارات المركزية الكبرى والادارات الخمسة عشر للجمهوريات. وعندما لم يستطع اضعاف هذه الاجهزة التي تقف بوجه سلطته، فإنه سعى لدعم البيروقراطيين المحليين بمنحهم بعض الامتيازات. وهكذا فإنه فتح بوجهه أبواب جهنم.

نلاحظ ذلك في1957، عندما قام بالغاء الوزارات الاقتصادية المركزية لصالح السوفنارخوز (في الروسية "مجالس الاقتصاد القومي"). محاولا كسر الاقطاعية السياسية ــ الاقتصادية التي أنشأت بموجب هذه الوزارات، وأعطى إلى المناطق (في الواقع إلى البيروقراطيين المشرفين) ادارة المشاريع الصناعية والزراعية. وكرر ذلك في 1960 عن طريق حل وزارة الداخلية حيث نقل الصلاحيات إلى الجمهوريات.

من الواضح أنه قد أثار مقاومة قوية في القمة فبتعطيل تنظيم الاقتصاد وبتشجيع البيروقراطية للتحرر من المراقبة المركزية، فإن خروشوف قد زود أقرانه بسلاح اضافي في هيئة الرئاسة الجماعية التي حلت محل المكتب السياسي الستاليني.

في يونيو/ حزيران 1957 حصل على أقلية في الأصوات في هيئة الرئاسة، ولم يتخلص من الأقالة إلا بفضل دعم الجيش الذي ساعده على عقد لجنة مركزية حيث صوت له ممثلي البيروقراطيات المحلية. وفي أواخر 1964، حيث ظهر خروشوف حاصلا على سلطة شبه مطلقة، تكرر السيناريو نفسه. وفي هذه المرة، فإن القادة السياسيين للبيروقراطية لم يتركوا له وقت لدعوة أي شخص للمساعدة. فقد أطاحوا به وتقاسم السلطة مجموعة بقيادة بريجنيف.

خلال فترة "الركود" البريجنيفية :

لم ينسى بريجينيف الدرس خلال السنوات العشرين التي قاد فيها الاتحاد السوفيتي. فقادة البيروقراطية لم يتحملوا أن يفرض خروشوف نفسه عليهم، فلم يمس بريجينيف الطابع الجماعي إلى حد ما لقيادة النظام. ولكنه لم يتصدى للتيارات الفاعلة في عمق البيروقراطية التي حررتها الفترة السابقة.

ولذا فإنها كانت تتقوى باستمرار في ظل الجمود البريجنيفي. وأولا وعلى رأس الجمهوريات حيث كان أمناء الحزب، كانوا غالبا أعضاء في المكتب السياسي، قد عينوا موالين لهم في مناصب رئيسية، رجال وهميين كانت مناصبهم لا تعتمد على المركز بل على الأمين الأول لكل جمهورية حيث كان الرئيس الحقيقي.

لذا فللسيطرة على هذا البلد الواسع، هناك الحاجة للعديد من المراكز ومن كافة الأنواع. ومن الواضح، فإن أولئك الذين يديرون الجمهوريات كانوا يغتنمون الفرصة من أجل ملئ جيوبهم والعمل على تنظيم أتباعا من مطيعين ومستفيدين من هذا النهب في نفس الوقت الذي يسمحون به. في الواقع، فإن هؤلاء باستطاعتهم عرقلة أي قرار يصل من الأعلى قد يخل بشؤون عالمهم الصغير، وذلك من خلال وظيفتهم في الجهاز الحكومي أو السياسي أو الاقتصادي أو القضائي أو في جهاز الشرطة أو في أي مكان آخر. ومما يسهل في الأمر هو أن الوصول إلى المراكز الحساسة كان يحدد بنظام النخب (نومانكلاتورا)، نظام الوظائف المحجوزة التي كان للحزب فيها فقط حق في التعيين .وبهذا فإن مسؤولي الحزب يحافظون على وفاء المرؤوسين المباشرين وكذلك على كل التسلسل الهرمي للبيروقراطيين الخاضعين لدائرتهم الإدارية.

عند الاطلاع على قائمة لرؤساء الجمهوريات لعام 1977، فإننا نلاحظ بأن شبه الغالبية الساحقة لأمناء الحزب ونوابهم كانوا موظفون محليا. وبعد عشرين عاما من خلط الكوادر من قبل خروشوف، فإن أجهزة الجمهوريات الآن لا تزال راسخة في معاقلها.

انتشار الطغم كنموذج للـ "ستالينية اللامركزية"

مع ضعف السلطة المركزية المسيطرة، فإن البيروقراطيين يميلون على نحو متزايد للتصرف بطريقة الطغم. وبالطبع فإنهم استمروا بالحفاظ صوريا على وحدة معينة للسلطة. فمن الخارج لم يبدو أن شيء ما قد تغير. وكان كل رئيس جمهورية يستخدم أساليب تذكر بتلك التي كان ستالين يطبقها على نطاق الاتحاد السوفيتي: توقيع بسيط كان يكفي لنفي مرؤوس يهدد سلطته.

ولقد بدأنا في ملاحظة انتشار ما يسمى بـ " لصوص حسب القانون" هؤلاء العراب من الأوساط (الخارجة عن القانون) تزدهر تحت حماية السلطات. وكان قد بدأ اندماج بين فئات البيروقراطية وعالم الجريمة حيث نشهد النتيجة اليوم. ولكن منذ عهد بريجينيف، فإنها كانت تسيطر على "الاقتصاد الخفي" ، "اقتصاد الظل"، خارجة عن سيطرة المركز.

أن هذا الانتشار للطغم، والذي يتجلى اليوم علانية، تمتد جذورها إلى أصول البيروقراطية نفسها والتي بنيت على النهب من أجل الحفاظ على امتيازاتها. ولكن لفترة طويلة، وخوفا من البروليتاريا، فإن هذا النهب الذي كان مستترا وجماعي، كان يعتبر وصمة عار.

وصمة عار، وذلك لأن البيروقراطيين يتظاهرون بالعيش كالشعب في حين أن نمط حياتهم كان يجعلهم يعيشون في واد شاسع بعيدا عن الجمهور.

ومتخفين، وذلك لأن ادعاء النظام بتجسيد الاشتراكية والدفاع عن المصالح الحالية والماضية والمستقبلية للطبقة العاملة، كان هدفه أن يكون ستار أمام هذا النهب.

وأخيرا جماعي، بقدر مكافحة الستالينية توجهات البيروقراطية الجلية للنهب الفردي والتي كانت تهدد بتحطيم النظام.

ولكن البيروقراطيين قد فسروا نهاية الإرهاب على أنه السبيل المفتوح نحو للنهب الفئوي والفردي. فلم تكن إعادة خروشوف عام 1960 لعقوبة الإعدام للجرائم الاقتصادية من قبيل الصدفة. ولا تكرار بريجينيف الدوري كما كان ذلك في البرفدا في نوفمبر/ تشرين الثاني 1978 عن أسفه لعدم قدرة الكوسبلان مقابل الـ "محلية" والـ "إقليمية" .فأنه لم يفعل شيئا سوى ملاحظة ضعف المركز لصالح فئات إقليمية قوية في الحزب، ولصالح دوائر اللجنة المركزية والوزارات.

في عام1972، حين وصل شيفرنادزه إلى رئاسة الحزب الشيوعي الجورجي، فإنه قد لاحظ جهاز محلي فاسد تماما. وفي عام1976، فإن الأمين الأول الأوكراني شتشوبيتسكي قد وجه نفس التهمة إلى النظام الذي أقامه سلفه. وفي عام1979، توجب تطهير كل الجهاز القيادي لأوزبكستان، وصدرت أحكام إعدام، وأقيل رئيس الجمهورية وطرد من الحزب.

انتشرت هذه الظاهرة على نطاق واسع بحيث أصبحت تهدد السلطة. في ديسمبر/ كانون أول، طالب اجتماع للمكتب السياسي النائب العام للاتحاد السوفيتي "باتخاذ خطوات لتحسين احترام الشرعية الاشتراكية". ومن الواضح كان يجب اتخاذ قرارات حاسمة. فالمعركة حول خلافة بريجينيف كانت فرصة مناسبة لذلك.

عدد من قادة البيروقراطية المحلية والمركزية أعفوا من مراكزهم واتهم آخرين في قضايا كبيرة للجريمة المنظمة من قبل المافيا ـ وذلك لأن الكلمة والشيء نفسه كانوا متواجدين في الاتحاد السوفيتي من قبل عهد غورباتشوف أو يلتسين بفترة طويلة.

والقضية الأكثر شهرة كانت "مآثر" مجموعة تصدر بشكل غير شرعي كميات كبيرة من القطن المنتج في أوزبكستان والذين كانوا يملؤون جيوبهم بالعملة الصعبة حيث كانت هذه التجارة تدرها عليهم، وذلك بدعم ولفائدة القيادة الأزبكية، وكذلك من نسيب بريجينيف، نائب وزير الداخلية في الاتحاد السوفيتي.

الحلم البرجوازي للبيروقراطيين :

تنازلت السلطة لتهدئة التعطش للثراء لبعض شرائح المجتمع السوفيتي وذلك عبر سوفنارخوز خروشوف وإصلاحات بريجينيف التي سمحت بالنشاط الحرفي الخاص في الريف وعبر تخفيف الوصايا المركزية على المشاريع الكبرى. ولكن البيروقراطيين ومافيات الاقتصاد الخفي كانت تريد أكثر دائما : فهم يطمحون لإضفاء الشرعية على نهبهم وعلى امتيازاتهم على أساس الملكية الخاصة. ولكن الحلم بالتحول إلى برجوازي ذو رأس مال لا يعني أن تصبح بهذه السهولة.

في الاتحاد السوفييتي تم انتزاع وسائل الإنتاج من مالكيها السابقين وتحولت إلى قطاع الدولة عن طريق ثورة عمالية. وعلى هذه القاعدة الصلبة التي لم تطيح بها الردة البيروقراطية ـ في البدء لأنها لم تتمكن من التبلور إلا عن طريق التطفل عليها ـ قد بني اقتصاد قوي.

فهو لا يشكل بطبيعة الحال وحدة متجانسة. كان يعاني أولا من كونه مقطوعا عن التقسيم العالمي للعمل وكان عليه إنتاج كل شيء بنفسه. ثم إن هذه الكوابح الاقتصادية الكبرى ألا وهي إلغاء الملكية الخاصة والاستعاضة عن قوانين السوق بالتخطيط قد بينت صلاحيته بتحويل روسيا إلى ثاني قوة عالمية، لكنها فقدت بعضا من فاعليتها بسبب استحواذ البيروقراطية عليها.

نددت السلطات مرارا بسوء إدارة الاقتصاد ! ولكن وراء الإهمال الشخصي للبيروقراطيين الذي كان يشار إليه هناك واقع أكثر ضررا. سوء في الإنتاج، وتوزيع سيء التنظيم، وعدم الامتثال للخطة المركزية، كل هذا كان ناتج عن نهب الثورة الاجتماعية من قبل عدد لا يحصى من البيروقراطيين. لم تستطع البيروقراطية لا المطالبة ولا تبرير هذه الاستقطاعات، لذا كان عليها إخفاءها تحت ستار كثيف من الدخان حتى أن الدورة الحقيقية للاقتصاد أصبحت غير مسيطر عليها حتى من قبل أولئك الموجهين لها في القمة.

التخطيط وقطاع الدولة كان يشكل المحور الذي ينتظم حوله أداريا وقضائيا وماليا الاقتصاد السوفيتي.

لم يكن العمل هذا جيدا، ولكن كانت له قواعده الذاتية. ويجب التذكير بأن النمو الاقتصادي في الاتحاد السوفيتي كان أعلى من نمو القوى الكبرى في العالم الامبريالي وهذا حتى السنوات الأخيرة للاتحاد السوفيتي.

البيروقراطية تقطع أوصال الاتحاد السوفيتي :

في هذا السياق وفي منتصف الثمانينيات، جاءت البيروسترويكا الغورباتشوفية. لم تكن البادئ لعملية كما رأينا، بل التعبير العلني إلى جانب إضفاء الصفة القانونية على واقع اجتماعي.

فالإصلاحات التي بدأت عام 1987 والأذن للشركات الخاصة الصغيرة، وفقت بين القوانين والواقع. كان غورباتشوف يطمح أن يكافئه حشد من البيروقراطيين وصغار البرجوازيين وذلك بدعمه في وجه المسؤولين الذين كانوا يتحدون سلطته. وفي أول مؤتمر ترأسه بداية عام 1986، ندد بالفساد وبالمحسوبية وبأفعال رؤساء الجمهوريات وأعلن عن تنقلات في الكوادر بين المناطق. وبعد أن فشل هذا، فإنه بحث على توسيع الدعم له.

وبفعله هذا، فإنه قد فتح أبواب نفذت من خلالها قوى غير منضبطة لتكتسح سلطته والاتحاد السوفيتي معه. وفي غضون سنوات قليلة، فإننا سنشهد انحلالا ثم اختفاء لكل ما يرمز إلى الاتحاد السوفيتي.

فاحتكار الحزب الواحد غدا من الذكريات. وتركت شخصيات كبيرة كيلتسين هذا الحزب، وبعد أن أصبح ساحة للصراعات المفتوحة بين العشائر، وبدأت تنافسه منظمات أخرى، فإنه توقف عن كونه " القوة التي توجه وتقود المجتمع" كما كان طموح الدستور السوفيتي. وتم كسر العمود الفقري للنظام.

اختفى الغوسبلان بعد أن شله تقسيم البلاد إلى خليط من الإقطاعيات. وبعد أن قضى هذا الأخير بسرطان السلطات المحلية التي تكلم عنها بريجينيف، اختفى الاتحاد السوفيتي بدوره منقسما إلى خمسة عشر دولة مستقلة، متمزقة بدورها بـ "الحكم الذاتي" ألمناطقي. وبهذا حقق رؤساء البيروقراطية هدفهم : تحرير أنفسهم من الوصايا المركزية.

1989، 1990، 1991... لم يستمر ذلك إلا ثلاث سنوات كانت مصيرية. ولكن إذا كان التفكك السياسي للاتحاد السوفيتي قد حدث بهذه السرعة، فقد جرى التحول الاقتصادي بوتيرة أكثر بطء، حتى بعد أن أصبح مصطلح "السوق" شعار القادة الروس.

عندما "تتبنى" البيروقراطية اقتصاد السوق :

في بداية التسعينيات، أقدمت البيروقراطية على منعطف. فهذه البيروقراطية التي كانت تخفي لفترة طويلة امتيازاتها متشدقة بالشيوعية كما كانت تتخفى خلف ستائر سيارات اليموزين ومخازنها الخاصة، فإنها قد فتحت أبواب البلاد على مصراعيها إلى "السوق" .

وحسب العادة البيروقراطية فإن كلمة "السوق" أصبحت نشيد الخطابات ومقالات الصحافة بدلا من "الاشتراكية" التي أضحت خارج الموضة و"البيريسترويكا" التي تجاوزتها الأحداث. ما هو الخيار الإيديولوجي في الانفتاح على ما تبقى من الاتحاد السوفيتي؟ أنه القليل كما في ذلك التعلق اللفظي بالشيوعية التي كان النظام يتظاهر بها لحد الآن. لقد غيرت البيروقراطية خطابها وذلك لأن قسم كبير منها كان يأمل إضفاء الشرعية على تطفلها الذي كان جماعيا إلى هذا الحد أو ذاك، وإخفائه تحت ستار الملكية الخاصة الشخصية وبطبيعة الحال، الوصول إلى الأسواق الغربية من أجل بيع ما يريدون في الاتحاد السوفيتي وشراء ما يناسبهم كأغنياء جدد.

ولكن الأيام ستبرهن بعدم كفاية الترحيب برأس المال الكبير كي ينتشر في بلد مفتوح له. وخصوصا فإن ذلك لم يكن كافيا كي يحافظ الاقتصاد على مستواه السابق، ناهيك عن تطويره، ولا حتى كي تجلب اليد الممدودة إلى الرأسمال الكبير شيئا مهما إلى البيروقراطية.

تردد رأس المال الكبير العالمي

إذا كان قادة الدول الامبريالية قد ملؤو جيوب زمرة الكريملين لمنع روسيا من الانزلاق في فوضى شاملة، فإن الرأسماليين أنفسهم لم يستثمروا إلا بضمانات وإلا في أماكن يجنون منها أرباحا. وعلى وجه التحديد، إلا عندما يسمح لهم ذلك بالاستيلاء على اكبر حصة ممكنة من تلك التي كان البيروقراطيين قد اعتادوا على الاستحواذ عليها في البلاد. في هذا المجال، فإن الرأسماليين لم يتمكنوا من الظهور كحلفاء، بل كمنافسين للبيروقراطية. ولهذا فإنها حاولت وبشتى الوسائل حماية نفسها من السوق الذي قد روجت له.

إن إعادة الرأسمالية في بلد كان يعمل على أسس أخرى منذ ثلاثة أرباع قرن، قد بدا أقل يسرا مما أراد البعض القول.

هناك نخبة مرموقة من الاقتصاديين الغربيين بحثت بخصوص "الانتقال نحو السوق" وأوصت بـ "علاج الصدمة" عن طريق خصخصة سريعة. ولكن من أجل إعادة الملكية الخاصة ـ وسنعود إلى ذلك ـ فلن تكفي خصخصة حتى على نطاق واسع. نعرف أن الأمور ليست بهذه البساطة حتى في بلدان حيث البرجوازية لها سلطة تمد جذورها في التاريخ منذ قرون.

ففي فرنسا، لا تزال منازعات الملكية عديدة وعنيفة في بعض الأحيان، على الرغم من إن القانون المدني لنابليون والذي مر عليه قرنين من الوجود المقر به وحيث إن ثمانية أعشاره يعالج قانون الملكية. وفي أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، ومن أجل حل هكذا منازعات، هناك قوانين ومحاكم، جهاز كامل من التنظيم والإكراه، وباختصار دولة لفرض تطبيقها. استغرق ذلك وقتا من البرجوازية من اجل بنائه وتقويمه وتطويره. ومع ذلك، فإن هذا لا يحل كل شيء.

ولكن في روسيا، لا يوجد شيء من هذا. فان الظروف التي لازمت دخول رأس المال إلى الاتحاد السوفيتي قد حرمت الدولة المركزية ـ أو ما تبقى منها ـ من الوسائل اللازمة لأداء دورها. فكل مجموعة من البيروقراطيين تطبق قانونها الخاص، وذلك منذ وقت بعيد. وفي حالة قيام نزاع بينها، فليس هناك سلطة للفصل في القانون وحتى لاتخاذ قرار فارضة تحكيمها.

هناك أمثلة كثيرة عن المستثمرين الأجانب الذين اعتقدوا شراء مصنع هنا أو امتياز نفطي هناك، ولكنهم قد خدعوا. أما التجار البائعين فإنهم قد اختفوا مع المال. وما هو موقف السلطات التي رعت الاتفاق؟ أنها لا تعترف بالعقد. وما الطعن أمام القضاء؟ ليس هناك حلول في غياب سجل تجاري ولا قانون للملكية، وغياب قانون لملكية الأرض وحيث القضاة والشرطة وكبار السراق أصحاب المناصب يجدون مصلحتهم.

في البداية، استمال انفتاح السوق الروسية مجاميع غربية. أما الآن فأنها تمتنع، وهذا واضح. تقدر الاستثمارات الدولية في روسيا بخمسة عشر مليار دولار خلال عشر سنوات. وهذا يمثل ثلاثة إلى خمسة مرات أقل مما حصلت عليه بولندا أو هنغاريا. وحتى بلد صغير كالبيرو فانه قد شهد وصول رؤوس أموال غربية اكبر مما وصلت إلى روسيا، أوسع دولة في العالم.

ولكن الإحصاءات لا تميز بين الاستثمارات المباشرة وبين رؤوس الأموال المضاربة. فحتى في بلد مدمر، تجنى ثروات في يوم واحد. فهم البيروقراطيون المحليون ذلك بسرعة وكذلك الرأسماليون الغربيون. إن بلد كهذا باستطاعته اجتذاب كميات من رؤوس الأموال المضاربة، وهذا سيجلب الخراب له، ولكنه سوف لن يغير من طبيعة اقتصاده.

في عام 1999، استثمر العالم الرأسمالي 190 مليار دولار في ما تسميه الأسواق الناشئة، منها 90 مليار في أمريكا اللاتينية و 33 مليار في كل أوروبا الشرقية. تلقت روسيا 4.2 مليار دولار منها، أي 5٪ فقط من مجموع الاستثمارات.

إن ذلك يشكل جزء قليلا من حيث القيمة المطلقة، وتشكل هذه الاستثمارات وزنا أقل في الاقتصاد الروسي: ما يعادل 0.8٪ من الناتج المحلي الإجمالي، أي أقل بتسعة مرات مقارنة بحجمها في بولندا. إن ذلك غني عن التعليق، ولكن تجدر الإشارة بأن قبرص هي ثالث بلد قد وفر رؤوس الأموال إلى روسيا، ذلك الملاذ الضريبي المفضل للأثرياء الجدد في روسيا. إن رؤوس الأموال لا تعمل شيئا غير الرجوع إلى روسيا، لبعض الوقت كي تقوم بصفقة رابحة، قبل إن تغادر من جديد.

خيبة الأمل وتجريم المستثمرين الأجانب

تبقى استثمارات رأس المال الدولي الكبير متواضعة حتى في نادر قطاع يظهر فيه رأس المال الدولي الكبير اهتماما بالاتحاد السوفيتي السابق، وهو قطاع المواد الخام وخصوصا قطاع النفط.

فبريتيش بتروليوم سيطرت حديثا على سيدانكو، شركة نفط صغيرة في وضع سيء (وذلك لأن الشركات ذات الوضع الحسن ـ لوك أويل، سيبنفت، وما إلى ذلك ـ لا تزال في يد الدولة الروسية والنخبة الذين هم وكلاء الزمر البيروقراطية على رأس المؤسسات الكبرى).

وهذا ما صرح به ممثل شركة بريتش بتروليوم في روسيا لصحيفة ازفستيا في 17 مارس / آذار : "إن الإدارة البريطانية تستبعد إنشاء شركة جديدة لأسباب مبدئية وهي غياب تشريع واضح المعالم، والى الضرائب الفاحشة على رأس المال، وبالنظر إلى الواقع الروسي، إلى استحالة إدخال معايير غربية على إدارة و طريقة عمل (سيدانكو)، في حين إن هذا يشكل ضرورة ملحة". وتختتم الصحيفة بفكاهة بريطانية: "بعد أن أخذ قادة بريتش بتروليوم على عاتقهم المهمة الشاقة بإخراج سيدانكو من الأزمة، فإنهم يحافظون على أمل إمكانية بناء "واحة" مبتكرة للأعمال النظيفة في السوق الروسية". في الواقع يجب العلم بأن سيدانكو وقبل أن تسند إلى بريتش بتروليوم، قد أعلن إفلاسها وذلك من قبل احد نخبة المتنفذين والذي كان قد أفرغها من ممتلكاتها بالتواطؤ مع القضاة.

عشية انتخاب بوتين، عقد في موسكو منتدى للشركات الأوروبية العاملة في روسيا. تطرق الاجتماع إلى غياب الضمانات على الممتلكات، والى قانون حظر شراء الأراضي من اجل تشيد المشاريع، والى الفساد والى إساءة استخدام السلطة، والى إخفاق رجال الأعمال الغربيين في الحصول على حقوقهم في القضاء والمحاكم والى أن القضاة خاضعين للهيئات السياسية؛ والى لوائح حظر تعرقل أو تمنع الاستثمار الأجنبي، والى دور مزدوج للموظفين ـ رجال الأعمال الروس، ورفض و عدم قدرة السلطات على فرض تطبيق القانون أو قرارات المحكمة، وغياب نظام قانوني وإداري التي يفرض احترام العقود التجارية؛ والى سلطات إقليمية تقيم حواجز إدارية لحماية مشاريعهم ...

إن هذه السلسلة من المظالم قد عبرت عنها رسالة مفتوحة سلمت إلى بوتين عبر نادي الأعمال الأوروبية في موسكو. هناك تأكيد على "غياب القوانين والأعراف المعمول بها"، مسببا "مناخا غير ملائم للاستثمار (وهذا) ما يبرهن عليه بوضوح تسرب كبير لرؤوس الأموال خارج البلاد، تسرب يتجاوز بكثير دخول رؤوس الأموال. "

أما بخصوص الموسي، مجلة رسمية فرنسية للتجارة الخارجية، فنقرأ الأتي في يناير/كانون ثاني : "إن الشركات الفرنسية تشكو (من إن) الإطار التشريعي لازال معقد ومبهم، (وبأن) التشريعات الجمركية بدت متذبذبة وتطبق بشكل تعسفي، (وبأن) عدم القدرة على تملك الأراضي (...) وكذلك الضمان على الأرض يشكلان عائقا أمام الاستثمار، (وبأن) القطاع المصرفي يجب أن يحسن ويجب أن يقوم بدوره في تمويل الاستثمار(...).إن إدارة المشاريع يجب أن تحضو بشفافية من أجل تفادي خيبة الأمل للمستثمرين الأجانب (في حين)، وفي حالة الخلاف، فان ضعف اجتهاد القضاء والقرارات التعسفية للمحاكم تزيد من صعوبات الشركات. وهناك عوامل أخرى تعرقل عمل الشركات: الفساد والابتزاز بحجة الحماية ".

إن مثل هذه التقييمات متوفرة في المجلات الموجهة للرأسماليين، وتتخلله تفاصيل فريدة. وهكذا، وفي أوائل يناير/ كانون ثاني، قتل قناص مجهول الهوية رئيس بالتيكا في منزله، وهي شركة لصناعة البيرة الروسية الأكثر شهرة، حيث كان كونسورتيوم اسكندنافي يستثمر فيها. يمكن للمرء تصور الانطباع لدى ممثلي هذا الكونسورتيوم. أو على نظرائهم عبر الأطلسي عند علمهم بأن مالك قصر في موسكو يتجول بحرية، وهو رجل أعمال مرتبط بالكرملين مسؤول عن قتل شريكه الأمريكي بعد خلاف مالي، وبان القضاء لم يحقق في الموضوع.

في عدد أبريل/نيسان من مجلة الشؤون الخارجية، يصف مسؤول العلاقات الاقتصادية الأمريكية مع روسيا الإجراءات البيروقراطية في قطاع النفط. يقول بأن رئيس شركة يوكوس استطاع في ثلاثة سنوات وبمساعدة من السلطات اختلاس 800 مليون دولار من هذه الشركة وذلك "بنهب المساهمين الصغار (بما في ذلك) المستثمرين الأميركيين و الأجانب".

ويذكر بأن هذا المسؤول نفسه، خويخروفسكي، قد اختلس من الشركة الأمريكية "أموكو التي كانت قد أنشأت شركة مساهمة مع يوغانسك ـ نفط غاز (من أجل استعادة) أكبر حقل نفط غير مستغل في البلاد، ألا وهو حقل بريوبسكوي. وعندما سيطر خودوروفسكي على يوغانسك ـ نفط غاز في عام 1995، فانه قد قدم شروط جديدة : يجب على أموكو زيادة رأس المال وتقليل عدد الأسهم. احتجت أموكو بحجة العقد الموقع. قيل بأن خودوروفسكي اكتفى بالتبسم ثم طرد ببساطة أموكو من الصفقة، على الرغم من أربع سنوات من العمل من جانبها واستثمار ما لا يقل عن مائة مليون دولار. "المؤلف يعطي أيضا تفاصيل عن كيفية خداع بريتش بتروليوم في قضية سيدانكو المذكورة سابقا وبأنها لم تحصل إلا على مؤسسة مفرغة. وعند ذكر كل حالة نهب للمستثمرين الأجانب، فإن الطريقة تتكرر : فخلف كل متنفذ من النخبة هناك ممثل من أعلى المستويات في الدولة يضمن له الإفلات من العقاب والنجاح.

يشير المؤلف في هذا الصدد إلى أن الوزير الروسي للبترول والطاقة لعام 1998ـ1999 كان احد قادة يوكوس، وبأن تشيرنوميردين، رئيس وزراء لمدة ست سنوات، كان يرعى جازبروم، أكبر شركة روسية وأكبر شركة عالمية للغاز، وبأن فولوشين، الرئيس الحالي للإدارة الرئاسية، وأكسنكو، نائب رئيس مجلس الوزراء لوقت قريب، هم مرتبطين بكبير البيروقراطيين المسيطرين في النفط ألا وهو بيريزوفسكي.

ومن الواضح بأن الطابع الفئوي لعمل البيروقراطية والأخلاق المصاحبة تحبط المستثمرين الأجانب. لذا فلا ينبغي الاندهاش بأن هذا المسؤول الأمريكي يختتم مقالته بالتوصية التالية :"ينبغي معاملة النخبة المتنفذة كمنبوذين حتى يغيروا سلوكهم أو لغاية أن يأمم بوتين هذه الشركات النفطية الوطنية التي تتصرف بشكل اخرق. ونظرا لهذه الظروف الاستثنائية وتأثيراتها الكبيرة، ينبغي على الولايات المتحدة (...) أن تشجع بنشاط وان تدعم إعادة التأميم وإعادة الخصخصة حسب الحالات".

الأشكال الحالية لنهب البيروقراطية :

في عام 1991 قدر غورباتشوف أن على الغرب استثمار 150 مليار دولار لتحويل الاتحاد السوفيتي نحو اقتصاد السوق. إن ذكر رقم كهذا كان يتناغم مع ما كان سائدا في تلك الفترة، حيث كان خيرة الاقتصاديين يقدم خططا من اجل الانتقال إلى اقتصاد السوق، ووفقا لذلك يمكن تنفيذها حسب ادعائهم في 500 يوم ...

كان غورباتشوف محقا بشيء واحد : لقد تم مرور 150 مليار دولار بين روسيا والغرب، ولكن ليس بالاتجاه المعلن سابقا. إن ذلك كان يتطابق مع ما سرقه البيروقراطيين ورجال الأعمال في روسيا خلال عشرة سنوات وتم إيداعه في البنوك الغربية. إن ذلك يساوي أكثر من سبعة أضعاف قروض صندوق النقد الدولي لروسيا، عشر مرات أكثر من الاستثمارات الأجنبية في البلاد خلال الفترة نفسها !

إن ما كشفه قبل بضعة أشهر قضاة أمريكيون وسويسريون يجرم يلتسين وزمرته في اختلاس مليارات الدولارات من قروض صندوق النقد الدولي، يتزامن بطبيعة الحال مع تذمر رجال الأعمال الغربيين الذين خدعوا بممثلي الزمر البيروقراطية على رأس الشركات. ولكنها تعطي أيضا فكرة عن حجم نهب البيروقراطية لروسيا.

وحسب دراسة للمجموعة الأوروبية المخصصة لروسيا، فإن هذا النهب ونتائجه على الاقتصاد جعل، " (إن روسيا) لاتزال بعيدة من اقتصاد السوق (وإن) اندماجها القريب بالسوق العالمية مستبعد جدا (حيث نلاحظ تكون) مجتمع يتضمن بعض الأغنياء الذين يكونون "طبقة عليا" ولكن ظهور طبقة وسطى وطبقة برجوازية بطيء للغاية. "

وكيف لها أن تنشأ حيث نلاحظ بأن الأموال التي يستولي عليها البيروقراطيين والأغنياء الجدد تتراكم في الغرب، وليس في روسيا، حتى أذا كان أصحابها من الروس ! إن الوصوليين المحليين، وبحكم مواقعهم يحذرون من نظامهم نفسه، ويفضلون إيداع ثمار سلبهم في الملاذات الضريبية أو في المصارف والشركات الغربية.

ومن خلالهم، فأن الغرب ينهب روسيا في نهاية المطاف. بالتأكيد، فأن رأس المال الكبير يكافئ بسخاء هؤلاء الناس الذين يقومون بدور المنفذ وهذا يسمح لهم بالعيش برخاء. فإذا كانوا ومن خلال توفير المليارات له، يعملون على الاغتناء الشخصي، فأنهم يعملون أيضا على دفع روسيا سريعا إلى هاوية التخلف.

إن الانهيار الكارثي للاقتصاد الروسي هو ثمن إثراء مليون من البيروقراطيين ورجال الأعمال المنبثقين من البيروقراطية. والنتيجة الطبيعية داخل هذا البلد، هو زيادة وحشية في عدم المساواة الاجتماعية للغالبية العظمى، وفي الخارج، ضعف كبير لروسيا أمام الإمبريالية.

موجتان من الخصخصة

أن برامج الخصخصة للسنوات 1992-1996 قد فككت اقتصاد الدولة وحولت غالبية المؤسسات إلى شركات مساهمة. ولكن وراء هذا التغيير القانوني، ماذا حدث في فعلا ؟

عندما أطلق يلتسين وغايدار أول عملية خصخصة، صفق القادة الغربيين بحرارة إلى ذلك. فسوف يتم إحياء الملكية الخاصة وسنرى نشوء طبقة من الرأسماليين ...

حسنا لقد لاحظنا ذلك. ولكن في الغرب، فالحماس لهذا الموضوع قد تبدد، فالكثير منهم لا يتردد في القول بان الخصخصة لم تسفر لا على إقامة اقتصاد السوق ولا على تكون برجوازية حقيقية في روسيا.

هل إن المليارديرـ المضارب الدولي جورج سوروس متخصصا في هذا المجال ؟ ففي كتاب مذكراته الذي سينشر والذي نشرته صحيفة روسية، قال : "إن الأولوية (...) كانت بتحويل الملكية من قبضة الدولة إلى القطاع الخاص. كانت (الحكومة) مقتنعة بأن الملاك الجدد سيبدؤون بالدفاع عن ملكيتهم وبالتالي فأنهم سيضعون حدا لإيقاف التفكك الاقتصادي للبلاد.

كانت النتيجة مختلفة تماما. أعطى نظام الخصخصة بالقسائم الضوء الأخضر لمصادرة ممتلكات تعود للدولة. سيطر مدراؤها على المؤسسات العامة عن طريق نهب حقوق العمال أو من خلال شراء أسهمهم بأسعار بخسة. واستمروا بالاستحواذ على أرباح هذه المؤسسات وغالبا ما كانوا يحولون ممتلكاتها إلى شركات مقرها في قبرص لعدم ثقتهم في ما يحدث في البلاد. تراكمت ثروات في يوم واحد (...).

بدأت أوليات نظام اقتصادي جديد بالظهور من هذه الفوضى. كان شكلا من أشكال الرأسمالية، ولكنه شكل خاص للغاية (...) وذلك قبل أن تتكون قوانين وآليات تنظيمية، كانت مشبعة بثقافة منتشرة بخرق القانون". يقول سوروس انه حاول "دفع بيريزوفسكي إلى التخلي عن فكرة رأسمالية اللصوص والأخذ بفكرة رأسمالية طبيعية". واعترف بأنه لم يفلح في ذلك.

"الملكية الافتراضية" والمافيات

لنترك سوروس مع دعواته التبشيرية للرأسمالية الزاعمة بالصدق، فمن الواضح بأن المشكلة لا تكمن في ذلك. إنها تنبع من أن البيروقراطيين، حتى مع سمات البرجوازيين، لا يستطيعون الانسلاخ من مجتمع روسي لا يعمل دائما وفقا لـقوانين اقتصاد السوق.

أن هذا بالتأكيد لا يحزن البيروقراطية حيث إنها تتأقلم مع الأوضاع. فبغياب اقتصاد السوق، فأنها تقتنع بما لديها، حيث أنها تستطيع عمليا الحصول على كل شيء وذلك بسرقته. إنها لا تبني شيئا وتدمر كل شيء من خلال رغبتها في الثراء، وبدرجة من الاندفاع توازي انعدام ثقتها بما يخفيه لها المستقبل، وهذا حتى على مستوى فردي.

احد البيروقراطيون أصبح رئيسا لمؤسسة معروفة جدا، وذلك لأنها تنتج الكلاشينكوف، صرح مؤخرا إلى النوفيل أوبزيرفاتور : "كوني وزيرا سابقا للطاقة و (رغم) علاقاتي على مستوى عال، (فأنا لا) أضمن أي شيء. (...) فاليوم كلاشينكوف تعود لي. ولكن غدا ؟ هنا، كل شيء افتراضي، بدءا من الملكية".

فبدلا من الرأسمالية، هناك قانون ألغابة، وهذه الحالة قد فتحت آفاقا مثيرة للاهتمام لأعضاء الكي جي بي السابق الذين لم يكن لديهم موقع وظيفي كبوتين. فمنهم من يعمل إضافة لعمله كقاتل أو من يستغل مواهبه كـ "مستشار" للعصابات والمافيات، كما اعترف بذلك قبل فترة قصيرة مسؤول رفيع المستوى في الـ كي جي بي.

وزير الداخلية الروسي قدر بالمليون عدد المشتغلين في شركات الحماية التي تلجأ لخدمات المشبوهين والمأجورين العاملين في ألـ كي جي بي أو في الجيش. انه قطاع مزدهر للغاية، إحدى القطاعات القليلة التي تحتاج إلى اليد العاملة. وكيف يكون الأمر خلاف ذلك عندما يكون القتل والابتزاز والاختلاس هو من الأمور السائدة لأبطال السوق الروسية التعساء، وحسب هذا الوزير فإن "500.000 شركة تسيطر عليها المافيا تعمل في غسيل الأموال وعلى تصدير رؤوس الأموال". ولكن المافيا غير مختلفة عن غيرها، فأي مؤسسة روسية لا تبحث عن غسيل الأموال وتصدير رؤوس الأموال ؟

هل هذه هي "الرأسمالية البدائية ؟" كان مسؤول مكتب الاستشارة ماكينزي لأوربا الشرقية يتساءل منذ أسابيع في صحيفة فرنسية، مصرحا : "ولكن على هذا الحال، فإن الاقتصاد الروسي سيحتاج لـ 2000 سنة قبل أن يصبح حقا رأسمالي".

روسيا خارج "القوانين الاقتصادية الاعتيادية":

إن ما يسمى انتقال روسيا إلى اقتصاد السوق، وفقا لأقوال أولئك الذين ينظرون لذلك مسبقا، لم يجلب إلا خراب اقتصادي وكارثة اجتماعية.

قيم ذلك نائب الرئيس السابق للبنك الدولي جوزيف ستيغليتز في يناير/ كانون ثاني : "نجحت روسيا من وضع القوانين الاقتصادية الاعتيادية رأسا على عقب. أن اصلاحات مثل الانتقال من اقتصاد مخطط مركزيا الى آلية لامركزية لتثبيت الأسعار ومن ملكية الدولة الى الملكية الخاصة والى التحفيز بدافع الربح، كان من المفروض أن يؤدي الى رفع الانتاج. فبدلا من ذلك، فإن الاقتصاد انكمش بنسبة اكثر من الثلث، وانهار مستوى المعيشة بانهيار الناتج المحلي الاجمالي الخ." ويضيف بأن نتيجة ذلك " لم تؤدي الى التحفيز لخلق السلع ولكن ذلك أدى الى نهب المؤسسات ونقل الثروة الى الخارج".

حصيلة مأساوية وذلك لأن البنك الدولي، كما هو حال المؤسسات الدولية البرجوازية الأخرى قد رعى هذا التحول وهو يتقاسم على الاقل مسؤولية مشتركة مع البيروقراطية في عواقبها. ولكنها ايضا كذبة تهدف الى اخفاء هذه المسؤولية، وذلك وخلافا لادعاء ستيغليتز فإن الخصخصة لا تستطيع ان تطور الاقتصاد.

نحن نعلم بذلك وعلى اي حال فإن تروتسكي قد أكد ذلك منذ عام 1936. فقد كتب في الثورة المغدورة بأن "سقوط الدكتاتورية البيروقراطية الحالية دون استبدالها بسلطة جديدة اشتراكية ستنذر بعودة النظام الرأسمالي مع انخفاض كارثي للاقتصاد وللثقافة".

إن هذا الانخفاض الكارثي واضح للعيان. وإذا كانت العودة المعلنة الى الرأسمالية لم تؤدي إلا الى نهب الاقتصاد، فذلك بطبيعة الحال ليس بسبب ان جميع البيروقراطيين أو أغلبية حاسمة منهم لم تأمل بالتحول الى رأسماليين وملاك لوسائل الانتاج او لجزء كبير لرأس المال. في هذه الحالة فان ما يجنونه اليوم خيرا مما قد يحصلوا عليه غدا، إنهم ينهبون كل ما بوسعهم. وليأتي الطوفان بعدهم...

الانهيار الاقتصادي

ان اقتصاد احدى القوى العالمية الكبرى قد تدهور خلال عقد واحد فقط.

فمنذ عام 1991، انخفض الناتج المحلي الروسي الى النصف. كان الاقتصاد الروسي قد صمم كي يعمل بطريقة متكاملة في اطار الاقتصاد المخطط وتجاهل الحدود بين الجمهوريات، وبهذا قد دمرت جزئيا الروابط بين المؤسسات من خلال تقطيع أوصال الاتحاد السوفيتي. ان هروب رؤوس الاموال قد استنزف مالية الدولة والمشاريع. وان فقدان السيولة النقدية للاقتصاد الذي تبع ذلك واضطرار العديد من المشاريع للجوء الى المقايضة من اجل الاستمرار في العمل، يوضح كثيرا التراجع المفروض من خلال محاولات تحويل الاقتصاد الى وجهة رأسمالية.

هل نجحت هذه المحاولات ؟ لقد ظهرت بعض عناصر اقتصاد السوق. على سبيل المثال فإن جزء من السلع الاستهلاكية يتم استيرادها، وهذا ادى الى تدمير اساس انتاجها المحلي. وبالتأكيد فان الجزء الاكبر لهذه السوق التجارية تخص المدن الكبرى، وفي المقام الاول شرائحها الاجتماعية المتنفذة.

ولكن عندما يتعلق الامر بوسائل الإنتاج فان الامور تتعقد.

ففي البلدان الغربية المتطورة، وكما نعلم، هناك اسواق حيث يمكن شراء حصص من المشاريع، على شكل اسهم. ويمكن شراء الاسهم في سوق الاوراق المالية (البورصة) من اجل الثراء قليلا، او كثيرا كما هو حال رينو الذي اكتسب 20% من رأس مال فولفو، وذلك من اجل السيطرة على مصدر جديد للربح الصناعي.

من الممكن عمل هذا هنا، وليس في روسيا، بالرغم من وجود بورصة، ذلك لان المدراء - المالكين لا يريدون لا البيع ولا الشراء، بل الاحتفاظ بمشاريعهم وحمايتها من رأس المال الغربي.

ان هذه اليبرالية المنتصرة التي يفرضها رأس المال الكبير على بقية العالم، لا وجود لها في روسيا، على الاقل الى الان. وهناك الكثير من الشركات الكبرى ــ لقد ذكرنا بعضها ــ قد جربت ذلك، فأما انها لم تستطيع شراء ما كانت تطمح إليه وأما انها دفعت ثمنه دون امتلاك ما اعتقدت اكتسابه.

لابد القول بأن الانتاج في روسيا لا يخضع لقواعد اقتصاد السوق. وذلك فمن اجل ان يسيطر السوق على كل شيء، وخصوصا على الإنتاج، يجب ان يكون هناك تقسيم عال للعمل. فالسوق الرأسمالية هي مجموعة من المؤسسات بهذا القدر او ذاك من التخصص حيث يستطيع الوكلاء الحصول على قطع الغيار المختلفة او على مكائن لإنتاج الادوات ولتي بدورها ستكون مفيدة لمكائن اخرى.

ان رؤوس الاموال تتنقل بين هذه المؤسسات تبعا للربح هاملة تلك التي لا توفر معدل متوسط الربح، وتغلقها ان اقتضى الامر كي تستثمر في اماكن اخرى. ان المعدل المتوسط للربح نفسه يتكون من خلال مجموعة من المؤشرات الجزئية لتأسيس ولغلق ثم لبيع وشراء المؤسسات.

أما الاتحاد السوفيتي فإنه قد تطورعلى اسس مختلفة، على اسس من التخطيط المركزي وليس كنتيجة لهذه المؤشرات العبثية لرأس المال. ورثت روسيا من الاتحاد السوفيتي المؤسسات العملاقة التي تجمع في كثيرا من الاحيان سلسلة كاملة من المنتجات لفرع معين من الصناعة وما يتطلب انتاجها. ان هذه الضخامة وهذا التركيز قد مكن التصنيع السريع للاتحاد السوفيتي. ولكن اي مستثمر اجنبي يستطيع بشكل مربح تشغيل صناعات عملاقة كهذه، هذا إن استطاع شرائها بمبلغ رمزي ؟

ان رأس المال الكبير بحاجة الى وحدات متخصصة للغاية، مع التأكد من انها ستجد ومن اجل العمل مشاريع مكملة اخرى دون ان تنفرط سلسلة التوريد والتصنيع. ان هذا يشكل العمود الفقري للسوق، وهذا بالضبط ماهو غير موجود في روسيا.

وهل سنجد ذلك يوما في روسيا ؟ ان كل ما نستطيع قوله هو ان ذلك سيعني ــ وهذا ما يؤكده الاقتصاديين الغربيين ــ الغاء العديد من المؤسسات والحكم على ملايين العمال بالبطالة. لكن البيروقراطيين لا يلجئون الى ذلك. فليست الشفقة هي السبب، لا بالطبع، ولكن عندما تستولي فئة من البيروقراطيون على مؤسسة كبيرة تؤمن لها سلطة اجتماعية في مدينة اوفي منطقة، فلا مصلحة لها في غلقها. وان شرح له حشد كبير من الاقتصاديين الغربيين بأن شركة كهذه ليست مربحة وفقا لمعايير السوق...

على هذا الأساس، فإن البيروقراطيين ـ المالكين يحصلون وبسهولة على دعم بيروقراطيي جهاز الدولة، وذلك لأن هؤلاء وبشكل فردي لهم في ذلك مصلحة مالية، وفي نفس الوقت أيضا وبشكل جماعي، فإن إغلاق المصانع يمثل خطرا اجتماعي على البيروقراطية.

اقتصاد الشطارة

اذن ماذا أصبح الاقتصاد الروسي حيث اختفى التخطيط وحيث تمت خصخصة 70% من الصناعة والتجارة ؟ وحتى كيف يستمر على العمل محروما من الهياكل المؤسسية التي كانت قد ادت الى ظهوره والى تطوره دون أن يتم استبداله بأي اطار آخر كالسوق؟ وهنا ايضا لايمكن أن يتجاهل الرد، مرة أخرى، الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي صاغ أكثر من سبعين عاما من وجود الاتحاد السوفيتي.

ان هذه المؤسسات تعمل، وعند المقدرة على ذلك، تبعا لطرق موروثة من الفترة السابقة، حيث استراتيجيات الاستمرار في البقاء على الحياة تفوق كل الاعتبارات الاخرى. وعندما لا يكون هناك مساعدات من السلطة المركزية ؟ فاللجوء الى المنطقة التي تخضع لها المؤسسة. وفي حالة وجود حواجز جمركية جديدة ان كانت داخلية أم لا، فإن الادارات تستمر في التعامل مع الموردين والزبائن السابقين. ذلك يتم بصعوبة اكثر من ذي قبل ولكن بفعالية تعود الى العلاقات الشخصية والفئوية والتي كونها هؤلاء المدراء في عهد بريجينيف على هامش التخطيط المركزي مع الممثلين المحليين للحياة الاقتصادية والسياسية للبيروقراطية السوفيتية. وبهذا فإن ما كان تكميليا قد اصبح اساسيا في اقتصاد يتسم بالشطارة المعمة.

نعلم ان انهيار الروبل خلال صيف 1998 قد عصف بالاقتصاد الروسي الجديد ــ الاستيراد والتصدير، تجارة المواد الفاخرة وخصوصا التمويل. وعرضيا فانه قد أزاح جزء مهما من البرجوازية الصغيرة للأعمال التي كان ينظر اليها كأرض خصبة لبرجوازية المستقبل.

ان ذلك قد عزز العقبة امام تأسيس السوق في روسيا، وذلك باضعاف الطبقة الاجتماعية التي كانت ستدفعه على التكوين. ولنلاحظ ذلك من جديد، فإنها اجراءات البيروقراطيين انفسهم التي تقف عائقا أمامهم، حتى عندما يصرحون برغبتهم بإعادة هيكلة الاقتصاد على منحى رأسمالي. وذلك فبالإضافة الى المضاربين الدوليين، فإن البيروقراطيين هم اول المستفيدين من تفريغ خزائن الدولة التي سببها هذا الانهيار المالي. لقد كانت له تداعيات على كل المجتمع وخصوصا على الجمهور الذي انخفض مستوى معيشته بمقدار الثلث. ومرة اخرى فان الاقتصاد التقليدي كان الاقل تأثرا. وهذا يعود لسبب بسيط : فالصناعة والزراعة تدير امورها بطريقة او بأخرى، وهذا ليس خيارا ولكنه بسبب تدهور النسيج الاقتصادي الناجم عن نهب البيروقراطيين والأغنياء الجدد.

اذا كانت هذه الازمة قد حفزت المجال الانتاجي (فبعد انهيار عام 1998 كان من الضروري محليا انتاج ما لم يعد ممكننا استيراده) فان هذا الاندفاع قد استند بشكل حصري على القطاعات الصناعية والزراعية التي نجت حتى هذه الفترة ببقائها في شبه اكتفاء ذاتي. اي اعتمادا على المؤسسات المؤممة والتي كان قسم كبير منها، تابعة للقطاع الخاص، والتي كانت السلطات المحلية قد حولت ملكيتها الى الاقاليم او البلديات.

الشركات ذات المسؤولية المحدودة جدا

في الصناعة، وكما ذكرنا، فان معظم المؤسسات قد تم خصخصتها. فخلف الاسم الرسمي شركة ذات مسؤولية محدودة، هناك واقع في غاية الغموض. ان هذا النقص في الشفافية الذي يلائم إستقطعات البيروقراطية هو احدى الطبائع القديمة العهد والتي لم تستطيع الخصخصة القضاء عليها بطبيعة الحال. ان عدم القدرة على معرفة المالك الفعلي لمشروع تجاري، بعيدا عن الشخص الذي يقدم على انه المدير او المساهم الاساسي، هو احدى المشاكل التي يواجهها باستمرار رجال الاعمال، وكما اشار الى ذلك تقرير حديث العهد لصندوق النقد الدولي بشأن الاستثمار في روسيا.

ينص قانون الخصخصة لعام 1992 بأن توزع الملكيات الصناعية والتجارية للدولة الى المساهمين في العمل بدء بالعامل والى المدير. وفي الواقع فان المدراء قد رتبوا الامور لشراء حصة بعض العمال، حيث الكثير منهم لم يكن يفهم شيئا في نظام قسائم الخصخصة او انهم لم يكونوا راغبين بأن يصبحوا مساهمين. ان شراء القسائم كان فرصة لصراع طاحن بين الفصائل المتخاصمة المتألقة حول المؤسسات. لقد استعمل المخطط نفسه في كل مكان : فان الادارة اعتمدت على روابط وعلاقات قديمة مع السلطات المحلية او الوزارية المشرفة من اجل الحفاظ على منطقة صناعية.

وبهذا كانت خصخصة 1992 ــ 1994 من حيث المبدأ وكما كانت تطبيقاتها، التعبير الاقتصادي لعملية التفكك السياسي للاتحاد السوفيتي. ان ملكية الدولة قد اتبعت نفس مسار الدولة : فبعد ان اصبحت مستقلة، بحكم القانون وبحكم الواقع، فان السلطات المحلية قد صادرت المؤسسات التي تقع في نطاق حدودها الادارية. جاء قانون الخصخصة لاحقا ليرسخ واقع ميزان القوى حيث الدولة لا تمتلك الوسائل لمواجهة توجه كهذا.

بيروقراطيين وملكية خاصة ودولة مبعثرة

ان الانتقال من شكل ملكية عامة الى ملكية خاصة لوسائل الانتاج لن يكون بطبية الحال محايدا اجتماعيا. انه يشارك في عملية تحول تفتح الطريق لتأسيس شركات يكون ملاكها اشخاص ذو مسؤولية اعتبارية محدودة او اشخاص عاديين. ولكن في المرحلة الحالية، ففي اغلب الاحوال وفي القطاعات المهمة للاقتصاد فان هذا لم يؤدي الى ظهور برجوازية رأسمالية ذات شأن مهم.

في الواقع، بقي هذا التغير القانوني شكليا الى حد كببر وذلك لان المحتوى الملموس لعلاقات البيروقراطية مع المؤسسات الصناعية استمر كما في السابق، ولكن المالك لم يعد الدولة، بل اجزاء هذه الدولة الواقعة في ايدي ممثلي الفئات المتخاصمة للبيروقراطيين. وغدا الصراع لأجل الامتيازات المرتبطة بالملكية تنافسا على السلطة، فالمشاركة في السلطة يرتبط دائما مع الوصول الى الامتيازات.

تبين ذلك خلال موجة الخصخصة لعام 1996. فمقابل دولة مركزية ضعيفة على نحو متزايد، تناحر ممثلي الفئات البيروقراطية وذلك للاستحواذ على اشلاء جديدة من ملكية الدولة وعلى حصص من الفريسة التي في حوزة منافسيهم. جرى خلاف ذلك فقط في المناطق الروسية (تتارستان و باسكورتوستان) او في الجمهوريات السوفيتية السابقة (بيلاروسيا و كازاخستان و تركمانستان) حيث هناك سلطة قوية او ديكتاتورية عرفت كيف توحد تحت قبضتها البيروقراطية المحلية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. انها ظاهرة توضح مدى عمق العلاقة بين الجوانب السياسية والاقتصادية في سلوك البيروقراطيين.

وبالتأكيد هناك ايضا جزء مهم من الاقتصاد يتملكه افراد من القطاع الخاص يظهرون نمط حياة مماثلة للرأسماليين هنا، وغالبا ما يفوقوه في المظاهر. ولكن بطريقة او بأخرى، فان هؤلاء الملاك يبقون غالبا خاضعين لسيطرة السلطة. وهكذا فقد أغلقت أو رحلت 700 مؤسسة خاصة في تتارستان بسبب عدم وجود ارضية مشتركة مع السلطة. أما في مناطق كيروف أو فولوغادا، فإن السلطات قد أجبرت المؤسسات الخاصة والعامة على ان توزع مجانا انتاجها الى زبائنها الصناعيين والى الجمهور. وهناك امثلة اخرى من هذا النوع، دون ان ننسى انواع اخرى من "السيطرة" من قبل السلطات وهي تفشي الفساد وابتزاز المؤسسات.

يتدرج هذا النوع من العلاقة بين السلطة والمؤسسات من الرعاية المفروضة الى هذا الحد او ذاك الى فرض الوصاية على كل الجهاز الاقتصادي المحلي من قبل محافظ او رئيس بلدية لمدينة كبيرة. وفي نهاية المطاف، وبطابعها الفئوي والإجرامي المنظم (المافيا) فان كل هذا ليس إلا تعبيرا عن الطابع الخاص للهيمنة وتحت مظهرا متجدد لازالت تفرضه البيروقراطية على المجتمع الذي تلا الحقبة البريجنيفية.

من الممكن رؤية ذلك بشكل افضل على مستوى الاثرياء جدا والملقبين من البيروقراطيين "بالقلة المسيطرة" (أوليغارك).فلم يستطع اي منهم الوصول الى المستوى المالي الذي يوصفون به دون حماية الفئات الاساسية للبيروقراطية ولقادتها السياسيين.

وهذا هو حال مجموعة ميناتيب التي أنشئت في أواخر الثمانينيات بناء على مبادرة من اعلى جهاز الكومسومول، الحركة الرسمية للشباب السوفيتي. أو مجموعة موست التي يديرها جوسينسكي تحت رعاية لوجكوف رئيس البلدية الذي يفرض حمايته على مؤسسات العاصمة. وكما نعلم، كان يلتسين عراب بيريزوفسكي. أما عراب بوتين فهو تشوبايس، رئيس أونكسيم، وكان مستشار ووزير سابق ليلتسين. اما بخصوص غايدار، مرافق سابق ليلتسين، فإنه السند الرسمي لألفابانك. وملوك ألمنيوم سيبريا، الاخوة تشرنوي، فانهم كانوا بحاجة الى الجنرال لوبد من أجل ابعاد حسادهم. لذا فأنهم أوصلوه بالانتخابات لرئاسة مقاطعة كراسنويارسك وهكذا حصل الجنرال لوبد من بين امور أخرى على لقب "حاكم الالمنيوم". ولا ننسى آفين، شخصية أقل شهرة والذي يعود الى بوتين فضل اختراقه الحديث حقل الاعمال التجارية والاستحواذ على حقل غاز كوفيكتا بدلا من بريتش بتروليوم آموكو.

البنوك الروسية ودورها

في الغرب عندما يقوم رأس المال الكبير بشراء وبيع او دمج ألمؤسسات فانه لا يتردد بتحطيم فرص العمل ووسائل الانتاج وحياة مناطق بأكملها. انه قانون الربح او بالأحرى قانون السوق كما يقولون...

في روسيا لم يتعلم البيروقراطيون من هذه العملية إلا طابعها الاكثر مضاربة ونهبا. فبالنسبة لهم ان ذلك يعني الحصول على الكثير من ألمال في اسرع ما يمكن وبكل الوسائل. هذه هي فائدة الـ 4000 بنك التجاري التي نشأت بين عامي 1990 و 1992 فكل فئة من البيروقراطية ارادت ان يكون لها وكالتها المالية الخاصة.

وهكذا فان أس بي أس وعن طريق البنك الشهير، بنك نيويورك، قام بغسيل 7 مليار دولار مختلسة من قبل المقربين من يلتسين، فالبنوك الروسية بطبيعة الحال ليست سوى محطات على طريق الحسابات في البنوك الخارجية (أوف شور) لكل ما تسرقه البيروقراطية في البلاد. كما انه يستخدمها في المضاربة ضد دولته ذاتها. وهكذا رأينا في عام 1997 ــ 1998 هذه البنوك تستنزف الدولة الروسية بإقراضها بمعدلات ربوية ما سرقته البيروقراطية منها، حينما كانت في مأزق، انها قد استدانت بمعدل 250% لثلاثة اشهر. استحوذت "جي كا أو" والبنوك على مبالغ هائلة بشرائها سندات الدولة هذه. ثم ودعتها مباشرة في "الملاذات الضريبية"، وذلك بالطبع لأنها لا تريد الاحتفاظ بشيء في روسيا. وعندما غدت الخزائن خاوية، فإنها اعلنت عدم قدرتها على التسديد حين جاء وقت تصفية الحسابات، وبهذا فان الروبل انهار في نهاية المطاف. وتركت المالية العامة مدمرة وفي بعض الاحيان كانت هناك ديون الى البنوك الغربية التي كانت قد أعارتها كي تضارب، لأنها هي ايضا كانت تريد الاستفادة من عمليات نهب الدولة الروسية.

إما البورصة وإما الحياة ) النسخة الروسية)

يعلم الجميع بأن هناك أيضا بورصة في موسكو. يمكننا أن نرى تناقضا مع ما قيل سابقا، فمن حيث المبدأ، فان البورصة تستخدم لبيع ولشراء الأسهم وبالتالي المؤسسات. ولكن الامر ليس كذلك في روسيا.

فكل المؤسسات تقريبا، بما في ذلك الشركات الخاصة، غائبة من بورصة موسكو. وتعتمد 90% من قيمة سوق البورصة على... عشرة مؤسسات، وخصوصا في قطاع الطاقة، حيث لاحظنا كيف انها تحمي نفسها من رأس المال الاجنبي. وأول هذه المؤسسات، هي المؤسسة العالمية جازبروم، المسجلة في روسيا. ولكن دخولها الجزئي في البورصة كان في وول ستريت، وهي تأخذ قروضا في نيويورك، وبالتأكيد ليس في موسكو حيث تغادرها رؤوس الاموال.

فى أول مارس/ اذار 2000 ،بلغ إجمالي نشاط السوق الروسي ما يعادل 76 مليون دولار متداولة يوميا. ثلاثة مرات أقل مما يتداول في بولندا، 25 مرة أقل مما عليه في الصين، ناهيك عن الدول الصناعية الكبرى. ولكن من سيعتقد أن القيمة الإجمالية لشركات روسيا الشاسعة ستكون أقل بثلاثة مرات من نظرائها في بولندا، في حين إن النسبة الفعلية هي على الارجح عكس ذلك ؟

في ألواقع خلف هذه النسبة الشاذة من سوق البورصة، فإن ما يظهر هو سلوك البيروقراطية الروسية : رفضها السماح لرأس المال الاجنبي وربما ايضا الروسي بالسيطرة على ما تعتبره على انه مؤسساتها، وأخيرا رفضها انشاء السوق.

دولة شبح وطيف سلطة قوية :

يتظاهر القادة الغربيون بأن بوتين سيحاول إخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية العميقة، بعد مغادرة يلتسين للحكم. وقد بدا بالفعل منبئا بتحول في سياسة الكرملين فيما يتعلق بالاقتصاد.

أظهر بوتين نفسه على انه عازم علي إعادة ترتيب أوضاع البلاد وخاصة الاقتصادية منها، ومحبذا لسياسة حمائية ولتدخل مطرد للدولة في القطاعات الحاسمة للسلطة ــ القطاع العسكري ـ الصناعي، البحث العلمي، قطاعي البترول والغاز وحتى القطاع المصرفي.

لم ينطوي المشروع ولا الكلمات المنوط بها تطبيق هذه السياسة على جديد يذكر. لقد أدرك كثير من القادة الروس منذ ستة أو سبعة سنوات أن إصلاحات يلتسين والتي لم تحقق الاستقرار المنشود دفعت نحو إضعاف الاقتصاد والدولة. وحاول هؤلاء القادة تطبيق هذه المعايير التي عزي مشروعها إلى بوتين دون نتيجة.

إن المسألة ليست مسألة نوايا، وإلا لاستطاعت روسيا منذ وقت طويل الاندماج في السوق العالمية باقتصاد يعمل حسب القواعد الرأسمالية. إن المشكلة متواجدة في مكان آخر : الدولة الروسية لاتزال عاجزة على مواجهة القوى التي تفتت المجتمع وبالتالي فهي عاجزة عن تعديل مجرى الأمور. هذه القوى هي المحصلة العمياء لنشاط هذا الحشد من البيروقراطيين المتاجرين والمنطلقين، كل لحسابه الشخصي، نحو سباق الثراء في حين أن هذا السباق يستنفذ كل إمكانية لتنمية لاحقة وذلك بتجفيفه للمصادر التي من شأنها إرواء اقتصاد السوق.

هل بمقدور تدخل ضخم من قبل رأس المال العالمي الكبير أن يعوض عن ذلك ؟ نلاحظ أن الوضع لا يشجعها على ذلك، هذا ان كانت لديه النية والإمكانات أصلا. ذلك لان الامبريالية وكما أكد تروتسكي ذلك منذ أكثر من ستين عاما لم يعد لديها لا الطاقة ولا عقلية الغزو ) أو إعادة الغزو في الحالة الراهنة ( التي كانت تتميز بها في القرن التاسع عشر. وعليه فإن الدولة الروسية عليها أن تتعامل دون إمكانات ودون سلطة حقيقة مع وضع لا يكمن إدارته.

ان تدخله في مجالات تعد ذات اهمية قصوى كالأمن العسكري لا يثبت العكس. فإذا كانت تؤمن الحد الأدنى، وفي الشيشان الحد الأقصى، فإنه لا يستطيع ذلك إلا بتعبئة كافة إمكاناته. ولأن التوقف العالمي المؤقت لتسديد الديون الذي لاحظ انهيار موارده المالية أعفى روسيا في عام 1999 من دفع أي شيء للدائنين في حين ادت زيادة سعر النفط الى ثلاثة أضعافه بتعزيز خزينته إلى حد ما.

ما الذي سيبقى من كل ذلك بعد شهور عدة من حرب أتاحت كسابقتها لجمع من الطفيليين عسكريين ومدنيين بملئ جيوبهم ؟ إن التخمين سهل يسير. في الواقع كل شيء يشير إلى أن بوتين لا يملك الإمكانات لا المالية ولا السياسية خاصة لإعادة الصواب إلى كبار البيروقراطيين وإلى حشد البيروقراطيين المتاجرين وإلى أثرياء النظام الجدد.

ولكن بما أن رجلا من الكي جي بي انتخب رئيسا فإننا نسمع من جديد نفس الكلام المكرر الذي يتردد في روسيا منذ عشرة أعوام : فالبعض يقول بضرورة وجود يد حديدية في السلطة وآخرون يرون خطر الدكتاتورية.

من البديهي أن الجميع أدرك أن بوتين شغوف بأسلوب القوة. لكنه وبعيدا عن الرتبة العسكرية للكولونيل بوتين فإننا لا نميز بوضوح ما يمكن أن يكون لديه من إمكانات لإقامة ديكتاتورية. وعى العكس من ذلك فإننا نرى جيدا ان مصلحة البيروقراطية في مجموعها تكمن في أن لا تتركه يفعل ذلك.

على الرغم من ان يلتسين قد حصل على تصويت في أواخر عام 1993 لصالح دستور يعطيه كامل الصلاحيات فانه كان يعاني من ضعف متزايد في السلطة أكثر من معاناته من الكحول وهذا لغاية تنازله عنها. ذلك لان اصحاب الامتيازات في النظام يعلمون جيدا بأن تقوية السلطة المركزية لن يحدث إلا على حساب أولئك الذين يستغلون ضعفها لإثراء أنفسهم.

وعلاوة على ذلك شهدنا في العام الماضي، رئيس الوزراء بريماكوف (الذي كان قد قاد الكي جي بي والذي وصفه البعض بالرجل القوي) ينهزم عند هذا الحاجز. كان قد أطلق " لتطهير الاقتصاد من الجرائم"، معلنا بأن "أجزاء من السجون ومعسكرات الاعتقال)ستكون ( مخصصة لاستقبال مرتكبي الجرائم الاقتصادية". ورأى مقربين من يلتسين بأنهم مستهدفين بقدر ما كان بريماكوف يتطلع للإحلال مكانه. ولذا فقد تخلصوا منه بسرعة.

تحول الدولة الى اقطاعيات وتفككها

ان ميزان القوى ليس في صالح بوتين كما هو الحال بالامس لبيرماكوف. وفيما يتعلق بالعلاقات مع القادة الاقليميين للبيروقراطية فان موقف بوتين الذي يجسد الآن السلطة المركزية قد بدى أكثر ضعفا.

منذ سنوات وقادة المناطق يتصرفون كما يحلو لهم. فإن الحكام ورؤساء الجمهوريات يقومون بفرض الضرائب ويرفضون تسديد حصة المركز. وهم يتعاملون مباشرة مع الخارج. فهناك ثلاثة من 89 منطقة روسية تتمتع بالولاية القضائية الخارجية عمليا، محتمية بشرعية معترف بها كمنطقة حرة. والغالبية لا يكترثون لهذا الإطار كي يتصرفوا بنفس الطريقة.

لايزال الكرملين يترنح بعد الانهيار الاقتصادي عام 1998، فالمناطق وحدها حاولت احتواء العواقب : وبهذا ازداد ثقل حكامها. ان ذلك قد عزز توجهات المناطق لتقوية نفسها وميولها لإقامة روابط فيما بينها على حساب سلطة مركزية خارج اللعبة. اما بخصوص الشركات الغربية، فإنها تغذي هذه التوجهات على الاقل بإهمالها المركز عندما تفاوض مباشرة مع السلطات المحلية وفقا لقواعد تفرضها هي نفسها.

ان هذه الظاهرة لاتخص الاقتصاد فقط. فتتارستان لديها مفوضية خاصة بها في 15 دولة أجنبية وهناك ما يقارب عشرة جمهوريات روسية تحذو حذوها عن كثب و 55 منطقة روسية تقيم علاقات مباشرة مع بلوروسيا. في عام 1998 قامت سبعة جمهوريات روسية بعقد معاهدات مع تركيا والجمهورية التركية لقبرص في انتهاك صريح للدستور الاتحادي وللسياسة الخارجية للكرملين دون ان يتمكن هذا الاخير من القيام بأي شيء.

ان ماشهدناه عام 1999 وانبثاق كتل انتخابية يقودها رؤساء المقاطعات كان تعبيرا للإقطاع في البلاد بقيادة القوى المحلية للبيروقراطية. فما هو برنامجهم ؟ مقايضة دعمهم الانتخابي للكرملين مقابل الاعتراف بشبه ــ استقلال "لمكونات الاتحاد الروسي" هذه السيئة الصيت.

وبالطبع فلكبح جماح هذا التوجه، لاغنى عن سلطة قوية. فبينما تغرق روسيا في الفوضى والتشرد ألاقتصادي وتتحلل الدولة في القمة وتتفسخ في مكانها في المناطق المتروكة لجشع كبار اللصوص فإن السؤال ليس هو ما اذا كانت هناك حاجة ليد من حديد لوقف هذه الدوامة، بل لأي طبقة تنتمي، ولمصلحة أي كتلة في المجتمع وضد أي كتلة اخرى تنشط.

شعب منهوب

ان الغالبية الساحقة من الشعب هي الخاسر الاكبر لكل ماحدث في روسيا على مدى السنوات العشرة الماضية. إن من يسمون بالديمقراطيين وغيرهم من الناطقين باسم بيروقراطية متعجلة لترتدي لباس البرجوازي قد وعدت الشعب بالعجائب والغرائب، بالديمقراطية والازدهار.

هكذا اذن، لاغرائب ولاغنى على الاقل فيما يخص الشعب. فبالنسبة له، لايشبه ذلك اسطورة "الدورادو) "أرض الذهب ( بل انه بلد غارق في البؤس، بسبب النهب الامبريالي وإضافة الى ذلك، فليس هناك الكثير من الاستثمارات الغربية.

نهاية للإرهاب والعمل بالديمقراطية ؟ انها مهزلة تعيسة في بلد حيث الكي جي بي يتوج للرئاسة وحيث النخبة تسيطر على وسائل الإعلام ناهيك عن ما يحدث في الشيشان او عالم الارهاب الذي تخلقه المافيا في كل مكان.

الازدهار في روسيا ؟ لنتكلم عن ذلك ! انها الرواتب التي لم تدفع منذ أشهر حيث القوة الشرائية تواصل هبطوها، رواتب تقاعدية تافهة تقوض حياة المتقاعدين، مؤسسات لم تعد تعمل، أو احيانا فقط، والخدمات العامة مهمولة من قبل دولة عاجزة على الدفع، مدارس او مدرسين يطلبون من اباء فقراء مثلهم بإطعامهم، معالجة طبية لاتزال مجانية، ولكن عندما لاتكون هناك وسيلة للعلاج في القطاع الخاص، فيجب جلب الادوية والطعام قبل دخول المستشفى، 40.000 طفل تخلي عنهم ويعيشون في الشارع في سان بطرسبورغ، الوفيات ارتفعت وانخفاض في عدد السكان بثلاثة مليون في ثمانية اعوام، على الرغم من تدفق الروس من الجمهوريات السوفيتية السابقة، وانتشار للعصابات في الحياة العامة، تسول وبغاء واضح في كل مكان، كل هذا متزايد مع افقار الشعب حيث ان نصفه يعيش تحت الحد الادنى للكفاف الرسمي...

ان قائمة طويلة تذكر الشعب ويوميا بما فقده بانتهاء الاتحاد السوفيتي. ولكن ذلك لا يمنع الوصوليين الروس من لومه على "الحنين الى الشيوعية". وكذلك فإن ذلك لم يمنع المعلقين وبشيء من عدم الحياء بالتفاجئ أو كما هو حال النوفيل اوبزرفاتير، بروئية تأثير "مقاومة التقاليد )بوجه ( هجمات الحداثة". وخصوصا لا تحاولوا الفهم، تحذر المجلة في بداية الصفحات الستين التي كرستها لروسيا : فعلى حد قولها، "فإن الروح الروسية تهرب)منكم ( دائما"...

فمن جانب "الحداثة"، فإن الروس أحرار في السفر الى الخارج ! أما من ناحية "الروح السلافية" فلسوء حظهم فإنهم قد لاحظوا بأنهم لا يملكون الوسيلة لبلوغ ذلك. انهم يتذكرون بحنين العهد القريب حيث كان بإمكانهم السفر داخل البلاد وهذا اصبح ترفا بسبب اسعار القطارات ــ دون الحديث عن الرحلات الجوية التي تعتبر ضرورية في هذا البلد الشاسع.

أما المنتجات الغربية التي كانت ترى في السينما والتي كان يحلم بها، فهي الان في المتجر. ولكن لا أحد يستطيع أن يدفع ثمنها، إلا تلك السيئة النوعية أو المغشوشة حيث يصرفها الغرب في روسيا.

في موسكو تبدو الحالة أقل صعوبة، حيث ان سكانها يستفيدون قليلا من بعض فوائد وجود الشركات الاجنبية أو من الفتات المتساقط من طاولة الاغنياء الحديثي العهد. ففي مقابل الكرملين، فأن الـ "جي أو يو أم" الذي كان سابقا معرضا تجاري شعبي، فأنه يؤوي الان محلات الترف كما هو حال جاره المجمع التجاري الجديد الزاهي لـ "مانج". ولكن حتى في العاصمة حيث غالبا ما تدفع الاجور وتكون أعلى منها من باقي البلاد، فأن الاغنياء وحدهم يشترون من هذه الاماكن أو من "ايكيا" الشاسع الذي افتتح حديثا. اما الاغنياء جدا فإنهم يقومون بالتسوق من الولايات المتحدة او من انجلترا او من فرنسا.

في المقاطعات، حيث يعيش الغالبية من الروس، فلا نجد هناك أي تأثير للسوق في واجهات محلات لا يصلها الجمهور. ان المدن والمحلات تبدو غير متغيرة، غير انها تدهورت منذ عشرة سنوات، وكما هو حال الشعب. وإذا لم تكن قد غاصت بعد في البؤس في حين ان الاجور الحقيقية قد انخفضت بنسبة 30% في عام 1999 وأعلن عن انها ستفقد ايضا 20% هذه السنة، فذلك لأن المؤسسات لاتزال توفر شبكة ضمان اجتماعي ادنى.

فحتى اثناء البطالة التقنية، فإن العمال يأتون لتناول الطعام في المقاصف مقابل سعر ضئيل. وكما انها توفر سكنا رخيصا، ومراكز ترفيهية للأطفال وعطل للعاملين، وفي بعض الاحيان الدخول الى عيادة المستشفيات المتخصصة.

الطبقة العاملة الروسية اليوم :

أما بخصوص تصفية هذه المصانع، فإن السلطات قد تحققت من ان هذا العمل قد يسبب ردود فعل تتجاوز بكثير نطاق المؤسسة المعنية. ففي مناطق المناجم حيث هناك تهديد بإغلاق الآبار، التحق في كثير من الاحيان المدرسين والعاملين في المستشفيات وفي المراكز الكهربائية، الذين هم بدورهم لم يتلقوا أجورا منذ شهور، بعمال المناجم اللذين كانوا قد قطعوا الطرق والسكك الحديد. أظهرت السلطات حسن النية، ففي بعض الاحيان وعدت بعدم غلق المناجم، وفي أحيان اخرى بدفع متأخرات الأجور، علما بأن المضربين والمتظاهرين كانوا قد حصلوا على دعم من الجمهور ــ وفي بعض الاحيان على دعم السلطات المحلية حيث ستكون في الخطوط الامامية في حال انفجار الغضب الذي سيكون عنيفا ويائسا.

كان بوتين قد هدد بالسجن المضربين اللذين يقطعون طرق المواصلات. ولكنه لم يفعل شيئا برغم اندلاع صراعات اجتماعية في بعض المناطق ورغم جو الاتحاد المقدس الذي حاول النظام فرضه اثناء الحرب في الشيشان.

فالطبقة العاملة لا يمكن ان لا تتحرك عندما ترى ان مصيرها يزداد سوء بشكل كبير! انها تقوم بذلك غالبا عندما تجبر على ذلك لمجرد البقاء على الحياة ومن اجل استيفاء الاجور غير المدفوعة.

وفي حالات استثنائية فقد شهدنا ايضا العمال يعارضون التلاعب الذي تسمح به الخصخصة مثل بيع المؤسسات. في بعض الاحيان قام العمال بطرد الادارة واحتلال المصنع وتشغيله لصالحهم. أن ما وصفته صحيفة موسكوية في فبراير/شباط بـ "حرب استعادة المؤسسات" قد ادى في بعض الاحيان الى معارك ضارية بين المضربين وبمساعدة من السكان القريبين وبين فتوة الادارة المدعومة احيانا من قبل شرطة مكافحة الشغب. ولكن عندما تتحدث الصحافة عن حرب، فانها في المقام الاول في اطار الصراع الدائر حول المؤسسات التي تخوضه السلطات والادارات السابقة ومرشحين للاستحواذ عليها. ان هؤلاء المعنيين يتنافسون على الارض من خلال عصابات للمافيا وأمام القضاء، حيث يبرز كل منهم سندات للملكية مناقضة وكل هذه السندات صحيحة لأنها مصدقة من قبل السلطات التي تدعم كل منها احد المتنافسين.

في كثير من الأحيان تكون الادارة قد رتبت الامور من اجل افلاس المؤسسة وذلك لبيعها بأرخص الأسعار مقابل تعويضات مهمة لها ويكون خيارها لمن يدفع لها أكثر. وبالضرورة فإن ذلك يعود بالضرر على البيروقراطيين الذين ينظرون الى فريسة تفلت مخالبهم. ان هذا يفسر لنا سبب تحذير بعض المسؤولين أنفسهم للعمال عن ما يدور والتي تؤدي الى احتلال المؤسسات. وفي بعض الحالات يستمر الاحتلال لأكثر من سنة.

ملاك دون شرعية معترف بها

هناك عامل أساسي ألا وهو ان اغلبية الجمهور لايعترف بأي شرعية للملاك الرسميين ويعتبرهم لصوصا. وان كان هؤلاء قد اشتروا شرعيا أم لا غالبية الاسهم فإن ذلك لايغير شيئأ : إن ثرواتهم وبدون شك هي نتيجة النهب والنشاط الاجرامي. لم ينسى احد بأن المؤسسة نفسها، المنشأة بأموال الدولة وبعرق العمال كانت تعمل بدون أرباب عمل ولوقت قريب.

فالنتيجة الغير متوقعة لأول وهلة هي ان صراعات الفئات حول الخصخصة هي التي تعيد انبعاث هذا الصدى الاشتراكي البعيد في الوضع الحالي كعائق اضافي ضد استقرار علاقات الملكية حيث ان قوانين الخصخصة تفترض ضمانها.

في هذه الصراعات، لن نفاجأ بدعم السلطات المحلية وقطاعات من البيروقراطية المركزية للعمال، اما بسبب ان اعادة بيع المؤسسة يخصهم بشكل مباشر، وأما لأنهم لا يريدون ان يسيطر المستثمرين الاجانب عليها. بالطبع ان وجود "مؤسسات الشعب" هذه وكما يطلق عليها لم يكن بسبب ارادة العمال فقط ولكن على الاقل بموافقة ضمنية لأقسام مهمة من السلطة القضائية والبنكية أو السياسية للبيروقراطية. وعندما يتدخل بعض هذه القطاعات بنشاط الى جانب "مؤسسات الشعب"، فإن هناك شيئا مؤكدا ــ فبعض المضربين قد لاحظ ذلك لسوء الحظ ــ ، فذلك لأسباب خاصة بالبيروقراطية والتي عاجلا ام آجلا ستنقلب ضد العمال.

القوة الوحيدة للثوريين

على الرغم من انهيار الانتاج فإن الطبقة العاملة لاتزال تضم عشرات الملايين من العمال. فإنها تمثل قوة اجتماعية كامنة هائلة حيث تستطيع، وفي كل الاحوال لها مصلحة على انهاء هذه الفوضى التي دفعت البيروقراطية اليها بكل المجتمع. انها القوة الاجتماعية الوحيدة القادرة على تنفيذ هذا العمل للخلاص العام ومن اجل ان تدخل في الصراع شرائح اجتماعية اوسع متأثرة من عمليات السلب والنهب التي يقوم بها الاثرياء الجدد والبيروقراطية.

في روسيا كما في بقية بلدان العالم، فإن الطبقة العاملة لا تطرح المسألة من حيث اعادة تنظيم وإدارة المجتمع. وبشكل اساسي في روسيا ولنفس الاسباب في مناطق اخرى : لا يوجد هناك أي حزب يدافع في داخله عن برنامج كهذا. في روسيا، ان أولئك الذين يدعون لإقامة نظام قوي، ان تجمعوا حول بوتين او كانوا في المعارضة، فانهم بالتأكيد وفي كل الاحوال لن يفعلوا ذلك بإسم المصالح السياسية والاجتماعية للطبقة العاملة.

ولكن يجب عدم نسيان ان الطبقة العاملة الروسية لازالت تعاني من ردود فعل عشرات السنين من الدكتاتورية. ففي البداية كان ذلك على شكل خرق للتواصل الحي والنضالي والتقاليد النضالية والتنظيم والسياسة العمالية. وحتى بعد فترة طويلة من انتهاء الستالينية بحد ذاتها، فإن النظام استمر وبطرق بوليسية بتحريم أي شكل من أشكال التنظيم المستقل للبروليتاريا للدفاع عن حقوقها الاساسية. إضافة الى ان الطبقة العاملة خارج حدود الاتحاد السوفيتي ـ ومنذ الثلاثينات ـ لم تقود وتحت رايتها صراع مهم منتصر كان من الممكن ان يكون مثالا مشجعا لعمال الاتحاد السوفيتي.

في هذا السياق الدولي من تراجع الحركة العمالية كان على البروليتاريا السوفيتية الدفاع عن نفسها بأفضل ما يمكن. ولم يكن باستطاعتها ذلك ابان الحقبة الستالينية حيث كان الوصول المتأخر الى المصنع يعد تخريبا ومن الممكن ان يوصل الى المعتقلات وكان كل تحد للنظام وحتى على المستوى الشخصي يقمع منهجيا.

في بداية الستينيات، عندما بدأت تخف قبضة الدكتاتورية، اندلعت اضرابات وخصوصا في أربع عشر من المدن الكبرى، في نوفو تشركاساك، في أبريل/ نيسان 1962 أخذت الاحداث منحى متفجرا. تظاهر بأعداد غفيرة عمال أكبر مصنع للمدينة، بعد انخفاض للأجور ومضاعفة أسعار بعض السلع. أطلق الجيش النار: قدر عدد القتلى بـ 700 بالرغم من ان السلطات لم تعترف "إلا" بـ 85 قتيلا. أرسلت هيئة الرئاسة اثنين من أعضائها من أجل قيادة القمع : أصدرت المحاكم عقوبات بالإعدام وبالإبعاد. ولكن لم يظهر أي شيء في الصحافة وذلك لان النظام لا يستطيع الكشف عن الطريقة التي عامل بها العمال اللذين كانوا يدافعون عن كرامتهم وعن حقوقهم ضده.

ان هذا النظام كان يدعي دائما تجسيد سلطة الطبقة العاملة. لم يتطلب الامر أكثر من ذلك كي يقوم جزء من البرجوازية الصغيرة الشبه ـ ديمقراطية بتشبيه الطبقة العاملة بالنظام الذي تبغضه. وهذا كان منطق الدكتاتورية حيث كان النظام يسعى لفرض منطقه في كافة الميادين، بما فيها الادب والفن والعلوم التي كان يسيطر عليها كل من جدانوف وميتشورين وأقرانهم.

كان قسم من البرجوازية الصغيرة المثقفة وعلى الاقل تلك التي لم تتنكر لنفسها بتحولها الى مساعد للشرطة الفكرية، لم تعد تحتمل ان النظام، وخصوصا ما بعد الانفتاح الخروشوفي، يقرر ما بإمكانها القول والقراءة ـ وخصوصا عدم القراءة. إزدهرت الساميزدات (حرفيا ما هو ذاتي النشر دون اي رقابة حكومية) لدى المعارضين أبان حكم بريجينيف.

ومهما كانت الشجاعة الشخصية للمعارضين في مواجهة أندروبوف، رئيس الـ كي جي بي والذي كان بوتين تحت إمرته، فإن المعارضين كانوا يضمرون "ازدراء" عميقا للطبقة العاملة السوفيتية. لم يخفى عليهم بأن إضرابات في مناسبات عدة كانت قد حدثت على الرغم من القمع الوحشي أثناء حكم خروشوف ثم بريجينيف، وكانت في بعض الاحيان ذات طابع تمردي. ولكن المعارضة التي كانت غالبيتها الساحقة تنظر صوب الغرب وطابع حياته اقتبست الاحكام المسبقة الطبقية السائدة في المجتمع الرأسمالي. خاصة وان البرجوازية الصغيرة وأجزاء واسعة من البيروقراطية كانت تسعى على نحو متزايد لتثبيت امتيازاتها ومستوى حياتها على حساب الاستغلال الفعلي والمعلن للطبقة العاملة.

برجوازية صغيرة "ديمقراطية" وطبقة عاملة

إن هذا الموقف للبرجوازية الصغيرة السوفيتية وخصوصا موقف الانتليجنسيا، كان له ثقل مؤثر في النصف الثاني لسنوات الثمانينيات. وبسماح "الجلاسنوست" (الشفافية) الغرباتشوفية له بالتعبير دون قيود، فإن البرجوازية الصغيرة لم تحرم القادة الذين ارتأت بأنهم يسيرون في منحاها من الدعم. وغدت صوتا مسموعا لهم لدى الرأي العام وفي وسائل الاعلام والتجمعات والمظاهرات العديدة التي اقيمت في حينها.

شهدت هذه الفترة ظهورا للطبقة العملة في الاضرابات الكبرى لعمال المناجم عام 1990. جاءت الدعوة للتحرك لاعتبارات ديمقراطية عريضة لا تشكل أي تهديد كان للنظام وخصوصا كي لا يكون للطبقة العاملة أية مصلحة لها في ذلك.

شاركت الطبقة العاملة دون شك أوهام البرجوازية الصغيرة بخصوص الديمقراطية التي كان يعد بها يلتسين. ولكن بعيدا عن مساعدة العمال في توضيح الأمور، فإن الديمقراطيين المزعومين قاموا بفعل كل شيء لإقناعهم بدعم معسكر البيروقراطيين الذين كان يلتسين يجسدهم. وكان ذلك باسم اصلاحات مزعومة لأجل انعاش السوق، كانت قد قدمت على انها تعني المزيد من الحرية وتحسينا لمستوى معيشة الجماهير.

في هذه الفترة حيث الطبقة العاملة لم تكن فيها بعد منهكة بالأزمة وبانتهاء الاتحاد السوفيتي وبانهيار مستوى حياتها، لم تكن هناك أية منظمة وعمليا لا احد للدفاع أمام الطبقة العاملة عن توجه اخر من شأنه التطابق مع مصالحها الطبقية. ولم يحاول اي تنظيم أن يبين لها كيفية الاستفادة من فترة الغليان العام هذه للدفاع عن سياستها الخاصة امام المجتمع بأسره.

في تلك الفترة المصيرية، كان تدخل واع للطبقة العاملة فقط من شأنه إنقاذ الاتحاد السوفيتي من سعيه الحثيث للتفكك الذي كانت البيروقراطية تقوده اليه بدعم نشيط من البرجوازية الصغيرة.

لم يحدث ذلك، ولكنها كانت السياسة الوحيدة التي كان على النشطاء الشيوعيين الحقيقيين محاولة دعمها. وعلى كل حال، لم تكن هناك، كما كان الحال لتروتسكي في حينه، أي قوة اجتماعية أخرى غير الطبقة العاملة لبناء توجه مهما كان متواضعا، نظرا للضعف الشديد للحركة الثورية ـ في الاتحاد السوفيتي في الثمانينيات وكما هو الحال الان في روسيا، وكذلك في بقية انحاء العالم .

الضمان الوحيد للمستقبل

ان هذا البرنامج وهذه السياسة كان من شأنها تحديد هدف للطبقة العاملة ألا وهو النضال من أجل تخليص المجتمع السوفيتي من المتطفلين لمنعهم من نهب الملكية المؤممة والرجوع الى التخطيط بكل معناه وبحزم وذلك بدعوة المنتجين والمستهلكين اثناء تعبئتهم باستخدام رقابة مؤسسات طبقية عبر مجالس لا مكان فيها لممثلي البيروقراطية وبالتأكيد لممثلي البرجوازية الصاعدة من جديد مع الحرص بعدم الانسياق والانخداع بهذا النفر من المثقفين الذي كان يهلل لاقتصاد السوق تحت غطاء الحرية.

نلاحظ بأن ذلك لم يحدث. فقد تفكك الاتحاد السوفيتي وألغيت الملكية العامة الى حد كبير واختفى التخطيط في حين ان البلاد راحت تنغمر في حالة من الفوضى وراح الجمهور يزداد فقرا. ولكن هذا التوجه الذي تكلمنا عن خطوطه العريضة بإختصار يبقى الوحيد صالحا، وان كان التخطيط والملكية الجماعية لوسائل الانتاج تستوجب البناء من جديد.

ذلك لان الطبقة العاملة السوفيتية السابقة، وعلى الرغم من شقائها، لاتزال تتمتع بمهلة وذلك لان البيروقراطية بتدميرها كل شيء فإنها تحطم أيضا الأسس التي من شأنها ان تسمح لبرجوازية حقيقية بالنشوء في المجتمع. في غياب هذه العملية وغياب العديد من روابط الاعتماد على هذه البرجوازية داخل المجتمع على أساس الملكية الخاصة، فإن المهام التي لاتزال مطروحة على الطبقة العاملة لن تكون بتلك الصعوبة، على الأقل هذا المنظار كما هو الحال في المجتمع الرأسمالي الذي تهيمن عليه برجوازية كبيرة العدد والعدة.

خلال تاريخ الحركة العمالية للقرنين الماضيين، فإننا نعلم بان الامم قد تعاقبت على المهمة. ففي البدء كان دور فرنسا وبريطانيا العظمى وجاء دور ألمانيا بعد ذلك ثم روسيا، وقد اجتازت شعلة الثورة شوطا طويلا مرورا بشتى الأحداث. لقد قدمت الثورة الروسية الكثير الى الثوريين والى الطبقة العاملة في العالم اجمع وفي الغرب بشكل خاص، ولم يكن ذلك في حينها فقط.

فمن العدل اليوم القيام بهذا الواجب اتجاه الطبقة العاملة الروسية. ولكن ولسوء الحظ فإننا غير قادرين على ذلك. ولمحاكاة قول لينين، فإننا لا نعلم في اي مكان ستنطلق من جديد الشرارة التي ستوقد نار الثورة العالمية البروليتارية - سيكون ذلك من هنا، ام من هناك ؟

وفي المقابل، فان مانحن متأكدين منه هو ان طريقة عمل الرأسمالية العالمية بحد ذاته هو الذي سوف يؤدي في نهاية المطاف وفي كل مكان من العالم الى ظهور أولئك الذين سيقبرون هذا المجتمع الذي أدى لويلات الاستعمار، ويلات الحربين العالميتين في قرن واحد، والفاشية والمحرقة والمجازر في مواجهة إنهاء الاستعمار، هذا المجتمع الذي أدى لظهور العنصرية في كل مكان من ألمانيا والولايات المتحدة.

ولا يمكن إلقاء اللوم على ثوار أكتوبر بأنهم حاولوا ذلك بالرغم فشلهم، بل على العكس.

علنا نستطيع العمل على الأقل مثلهم.

ملحق

القانون الخاص والواقع البيروقراطي :مثال الزراعة السوفيتية السابقة

خلف طابع إقتصاد مخصخص، فإن الواقع يختلف كثيرا عن مايوحي اليه الوضع القانوني للمؤسسات. وذلك لان هذا التغير القانوني حدث في مجتمع حيث الفئة الاجتماعية المسيطرة كانت تتصور ان الخصخصة ماهي إلا وسيلة للثراء وليس من اجل ان يتحول ويعمل الاقتصاد وفقا لتلك الأسس، وهذا خلافا للعقيدة الرسمية.

فعلى سبيل المثال يمكن قياس الفارق بين القانون وطريقة تطبيقه ام لا حيث الارض لاتزال غير مخصخصة بالرغم من البدء بإصلاحات في هذا الاتجاه منذ عام 1995.

أراد يلتسين احياء الزراعة في القطاع الخاص في نفس الوقت الذي كان يوزع فيه المساكن وقطع الأراضي لكل جمهور المدن تقريبا. وبعيدا عن عرض الموضوع - فبتحول الجميع الى مالكين، ستعم عقلية المالك في كل المجتمع وستسهل الانتقال الى اقتصاد السوق - فألامر يعني تذليل الصعوبات الجديدة للتموين. ولمواجهة تخبط الانتاج والتوزيع، فقد دعي الجمهور بتدبير أمره ! فلكي يأكل بشكل متوازن وبأقل كلفة، فما عليه إلا ان يزرع حديقته...

فباستثناء قطع الارض هذه التي لا توفر إلا تكملة غذائية هزيلة، ماذا عن باقي الأمر ؟ إليكم ما ذكرته في مارس/ آذار 2000 صحيفة من سان بطرسبورغ : ماهو القاسم المشترك بين الحدائق الصغيرة المزروعة بالبطاطة والمزارع المنتجة للحليب (لـ) روسيا الوسطى (...) والسهوب المقفرة التي تجتاحها رياح سيبريا ؟ فالحكومة تملكها.(...) ان روسيا تملك من الاراضي ما لا يملكه اي بلد في العالم، ان الدولة تملكها كلها عمليا (و) ولا تزال معظم الـ 150 هكتار من الاراضي الزراعية مستغلة بصورة جماعية) و( وليس هناك إلا 6%من الاراضي الوطنية بيد القطاع الخاص (...) ومن الناحية الفنية فإن شراء وبيع الاراضي غدا شرعيا بفضل المراسيم التي وقعها يلتسين الرئيس السابق. ولكن ) نحن (لا نزال نفتقر لقانون ملكية مصدق عليه من دوما الدولة، وهذا ما يؤدي لإبتعاد المشترين المحتملين."

ان رفع الحواجز القانونية لملكية الارض لم تحل في الواقع مسألة ليست بالقانونية فقط وذلك فبالإضافة لغموض القانون وشروط تطبيقه، هناك معارضة قطاعات بأكملها من الادارة. ففي المدن إستملكت البلديات الارض وذلك كي يكون تحكمها بالأرض وسيلة للضغط على الشركات. وفي المناطق الريفية، فان إدارة الكولخوزات والشركات الزراعية - الغذائية بالإضافة الى السلطات المحلية لا توافق بصورة عامة على خصخصة الارض وذلك لاعتقاد هذه الاقسام من الإدارة بأن ما ستخسره اكثر مما ستربحه.

هناك عقبة اخرى مهمة : غياب الزبائن القادرين على الدفع كما هو حال منشئة ريفية خاصة مربحة، مع بعض الاستثناءات. اما بخصوص نظام التخزين وتوزيع المواد الغذائية المصمم للزراعة الجماعية، فانه غير ملائم للفلاحين فرديا حيث لازالوا هامشيين. ولهذا وبسبب انتفاعهم من خلال تسويق مربح، فان السلطات فضلت استيراد المواد الغذائية. ان ذلك كان يقيد المجال الاقتصادي حيث كانت هناك إمكانية تطوير قطاع فلاحي خاص. وبعد عام 1998، فان القطاع الزراعي المؤمم استطاع الاستفادة من توقف شبه كامل للاستيراد الغذائي وذلك لأنه الوحيد الذي يمكنه ضمان تموين البلاد.

فعلى الرغم من التغير القانوني، فان ملكية الارض لاتزال بعيدة عن العمل على أساس القطاع الخاص.